التفاسير

< >
عرض

ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ
١
ٱلَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ
٢
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ
٣
كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي ٱلْحُطَمَةِ
٤
وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ
٥
نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ
٦
ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ
٧
إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ
٨
فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ
٩
-الهمزة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الويل: لفظ يدل على الذم وعلى طلب العذاب والهلكة.. وقيل: اسم لواد فى جهنم.
والهُمَزة من الهَمْز، بمعنى الطعن فى أعراض الناس، ورميهم بما يؤذيهم..
واللُّمَزة من اللمز، بمعنى السخرية من الغير، عن طريق الإِشارة باليد أو العين أو غيرهما.
قال الجمل: الهمزة واللمزة: هم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة الباغون العيب للبرئ، فعلى هذا هما بمعنى واحد.
وقيل: الهمزة الذى يعيبك فى الغيب، واللمزة الذى يعيبك فى الوجه وقيل: العكس.
وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى أصل واحد، وهو الطعن وإظهار العيب، ويدخل فى ذلك من يحاكى الناس فى أقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منه..
ولفظ "ويل" مبتدأ وساغ الابتداء مع كونه نكرة، لأنه دعاء عليهم، وقوله: { لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } خبره، وهمزة ولمزة وصفان لموصوف محذوف.
أى: عذاب شديد، وخزى عظيم، لكل من يطعن فى أعراض الناس، ويغض من شأنهم، ويحقر أعمالهم وصفاتهم، وينسب إليهم ما هم برآء منه من عيوب.
والتعبير بقوله: { هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } يدل على أن تلك الصفات القبيحة، كانت عادة متأصلة فيهم، لأن اللفظ الذى بزنة فُعَلَة - بضم الفاء وفتح العين - يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به ديدنه ودأبه الإِتيان بهذا الوصف، ومنه قولهم: فلان ضُحَكة: إذا كان يكثر من الضحك.
كما أن لفظ "فُعْلَة" - بضم الفاء وسكون العين - يؤتى به للدلالة على أن الموصوف به، يكثر أن يفعل به ذلك، ومنه قولهم: فلان ضُحْكة، إذا كان الناس يكثرون الضحك منه.
وقوله - سبحانه -: { ٱلَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } زيادة تشنيع وتقبيح للهمزة اللمزة..
ومعنى "عدده": جعله عدته وذخيرته، وأكثر من عده وإحصائه لحرصه عليه، والجملة الكريمة فى محل نصب على الذم.
أى: عذاب وهلاك لكل إنسان مكثر من الطعن فى أعراض الناس، ومن صفاته الذميمة أنه فعل ذلك بسبب أنه جمع مالا كثيرا، وأنفق الأوقات الطويلة فى عده مرة بعد أخرى، حبا له وشغفا به وتوهما منه أن هذا المال الكثير هو مناط التفاضل بين الناس.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائى "جمَّع" - بتشديد الميم - وهو مبالغة فى { جمع } بتخفيف الميم.
وقوله - تعالى -: { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ }، صفة أخرى من صفاته القبيحة، والجملة يصح أن تكون مستأنفة استنئافا بيانيا، جوابا لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما باله يجمع المال ويهتم به؟ فكان الجواب: يحسب أن ماله أخلده.
ويصح أن تكون حالا من فاعل "جمع" أى: هذا الجاهل المغرور جمع المال وعدده، حالة كونه يظن أن ماله يخلده فى الدنيا، ويجعله فى مأمن من حوادث الدهر.
قال الأستاذ الإِمام محمد عبده: أى أن الذى يحمل هذا الهمزة اللمزة على الحط من أقدار الناس، هو جمعه المال وتعديده.. فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة، بحيث يكون كل ذ فضل ومزية دونه.. ويظن أن ما عنده من المال، قد حفظ له حياته التى هو فيها، وأرصدها عليه، فهو لا يفارقها إلى حياة أخرى، يعاقب فيها على ما كسب من سيئ الأعمال..
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك سوء عاقبة هذا الجاهل المغرور فقال: { كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي ٱلْحُطَمَةِ. وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ }.
و "كلا" حرف زجر وردع، والمراد به هنا إبطال ما توهمه هذا المغرور من حسبانه أن ماله سيخلده. والنبذ: الطرح للشئ والإِلقاء به مع التحقير والتصغير من شأنه.
والحُطَمة من الحَطْم، وهو كسر الشئ بشدة وقوة، ويقال: رجل حطمة، إذا كان شديداً فى تحطيمه وكسره لغيره، والمراد بالحطمة هنا: النار الشديدة الاشتعال: التى لا تبقى على شئ إلا وأحرقته.
أى: كلا ليس الأمر كما زعم هذا الهمزة واللمزة، من أن ماله سيخلده، بل الحق أنه والله ليطرحن بسبب أفعاله القبيحة فى النار التى تحطم كل شئ يلقى فيها، والتى لا يعرف مقدار شدتها واشتعالها إلا الله - تعالى -.
فالمقصود بالاستفهام فى قوله - تعالى -: { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَة } تهويل أمر هذه النار، وتفظيع شأنها، وبيان أن كنهها لا تدركه عقول البشر..
وقوله - سبحانه - { نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ } بيان للحطمة وتفصيل لأمرها بعد إبهامها.
أى: الحطمة هى نار الله - تعالى - الشديدة الإِحراق، وأضيفت إلى الله - تعالى لزيادة الترويع والتخويف منها، لأن خالقها - عز وجل - هو الذى لا يعجزه شئ.
وقوله - تعالى -: { ٱلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى ٱلأَفْئِدَةِ } صفة أخرى من صفات هذه النار، وقوله: { تَطَّلِعُ } من الاطلاع، بمعنى الوصول إلى الشئ بسرعة، والكشف عن خباياه، والنفاذ إلى منتهاه.
أى: سيلقى بهذا الشقى فى نار الله - تعالى - الموقدة، التى تصل إلى أعماق الأفئدة والقلوب، فتحيط بها، وتنفذ إليها، فتحرقها إحراقا تاما.
وخصت الأفئدة التى هى القلوب بالذكر، لأنها ألطف ما فى الأبدان وأشدها تألما بأدنى أذى يصيبها، أو لأنها محل العقائد الزائفة، والنيات الخبيثة، ومنشأ الأعمال السيئة، التى استحق هذا الهمزة اللمزة بسببها العقاب الشديد.
ثم وصف - سبحانه - هذه النار بصفة ثالثة فقال: { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } أى: إن هذه النار من صفاتها - أيضا - أنها مطبقة ومغلقة عليهم بحيث لا يستطيعون الخروج منها، فقوله { مُّؤْصَدَةٌ } اسم مفعول من قولك أوصدت الباب، إذا أغلقته بشدة، بحيث لا يستطاع الخروج منه..
وقوله - تعالى -: { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } صفة رابعة من صفات هذه النار الشديدة الاشتعال.
وقوله { عَمَدٍ } - بفتحتين - جمع عمود كأديم وأَدَم، وقيل: جمع عماد، وقيل: هو اسم جمع لعمود، وليس جمعا له، والمراد بها: الأوتاد التى تشد بها أبواب النار.
وقرأ بعض القراء السبعة: فى عُمُد بضمتين جمع عمود كسرير وسرر.
والممددة: الطويلة الممدودة من أول الباب إلى آخره.
أى: أن هذه النار مغلقة عليهم بأبواب محكمة، هذه الأبواب قد شدت بأوتاد من حديد، تمتد هذه الأوتاد من أول الأبواب إلى آخرها. بحيث لا يستطيع من بداخلها الفكاك منها.
وبذلك نرى السورة الكريمة قد توعدت هؤلاء المغرورين الجاهلين، الطاعنين فى أعراض الناس.. بأشد ألوان العقاب، وأكثره إهانة وخزيا لمن ينزل به.
نسأل الله - تعالى - أن يعيذنا من ذلك.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.