التفاسير

< >
عرض

لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ
١
إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ
٢
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ
٣
ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
٤
-قريش

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الإِيلاف: مصدر آلفت الشئ إيلافا و "إلفا" إذا لزمته وتعودت عليه. وتقول: آلفت فلانا الشئ، إذا ألزمته إياه. والإِيلاف - أيضا - اجتماع الشمل مع الالتئام، ومنه قوله - تعالى - { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً... } ولفظ "إيلاف" مضاف لمفعوله وهو قريش، والفاعل هو الله - تعالى - : و "قريش" هم ولد النضر بن كنانه - على الأرجح - وهو الجد الثالث عشر للنبى صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبى ما ملخصه: وأما قريش فهم بنو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس، بن مضر، فكل من كان من ولد النضر فهو قرشى.
وسموا قريشا، لتجمعهم بعد التفرق، إذ التقرش: التجمع والالتئام.. أو سموا بذلك لأنهم كانوا تجارا يأكلون من مكاسبهم، والتقرش: التكسب، ويقال: قرَشَ فلان يقرُشُ قَرْشا - كقتل -، إذا كسب المال وجمعه..
وقوله: { إِيلاَفِهِمْ } بدل أو عطف بيان من قوله { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }، وهو من أسلوب الإِجمال فالتفصيل للعناية بالخبر، ليتمكن فى ذهن السامع كما فى قوله - تعالى -:
{ لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ. أَسْبَابَ ٱلسَّمَاوَاتِ... } واللام فى قوله - تعالى -: { لإِيلاَفِ... } للتعليل. والجار والمجرور متعلق بقوله - تعالى -: { فَلْيَعْبُدُواْ... }. وتقدير الكلام: من الواجب على أهل مكة أن يخلصوا العبادة لله - تعالى - لأنه - سبحانه - هو الذى جمعهم بعد تفرق، وألف بينهم، وهيأ لهم رحلتين فيهما ما فيهما من النفع والأمن.
وزيدت الفاء فى قوله - تعالى -: { فَلْيَعْبُدُواْ... } لما فى الكلام من معنى الشرط، فكأنه - سبحانه - يقول لهم: إن لم تعبدونى من أجل نعمى التى لا تحصى، فاعبدونى من أجل أنى جعلتكم تألفون هاتين الرحلتين النافعتين فى أمان واطمئنان، وأنى جمعت شملكم، وألفت بينكم..
قال صاحب الكشاف: "لإِيلاف قريش" متعلق بقوله: { فَلْيَعْبُدُواْ } أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحتلين.
فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟ قلت: لما فى الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإِيلافهم. على معنى أن نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه الواحدة التى هى نعمة ظاهرة.
وقيل المعنى: اعجبوا لإِيلاف قريش. وقيل هو متعلق بما قبله - فى السورة السابقة - أى: فجعلهم كعصف مأكول. لإِيلاف قريش، وهذا بمنزلة التضمين فى الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذى قبله..
وقوله - سبحانه -: { رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ } بيان لمظهر من مظاهر هذا الإِيلاف الذى منحه - سبحانه - لهم، والرحلة هنا: اسم لارتحال القوم من مكان إلى آخر، ولفظ "رحلة" منصوب على أنه مفعول به لقوله { إِيلاَفِهِمْ } ..
والمراد بهذه الرحلة: ارتحالهم فى الشتاء إلى بلاد اليمن، وفى الصيف إلى بلاد الشام، من أجل التجارة، واجتلاب الربح. واستدرار الرزق، والاستكثار من القوت واللباس وما يشبههما من مطالب الحياة.
وقيل: المراد برحلة الشتاء والصيف: رحلة الناس إليهم فى الشتاء والصيف للحج والعمرة، فقد كان الناس يأتون إلى مكة فى الشتاء والصيف لهذه الاغراض، فيجد أهل مكة من وراء ذلك الخير والنفع، كما قال - تعالى -:
{ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ } وبعد أن ذكرهم - سبحانه - بنعمه أمرهم بشكره، فقال: { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ... }. أى: إن كان الأمر كما ذكرنا لهم، فليخلصوا العبادة لله - تعالى - الذى حمى لهم البيت الحرام، والكعبة المشرفة، ممن أرادهما بسوء..
{ ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ } أى: الذى وسع لهم الرزق، ومهد لهم سبيله، عن طريق الوفود التى تأتى إليهم من مشارق الأرض ومغاربها.
{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } أى: والذى أوجد لهم الأمن بعد الخوف، والسعة بعد الضيق، ببركة هذا البيت الحرام.
وتنكير "جوع" و "خوف" للتعظيم، أى: أطعمهم بدلا من جوع شديد، وآمنهم بدلا من خوف عظيم، كانوا معرضين لهما، وذلك كله من فضله - سبحانه - عليهم، ومن رحمته بهم، حيث أتم عليهم نعمتين بهما تكمل السعادة، ويجتمع السرور.
ومن الآيات التى تشبه هذه الآية قوله - تعالى -:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ... } وقوله - سبحانه -: { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً... } وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.