التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ
١٠٠
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
١٠١
وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
١٠٢
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: ذلك الذى قصصناه عليك - أيها الرسول الكريم - فى هذه السورة الكريمة، وهو جزء { مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ } المهلكة.
ونحن نقصه عليك، فى هذا القرآن عن طريق وحينا الصادق، ليعتبر به الناس، وليعلموا أن هذا القرآن المشتمل على هذا القصص الذى لا علم لهم به من عند الله.
وافتتح - سبحانه - الكلام باسم الإِشارة المفيد للبعد، للتنويه بشأن هذه الأنباء التى سبق الحديث عنها، وللإِشعار بأنها أنباء هامة فيها الكثير من العظات والعبر لقوم يعقلون.
والضمير فى قوله: منها قائم وحصيد، يعود إلى تلك القرى المهلكة، والجملة مستأنفة للتحريض على النظر والاعتبار، فكأن سائلا سأل ما حال هذه القرى الباقية آثارها أم عفى عليها الزمن؟ فكان الجواب: منها قائم وحصيد.
أى: من هذه القرى المهلكة ما آثارها قائمة يراها الناظر إليها، كآثار قوم ثمود.
ومنها ما أثارها عفت وزالت وانطمست وصارت كالزرع المحصود الذى استؤصل بقطعه، فلم تبق منه باقية، كديار قوم نوح.
ففى هذه الجملة الكريمة تشبيه بليغ، حيث شبه - سبحانه - القرى التى بعض آثارها ما زال باقيا بالزرع القائم على ساقه، وشبه ما زال منها واندثر بالزرع المحصود.
وحصيد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه، أى منها قائم ومنها حصيد.
وقوله - سبحانه - { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ.. } بيان لمظاهر عدله فى قضائه وأحكامه.
والضمير المنصوب فى { ظَلَمْنَاهُمْ } يعود إلى أهل هذه القرى، لأنهم هم المقصودون بالحديث.
أى: وما ظلمنا أهل هذه القرى بإهلاكنا إياهم، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، بسبب إصرارهم على الكفر، وجحودهم للحق، واستهزائهم بالرسل الذين جاءوا لهدايتهم...
ثم بين - سبحانه - موقف آلهتهم المخزى منهم فقال: { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ.. }.
أى: أن هؤلاء المهلكين عندما نزل بهم العذاب، لم تنفعهم أصنامهم التى كانوا يعبدونها من دون الله شيئا من النفع... بل هى لم تنفع نفسها فقد اندثرت معهم كما اندثروا.
والفاء فى قوله - سبحانه - { فَمَا أَغْنَتْ } للتفريع على ظلمهم لأنفسهم، لأن اعتمادهم على شفاعة الأصنام، وعلى دفاعها عنهم... من مظاهر جهلهم وغبائهم وظلمهم لأنفسهم.
و { من } فى قوله: { مِن شَيْءٍ } لتأكيد انتفاء النفع والإِغناء: أى: لم تغن عنهم شيئا ولو قليلا من الإِغناء؛ ولم تنفعهم لا فى قليل ولا كثير...
وجملة { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } تأكيد لنفى النفع، وإثبات للضر والخسران.
والتتبيب: مصدر تب بمعنى خسر، وتبب فلان فلانا إذا أوقعه فى الخسران.
ومنه قوله - تعالى -
{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } أى: هلكتا وخسرتا كما قد هلك وخسر هو.
أى: وما زادتهم أصنامهم التى كانوا يعتمدون عليها فى دفع الضر سوى الخسران والهلاك.
قال الإِمام الرازى: والمعنى: "أن الكفار كانوا يعتقدون فى الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار، ثم إنه - تعالى - أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين، ما وجدوا منها شيئا لا جلب نفع ولا دفع ضر، ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده، وهو أن ذلك الاعتقاد زالت عنهم به منافع الدنيا والآخرة، وجلب لهم مضارهما، فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران".
ثم بين - سبحانه - سنته فى عقاب الظالمين فى كل زمان ومكان فقال: { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ... }
والكاف فى { وكذلك } بمعنى مثل، والمراد بالقرى: أهلها الظالمون.
والأخذ: هو العقاب المباغت السريع: يقال أخذ فلان الموت، إذا نزل به بسرعة وقوة.
أى: ومثل ذلك الأخذ والإِهلاك للظالمين السابقين، يكون أخذ ربك وعقابه لكل ظالم يأتى بعدهم وينهج نهجهم.
وجملة، وهى ظالمة، فى موضع الحال من القرى، وفائدة هذه الحال الإِشعار بأن عقابهم كان بسبب ظلمهم، وفى ذلك ما فيه من التحذير لكل ظالم لا يبادر بالإِقلاع عن ظلمه قبل فوت الآوان.
والمراد بالظلم ما يشمل الكفر وغيره من الجرائم والمعاصى التى نهى الله عنها، كالكذب وشهادة الزور، وأكل أموال الناس بالباطل.
وقوله: { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } زيادة فى التحذير من الوقوع فى الظلم.
أى: إن أخذه - سبحانه - للظالمين عظيم إيلامه، شديد وقعه، لا هوادة فيه، ولا مخلص منه.
روى الشيخان عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }" .
ثم بين - سبحانه - أن ما ساقه فى هذه القرآن عن أحوال السابقين فيه العبرة لمن اعتبر، وفيه العظة لمن خاف عذاب الآخرة الذى ينقسم الناس فيه إلى شقى وسعيد، فقال - تعالى -:
{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ... }