التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٨
ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
١٩
أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ
٢٠
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢١
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ
٢٢
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢٣
مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٢٤
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة، وطرق مختلفة فمنها شدة حرصهم على الدنيا، ورغبتهم فى تحصيلها، وقد أبطل الله - تعالى - هذه الطريقة بقوله: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... } إلى آخر الآية. ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقدحون فى معجزاته وقد أبطل الله - تعالى - ذلك بقوله { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ... } ومنها أنهم كانوا يزعمون فى الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله، وقد أبطل الله - تعالى - ذلك بهذه الآيات وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله..."
وجملة { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً... } معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك
{ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ ٱلأَحْزَابِ فَٱلنَّارُ مَوْعِدُهُ } والاستفهام للإِنكار والنفى، والتقدير: لا أحد أشد ظلما ممن تعمد الكذب على الله - تعالى - بأن زعم بأن الأصنام تشفع لعابديها عنده، أو زعم بأن الملائكة بنات الله، أو أن هذا القرآن ليس من عنده - سبحانه -.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } بيان لما يقال لهؤلاء الظالمين على سبيل التشهير والتوبيخ يوم القيامة والأشهاد: جمع شهيد كشريف وأشراف. أو جمع شاهد بمعنى حاضر كصاحب وأصحاب والمراد بهم - على الراجح - جميع أهل الموقف من الملائكة الذين كانوا يسجلون عليهم أقوالهم وأعمالهم، ومن الأنبياء والمؤمنين.
والمعنى: أولئك الموصوفون بافتراء الكذب على الله - تعالى - يعرضون يوم الحساب، على ربهم ومالك أمرهم، كما يعرض المجرم للقصاص منه، ولفضيحته أمام الناس.
{ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ } الذين يشهدون عليهم بأنهم قد افتروا الكذب على الله { هَـٰؤُلاۤءِ } المجرمون هم { ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ } بأن نسبوا إليه ما هو منزه عنه.
{ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } الذين وضعوا الأمور فى غير مواضعها، فأوردوا أنفسهم المهالك".
وجئ باسم الإِشارة { هَـٰؤُلاۤء } زيادة فى التشنيع عليهم، وفى تمييزهم عن غيرهم وصدرت جملة { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } بأداة الاستفتاح { أَلاَ } لتأكيد الدعاء عليهم بالطرد والإِبعاد عن رحمة الله - تعالى - بسبب افترائهم الكذب.
والظاهر أن هذه الجملة من كلام الأشهاد ويؤيد ذلك ما أخرجه الشيخان عن صفوان بن محرز قال:
"كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فى النجوى يوم القيامة؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله - عز وجل - يدنى المؤمن فيضع عليه كنفه - أى ستره وعفوه - ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى فى نفسه أنه قد هلك قال: فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا وإنى أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ }" .
ويجوز أن تكون هذه الجملة من كلام الله - تعالى - على سبيل الاستئناف بعد أن قال الأشهاد { هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ }.
ثم بين - سبحانه - جانبا آخر من أفعالهم الشنيعة فقال: { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً... }
و { يَصُدُّونَ } من صد بمعنى صرف الغير عن الشئ ومنعه منه. يقال صد يصد صدودا وصدا.
و { سَبِيلِ ٱللَّهِ } طريقة الموصولة إلى رضائه. والمراد بها ملة الإِسلام.
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أى يطلبون لها العوج، يقال: بغيت لفلان كذا إذا طلبته له.
والعوج - بكسر العين - الميل والزيغ فى الدين والقول والعمل. وكل ما خرج عن طريق الهدى إلى طريق الضلال فهو عوج.
والعوج - بفتح العين - يكون فى المحسوسات كالميل فى الحائط والرمح وما يشبههما. أى أن مكسور العين يكون فى المعانى ومفتوحها يكون فى المحس.
والمعنى: ألا لعنة الله وخزيه على الظالمين الذين من صفاتهم أنهم لا يكتفون بانصرافهم عن الحق بل يحاولون صرف غيرهم عنه ويطلبون لملة الإِسلام العوج ويصفونها بذلك تنفيرا للناس منها، وقوله عوجا مفعول ثان ليبغون، أو حال من سبيل الله.
وقوله { وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } بيان لعقيدتهم الباطلة فى شأن البعث والحساب. أى: وهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب كافرون.
وكرر الضمير { هم } لتأكيد كفرهم وللإِشارة إلى أنهم بلغوا فيه مبلغا لم يبلغه أحد سواهم حتى لكأن كفر غيرهم يسير بالنسبة لكفرهم.
ثم بين - سبحانه - أنه كان قادرا على تعذيبهم فى الدنيا قبل الآخرة ولكنه أخر عذابهم إملاء لهم فقال: { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ... }.
وقوله: معجزين من الإِعجاز بمعنى عدم المقدرة على الشئ.
أى: أولئك الذين افتروا على الله الكذب لم يكن - سبحانه - عاجزا عن إنزال العذاب الشديد بهم فى الدنيا. وما كان لهم من غيره من نصراء ينصرونهم من بأسه لو أراد إهلاكهم.
قال الإِمام الرازى: قال الواحدى: معنى الإِعجاز المنع من تحصيل المراد، يقال أعجزنى فلان. أى: منعنى عن مرادى..
والمقصود أن قوله { أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } دل على أنه لا قدرة لهم على الفرار.
وقوله: { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } دل على أن أحدا لا يقدر على تخليصهم من عذابه. فجمع - سبحانه - بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم، ووضح بذلك انقطاع حيلهم فى الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة".
وقوله: { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } جملة مستأنفة لبيان أن من حكمة تأخير العذاب عنهم فى الدنيا مضاعفة العذاب لهم فى الآخرة.
وقوله: { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } تصوير بليغ لاستحواذ الشيطان عليهم.
أى أن هؤلاء المجرمين بلغ بهم الجهل والعناد والجحود أنهم ما كانوا يستطيعون السماع للحق الذى جاءهم من ربهم لثقله على نفوسهم الفاسدة، وما كانوا يبصرون المعجزات الدالة على صدق نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
فليس المراد نفى السماع والإِبصار الحسيين عنهم وإنما المراد أنهم لانطماس بصائرهم صاروا كمن لا يسمع ولا يرى.
ثم أكد - سبحانه - سوء مصيرهم فقال: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
أى: أولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، هم الذين خسروا أنفسهم وأوردوها المهالك بسبب تعمدهم الكذب على الله، { وَضَلَّ عَنْهُمْ } أى: وغاب عنهم ما كانوا يفترونه فى الدنيا من اعتقادات باطلة وادعاءات فاسدة.
وقوله { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } زيادة فى تأكيد خسرانهم.
وكلمة { لاَ جَرَمَ } وردت فى القرآن الكريم فى خمسة مواضع. وفى كل موضع جاءت متلوة بأن واسمها.
وجمهور النحاة على أن هذه الكلمة مركبة من "لا" و "جرم" تركيب خمسة عشر ومعناها بعد هذا التركيب معنى الفعل: حق أو ثبت، والجملة بعدها هى الفاعل لهذا الفعل.
أى: وثبت كونهم فى الآخرة هم الأخسرون.
ومن النحاة من يرى أن "لا" نافية للجنس و "جرم" اسمها وما بعدها خبرها.
والمعنى. لا محالة ولا شك فى أنهم فى الآخرة هم الأخسرون.
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين بعد بيان سوء عاقبة الكافرين فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
قال الجمل: والإِخبات فى اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب. ولفظ الإِخبات يتعدى بإلى وباللام. فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه. وإذا قلت أخبت له فمعناه: خشع وخضع له. فقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } إشارة إلى جميع أعمال الجوارح. وقوله: { وَأَخْبَتُوۤاْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ } إشارة إلى أعمال القلوب وهى الخشوع والخضوع لله - تعالى -.
والمعنى: إن الذين آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا وعملوا الأعمال الصالحات التى ترضيه - سبحانه - واطمأنوا إلى قضاء ربهم وخشعوا له أولئك الموصوفون بذلك هم أصحاب الجنة وهم الخالدون فيها خلودا أبديا وهم الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه.
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لفريق الكافرين ولفريق المؤمنين فقال: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ }.
وقوله: { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ... } أى: حالهم وصفتهم.
وأصل المثل بمعنى المثل. والمثل: النظير والشبيه ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه - لمورده - أى الذى ورد فيه أولا.
ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة.
وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفى، وتقريب المعقول من المحسوس وعرض الغائب فى صورة الشاهد. فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب وأثبت فى النفوس.
والمعنى: حال الفريقين المذكورين قبل ذلك وهما الكافرون والمؤمنون كحال الضدين المختلفين كل الاختلاف.
أما الكافرون فحالهم وصفتهم كحال وصفة من جمع بين العمى والصمم. لأنهم مع كونهم يرون ويسمعون لكنهم لم ينتفعوا بذلك فصاروا كالفاقد لهما.
وأما المؤمنون فحالهم وصفتهم كحال وصفة من جمع بين البصر السليم والسمع الواعى لأنهم انتفعوا بما رأوا من دلائل تدل على وحدانية الله وقدرته وبما سمعوا من توجيهات تدل على صحة تعاليم الإِسلام.
والمقصود من هذا التمثيل. تنبيه الكافرين إلى ما هم عليه من ضلال وجهالة لعلهم بهذا التنبيه يتداركون أمرهم، فيدخلون فى دين الإِسلام وتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من حق، وبذلك يزدادون إيمانا على إيمانهم.
والاستفهام فى قوله { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } للإِنكار والنفى، أى: هل يستوى فى الصفة والحال من كان ذا سمع وبصر بمن فقدهما؟ كلا إنهما لا يستويان حتى عند أقل العقلاء عقلا.
وقوله: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } حض على التذكر والتدبر والتفكر.
أى: أتشكون فى عدم استواء الفريقين؟ لا إن الشك فى عدم استوائهما لا يليق بعاقل وإنما اللائق به هو اعتقاد تباين صفتيهما والدخول فى صفوف المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحات وأخبتوا إلى ربهم.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت حال الكافرين وذكرت من أوصافهم أربعة عشر وصفا أولهما: افتراء الكذب... وآخرها: الخسران فى الآخرة. كما بينت حال المؤمنين وبشرتهم بالخلود فى الجنة: ثم ضربت مثلا لكل فريق وشبهت حاله بما يناسبه من صفات..
وفى ذلك ما فيه من الهداية إلى الطريق المستقيم، لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله ووحدانيته وعن إعجاز القرآن الكريم وعن حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين ساقت السورة الكريمة بترتيب حكيم قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم وقد استغرق هذا القصص معظم الآيات الباقية فيها فقد حدثتنا عن قصة نوح مع قومه وعن قصة هود مع قومه، وعن قصة صالح مع قومه، وعن قصة لوط مع قومه، وعن قصة شعيب مع قومه، كما تحدثت عن قصة إبراهيم مع رسل الله الذين جاءوه بالبشرى، وعن جانب من قصة موسى مع فرعون.
قال الإِمام الرازى: إعلم أنه - تعالى - لما ذكر فى تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة، وبينات قاهرة، وبراهين باهرة، أتبعها بذكر قصص الأنبياء وفيه فوائد:
أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم النبى - صلى الله عليه وسلم -، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة فى جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت. فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم وعنادهم يفيد تسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - وتخفيف ذلك على قلبه.
وثانيها: أنه - تعالى - يحكى فى هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن فى الدنيا والخسارة فى الآخرة. وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة فى الدنيا والسعادة فى الآخرة، وذلك يقوى قلوب المحقين، ويكسر قلوب المبطلين.
وثالثها: التنبيه على أنه - تعالى - وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، ولكنه لا يهملهم، بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه.
ورابعها: بيان أن هذه القصص دالة على نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أميا، وما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ، فإذا ذكر هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ، دل ذلك على أنه إنما عرفه بالوحى من الله - تعالى -.
وقد بدأت السورة الكريمة قصصها بقصة نوح مع قومه، وقد وردت هذه القصة فى سور متعددة منها سورة الأعراف، وسورة المؤمنون، وسورة نوح... إلا أنها وردت هنا بصورة أكثر تفصيلا من غيرها.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ... }.