التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٣٢
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ
٣٣
وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٣٤
-هود

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: قال قوم نوح - عليه السلام - له بعد أن غلبهم بحجته، وعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم: { يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا... }
أى: خاصمتنا ونازعتنا فأكثرت فى ذلك حتى لم تترك لنا منفذا للرد عليك، والجدال: هو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة. وأصله - كما يقول الآلوسى - من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، ومنه الجديل - أى الحبل المفتول - وجدلت البناء: أحكمته، والأجدل: الصقر المحكم البنية، والمجدل - كمنبر القصر المحكم البناء...
وسميت المنازعة فى الرأى جدالا، لأن كل واحد من المتجادلين كأنما، يفتل الآخر عن رأيه - أى بصرفه عنه - ...
وقيل: الأصل فى الجدال الصراع، وإسقاط الإِنسان صاحبه على الجدالة - بفتح الجيم - أى: الأرض الصلبة".
ثم أضافوا إلى هذا العجز عن مجابهة الحجة سفاهة فى القول فقالوا: { فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ }.
أى: لقد سئمنا مجادلتك لنا ومللناها، فأتنا بالعذاب الذى تتوعدنا به، إن كنت من الصادقين فى دعواك النبوة، وفى وعيدك لنا بعقاب الله، فإننا مصرون على عبادة آلهتنا، وكارهون لما تدعونا إليه.
وهذا شأن الجاهل المعاند، إنه بشهر السيف إذا أعجزته الحجة، ويعلن التحدى إذا يئس عن مواجهة الحق...
ولكن نوحا - عليه السلام - لم يخرجه هذا التحدى عن سمته الكريم، ولم يعقده عناد قومه عن مداومة النصح لهم، وإرشادهم إلى الحقيقة التى ضلوا عنها، فقد رد عليهم بقوله { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ }.
أى: إنما يأتيكم بهذا العذاب الذى تستعجلونه الله - تعالى - وحده، إن شاء ذلك، لأنه هو الذى يملكه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أى: وما أنتم بمستطيعين الهروب من عذابه متى اقتضت مشيئته - سبحانه - إنزاله لكم، لأنه - تعالى - لا يعجزه شئ.
ثم أضاف إلى هذا الاعتراف بقدرة الله - تعالى - اعترافا آخر بشمول إرادته فقال: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ }.
والنصح معناه: تحرى الصلاح والخير للمنصوح مع إخلاص النية من شوائب الرياء.
يقال: نصحته ونصحت له... أى: أرشدته إلى ما فيه صلاحه.
ويقال: رجل ناصح الجيب إذا كان نقى القلب طاهر السريرة. والناصح الخالص من كل شئ.
أى: إنى قد دعوتكم إلى طاعة الله ليلا ونهارا، ولم أقصر معكم فى النصيحة ومع ذلك فإن نصحى الدائم لن يفيدكم شيئا، ما دامت قلوبكم فى عمى عنه، وأسماعكم فى صمم منه، ونفوسكم على غير استعداد له.
وجواب الشرط فى قوله { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وقوله: { إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }: زيادة تأكيد منه - عليه السلام - لعموم قدرة الله وإرادته.
أى: إن كان الله - تعالى - يريد أن يضلكم عن طريق الحق، ويصرفكم عن الدخول فيه، بسبب إصراركم على الجحود والعناد، فعل ذلك، لأنه هو ربكم ومالك أمركم، وإليه وحده ترجعون يوم القيامة، ليجازيكم الجزاء الذى تستحقونه.
وهكذا نجد نوحا - عليه السلام - قد سلك فى دعوته إلى الله، أحكم السبل، واستعمل أبلغ الأساليب، وصبر على سفاهة قومه صبرا جميلا.
وعند هذا الحد من قصة نوح مع قومه، تنتقل السورة الكريمة انتقالا سريعا بقارئها إلى الحديث عن مشركى مكة، الذين أنكروا أن يكون القرآن من عند الله، ووقفوا من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - موقفا يشبه موقف قوم نوح منه - عليه السلام - فترد عليهم بقوله - تعالى -:
{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ... }.