التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّيۤ أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٦٩
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ
٧٠
قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ
٧١
قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ
٧٢
قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ
٧٣
قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ
٧٤
قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ
٧٥
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
٧٦
قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ
٧٧
قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٧٨
قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ
٧٩
فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ
٨٠
ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ
٨١
وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا وَٱلْعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٨٢
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىۤ إِلَيْهِ أَخَاهُ... } شروع فى بيان ما دار بين يوسف - عليه السلام - وبين شقيقه "بنيامين" بعد أن حضر مع إخوته.
وقوله { آوى } من الإِيواء بمعنى الضم. يقال: آوى فلان فلاناً إذا ضمه إلى نفسه، ويقال: تأوت الطير وتآوت، إذا تضامت وتجمعت.
وقوله { فَلاَ تَبْتَئِسْ }: افتعال من البؤس وهو الشدة والضر. يقال بَئِس - كسَمِع - فلان بؤساً وبئوساً، إذا اشتد حزنه وهمه.
والمعنى: وحين دخل إخوة يوسف عليه، ما كان منه إلا أن ضم إليه شقيقه وقال له مطمئناً ومواسياً: إنى أنا أخوك الشقيق. فلا تحزن بسبب ما فعله إخوتنا معنا من الحسد والأذى، فإن الله - تعالى - قد عوض صبرنا خيراً، وأعطانا الكثير من خيره وإحسانه.
قال الإِمام ابن كثير: يخبر الله - تعالى - عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه "بنيامين" وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته وأفاض عليهم الصلة والإِحسان، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له وقال: { فَلاَ تَبْتَئِسْ } أى: لا تأسف على ما صنعوا بى، وأمره بكتمان هذا عنهم، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرماً معظماً.
ثم بين - سبحانه - ما فعله يوسف - عليه السلام - مع إخوته، لكى يبقى أخاه معه فلا يسافر معهم عند رحيلهم فقال: { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ... } والجهاز كما سبق أن بينا: ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع..
والسقاية: إناء كان الملك يشرب فيه، وعادة ما يكون من معدن نفيس ولقد كان يوسف - عليه السلام - يكتال به فى ذلك الوقت نظراً لقلة الطعام وندرته.
وهذه السقاية هى التى أطلق عليها القرآن بعد ذلك لفظ الصواع أى:
وحين أعطى يوسف إخوته ما هم فى حاجة إليه من زاد وطعام، أوعز إلى بعض فتيانه أن يدسوا الصواع فى متاع أخيه "بنيامين" دون أن يشعر بهم أحد..
وقوله { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } بيان لما قاله بعض أعوان يوسف لإِخوته عندما تهيئوا للسفر، وأوشكوا على الرحيل.
والمراد بالمؤذن هنا: المنادى بصوت مرتفع ليعلم الناس ما يريد إعلامهم به. والمراد بالعير هنا: أصحابها. والأصل فيها أنها اسم للإِبل التى تحمل الطعام وقيل العير تطلق فى الأصل على قافلة الحمير، ثم تجوز فيها فأطلقت على كل قافلة تحمل الزاد وألوان التجارة.
أى: ثم نادى مناد على إخوة يوسف - عليه السلام - وهم يتجهزون للسفر، أو وهم منطلقون إلى بلادهم بقوله: يا أصحاب هذه القافلة توقفوا حتى يفصل فى شأنكم فأنتم متهمون بالسرقة.
قال الآلوسى ما ملخصه: "والذى يظهر أن ما فعله يوسف، من جعله السقاية فى رحل أخيه. ومن اتهامه لإِخوته بالسرقة.. إنما كان بوحى من الله - تعالى - لما علم - سبحانه - فى ذلك من الصلاح، ولما أراد من امتحانهم بذلك. ويؤيده قوله - تعالى - : { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }.
ثم بين - سبحانه - ما قاله إخوة يوسف بعد أن سمعوا المؤذن يستوقفهم ويتهمهم بالسرقة فقال - تعالى - { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ }.
وتفقدون: من الفقد، وهو غيبة الشئ عن الحس بحيث لا يعرف مكانه.
أى: قال إخوة يوسف بدهشة وفزع لمن ناداهم وأخبرهم بأنهم سارقون، قالوا لهم: ماذا تفقدون - أيها الناس - من أشياء حتى اتهمتمونا بأننا سارقون؟!!!
وهنا رد عليهم المؤذن ومن معه من حراس: { قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ } أى: صاعه الذى يشرب فيه، ويكتال به للممتارين.
{ وَلِمَن جَآءَ بِهِ } أى بهذا الصاع، أو دل على سارقه.
{ حِمْلُ بَعِيرٍ } من الطعام زيادة على حقه كمكافأة له.
{ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أى: وأنا بهذا الحمل كفيل بأن أدفعه لمن جاءنا بصواع الملك.
ويبدو أن القائل لهذا القول هو المؤذن السابق، ولعله قد قال ذلك بتوجيه من يوسف - عليه السلام -.
وهنا نجد إخوة يوسف يردون عليهم رداً يدل على استنكارهم لهذه التهمة وعلى تأكدهم من براءتهم فيقولون: { قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ }.
أى: قال إخوة يوسف للمنادى ومن معه الذين اتهموهم بالسرقة: تالله يا قوم، لقد علمتم من حالنا وسلوكنا وأخلاقنا، أننا ما جئنا إلى بلادكم، لكى نفسد فيها أو نرتكب ما لا يليق، وما كنا فى يوم من الأيام ونحن فى أرضكم لنرتكب هذه الجريمة، لأنها تضرنا ولا تنفعنا، حيث إننا فى حاجة إلى التردد على بلادكم لجلب الطعام، والسرقة تحول بيننا وبين ذلك، لأنكم بسببها ستمنعوننا من دخول أرضكم، وهذه خسارة عظيمة بالنسبة لنا.
وهنا يرد عليهم المنادى وأعوانه بقولهم: { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ }.
أى: قال المنادى وأعوانه لإِخوة يوسف الذين نفوا عن أنفسهم تهمة السرقة نفياً تاماً.
إذاً فما جزاء وعقاب هذا السارق لصواع الملك فى شريعتكم، إن وجدنا هذا الصواع فى حوزتكم، وكنتم كاذبين فى دعواكم أنكم ما كنتم سارقين.
فرد عليهم إخوة يوسف ببيان حكم هذا السارق فى شريعتهم بقولهم: { قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ }.
والمراد بالجزاء: العقاب الذى يعاقب به السارق فى شريعتهم، والضمير فى قوله { جزاؤه } يعود إلى السارق.
أى: قال إخوة يوسف: جزاء السارق الذى يوجد صواع الملك فى رحله ومتاعه أن يسترق لمدة سنة، هذا هو جزاؤه فى شريعتنا.
قال الشوكانى ما ملخصه: وقوله: { جزاؤه } مبتدأ، وقوله { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبر المبتدأ.
والتقدير: جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد فى رحله - أى استرقاقه لمدة سنة -، وتكون جملة { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } لتأكيد الجملة الأولى وتقريرها. قال الزجاج وقوله { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } زيادة فى البيان. "أى: جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غيره".
وقالوا { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } ولم يقولوا جزاء السارق أو جزاء سرقته، للإِشارة إلى كمال نزاهتهم، وبراءة ساحتهم من السرقة، حتى لكأن ألسنتهم لا تطاوعهم بأن ينطقوا بها فى هذا المقام.
وقوله: { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } مؤكد لما قبله، أى مثل هذا الجزاء العادل، وهو الاسترقاق لمدة سنة، نجازى الظالمين الذين يعتدون على أموال غيرهم.
وقوله - سبحانه - { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } معطوف على كلام محذوف يفهم من المقام.
والتقدير: وبعد هذه المحاورة التى دارت بين إخوة يوسف وبين الذين اتهموهم بالسرقة أخبر الإِخوة بتفتيش أمتعتهم للبحث عن الصوَّاع بداخلها.
"فبدأ" المؤذن بتفتيش أوعيتهم، قبل أن يفتش وعاء "بنيامين" فلم يجد شيئاً بداخل أوعيتهم.
فلما وصل إلى وعاء "بنيامين" وقام بتفتيشه وجد السقاية بداخله، فاستخرجها منه على مشهد منهم جميعاً.
ويبدو أن هذا الحوار من أوله كان بمشهد ومرأى من يوسف - عليه السلام - وكان أيضاً بتدبير وتوجيه منه للمؤذن ومن معه، فهو الذى أمر المؤذن بأن ينادى { أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } وهو الذى أشار عليه بأن يسألهم عن حكم السارق فى شريعتهم، وهو الذى أمره بأن يبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل أن يفتش وعاء شقيقه "بنيامين" دفعا للتهمة، ونفيا للشبهة...
روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعاء "بنيامين" لتفتيشه قال يوسف - عليه السلام -: ما أظن هذا أخذ شيئاً؟ فقالوا: "والله لا تتركه حتى تنظر فى رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا".
ويطوى القرآن ما اعترى إخوة يوسف من دهشة وخزى، بعد أن وجدت السقاية فى رحل "بنيامين" وبعد أن أقسموا بالله على براءتهم من تهمة السرقة.. يطوى القرآن كل ذلك، ليترك للعقول أن تتصوره...
ثم يعقب على ما حدث ببيان الحكمة التى من أجلها ألهم الله - تعالى - يوسف أن يفعل ما فعل من دس السقاية فى رحل أخيه، ومن سؤال إخوته عن جزاء السارق فى شريعتهم فيقول { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ... }
و "كدنا" من الكيد وأصله الاحتيال والمكر، وهو صرف غيرك عما يريده بحيلة، وهو مذموم إن تحرى به الفاعل الشر والقبيح، ومحمود إن تحرى به الفاعل الخير والجميل.
والمراد به هنا: النوع المحمود، واللام فى "ليوسف" للتعليل.
والمراد بدين الملك: شريعته التى يسير عليها فى الحكم بين الناس.
والمعنى: مثل هذا التدبير الحكيم دبرنا من أجل يوسف ما يوصله إلى غرضه ومقصده، وهو احتجاز أخيه بنيامين معه، بأن ألهمناه بأن يضع السقاية فى رحل أخيه، وبأن يسأل إخوته عن حكم السارق فى شريعتهم.. وما كان يوسف ليستطيع أن يحتجز أخاه معه، لو نفذ شريعة ملك مصر، لأن شريعته لا تجيز استرقاق السارق سنة كما هو الحال فى شريعة يعقوب، وإنما تعاقب السارق بضربه وتغريمه قيمة ما سرقه.
وما كان يوسف ليفعل كل ذلك التدبير الحكيم فى حال من الأحوال، إلا فى حال مشيئة الله ومعونته وإذنه بذلك، فهو - سبحانه - الذى ألهمه أن يدس السقاية فى رحل أخيه، وهو - سبحانه - الذى ألهمه أن يسأل إخوته عن عقوبة السارق فى شريعتهم حتى يطبقها على من يوجد صواع الملك فى رحله منهم.
والجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر فضل الله - تعالى - على يوسف حيث ألهمه ما يوصله إلى مقصوده بأحكم أسلوب.
قال الآلوسى ما ملخصه: قوله: { كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } أى: مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإِخوة إلى الإِفتاء المذكور... دبرنا وصنفنا من أجل يوسف ما يحصل به غرضه...
وقوله { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ } أى فى حكمه وقضائه والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد، كأنه قيل: لماذا فعل؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده فى دين الملك فى أمر السارق إلا بذلك الكيد، لأن جزاء السارق فى دينه أن يضاعف عليه الغرم... دون أن يسترق كما هو الحال فى شريعة يعقوب.
وقوله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أى: لم يكن يوسف ليتمكن من أخذ أخيه فى حال من الأحوال، إلا فى حال مشيئته - تعالى - التى هى عبارة عن ذلك الكيد المذكور..."
قالوا: وفى الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً".
وقوله - سبحانه - { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } استئناف لبيان قدرة الله - تعالى - وسعة رحمته وعطائه.
أى: نرفع من نشاء رفعه من عبادنا إلى درجات عالية من العلوم والمعارف والعطايا والمواهب .. كما رفعنا درجات يوسف - عليه السلام -.
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ } من أولئك المرفوعين { عليم } يزيد عنهم فى علمهم وفى مكانتهم عند الله - تعالى - فهو - سبحانه - العليم بأحوال عباده، وبمنازلهم عنده، وبأعلاهم درجة ومكانة.
وقال - سبحانه - { نرفع } بصيغة الاستقبال وللأشعار بأن ذلك سنة من سننه الإِلهية التى لا تتخلف ولا تتبدل، وأن عطاءه - سبحانه - لا يناله إلا الذين تشملهم إرادته ومشيئته كما تقتضيه حكمته.
وجاءت كلمة { درجات } بالتنكير، للإِشارة إلى عظمها وكثرتها.
ثم حكى - سبحانه - ما قاله إخوة يوسف فى أعقاب ثبوت تهمة السرقة على أخيه "بنيامين" فقال - تعالى - { قَالُوۤاْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ... }
أى: قال إخوة يوسف - عليه السلام - بعد هذا الموقف المحرج لهم. إن يسرق بنيامين هذا الصواع الخاص بالملك فقد سرق أخ له من قبل - وهو يوسف - ما يشبه ذلك.
وقولهم هذا يدل على أن صنيعهم بيوسف وأخيه ما زال متمكناً من نفوسهم.
وقد ذكر المفسرون هنا روايات متعددة فى مرادهم بقولهم هذا، ومن بين هذه الروايات ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى الآية: "سرق يوسف - عليه السلام - صنماً لجده وكان هذا الصنم من ذهب وفضه، فكسره وألقاه فى الطريق، فعير إخوته بذلك".
وقوله { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَٱللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } بيان لموقفه من مقالتهم، والضمير فى "فأسرها" يعود إلى تلك المقالة التى قالوها.
أى: سمع يوسف - عليه السلام - ما قاله إخوته فى حقه وفى حق شقيقه فساءه ذلك، ولكنه كظم غيظه، ولم يظهر لهم تأثره مما قالوه وإنما رد عليهم بقوله: "بل أنتم" أيها الإخوة "شر مكانا" أى: موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو برئ، لأنكم أنتم الذين كذبتم على أبيكم وخدعتموه، وقلتم له بعد أن ألقيتم أخاكم فى الجب، لقد أكله الذئب.
{ وَٱللَّهُ } - تعالى - { أَعْلَمْ } منى ومنكم "بما تصفون" به غيركم من الأوصاف التى يخالفها الحق، ولا يؤيدها الواقع.
ثم حكى - سبحانه - ما قالوا ليوسف على سبيل الرجاء والاستعطاف لكى يطلق لهم أخاهم حتى يعود معهم إلى أبيهم فقال: { قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ }.
أى: قال إخوة يوسف له على سبيل الاستعطاف: { يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } الذى أكرمنا وأحسن إلينا { إِنَّ } أخانا الذى أخذته على سبيل الاسترقاق لمدة سنة، قد ترك من خلفه فى بلادنا { أَباً شَيْخاً كَبِيراً } متقدماً فى السن، وهذا الأب يحب هذا الابن حباً جماً فإذا كان ولا بد من أن تأخذ واحدا على سبيل الاسترقاق بسبب هذه السرقة { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } حتى لا نفجع أبانا فيه.
وإننا ما طلبنا منك هذا الطلب، إلا لأننا { نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } إلينا، المكرمين لنا، فسر على طريق هذا الإِحسان والإِكرام، وأطلق سراح أخينا "بنيامين" ليسافر معنا.
ولكن هذا الرجاء والتلطف والاستعطاف منهم يوسف، لم ينفعهم شيئاً، فقد رد عليهم فى حزم وحسم بقوله: { قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ.. } و "معاذ" منصوب بفعل محذوف.
أى: قال يوسف لهم: نعوذ بالله - تعالى - معاذا، من أن نأخذ فى جريمة السرقة إلا الشخص الذى وجدنا صواع الملك عنده وهو "بنيامين"
وأنتم الذين أفتيتم بأن السارق فى شريعتكم عقوبته استرقاقه لمدة سنة، فنحن نسير فى هذا الحكم تبعاً لشريعتكم.
{ إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } إذا أخذنا شخصاً آخر سوى الذى وجدنا متاعنا عنده، والظلم تأباه شريعتنا كما تأباه شريعتكم، فاتركوا الجدال فى هذا الأمر الذى لا ينفع معه الجدال، لأننا لا نريد أن نكون ظالمين.
وبهذا الرد الحاسم قطع يوسف حبال آمال إخوته فى العفو عن بنيامين أو فى أخذ أحدهم مكانه، فانسحبوا من أمامه تعلوهم الكآبة، وطفقوا يفكرون فى مصيرهم وفى موقفهم من أبيهم عند العودة إليه.
وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال: { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ... }.
وقوله "استيأسوا" يئسوا يأساً تاماً فالسين والتاء للمبالغة.
و "خلصوا" من الخلوص بمعنى الانفراد.
و "نجيا" حال من فاعل خلصوا. وهو مصدر أطلق على المتناجين فى السر على سبيل المبالغة.
والفاء فى قوله { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ ... } معطوفة على محذوف يفهم من الكلام.
والتقدير: لقد بذل إخوة يوسف أقصى جهودهم معه ليطلق لهم سراح أخيهم بنيامين، فلما يئسوا يأساً تاماً من الوصول إلى مطلوبهم، انفردوا عن الناس ليتشاوروا فيما يفعلونه، وفيما سيقولونه لأبيهم عندما يعودون إليه ولا يجد معهم "بنيامين".
هذه الجملة الكريمة وهى قوله - تعالى - { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } من أبلغ الجمل التى اشتمل عليها القرآن الكريم، ومن العلماء الذين أشاروا إلى ذلك الإِمام الثعالبى فى كتاب "الإيجاز والإعجاز" فقد قال: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار ويحيط ببلاغة الإِيجاز، ويفطن لكفاية الإِيجاز، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام.
ثم قال: فمن ذلك قوله - تعالى - فى إخوة يوسف { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم فى تزوير ما يلقون به أباهم عند عودتهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث. فتضمنت تلك الكلمات القصيرة، معانى القصة الطويلة".
وقوله: { قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ... } إلخ بيان لما قاله لهم أحدهم خلال تناجيهم مع بعهضم فى عزلة عن الناس.
ولم يذكر القرآن اسم كبيرهم، لأنه لا يتعلق بذكره غرض منهم، وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد به "روبيل" لأنه أسنهم، وذكر بعضهم أنه "يهوذا" لأنه كبيرهم فى العقل..
أى: وحين اختلى إخوة يوسف بعضهم مع بعض لينظروا فى أمرهم بعد أن احتجز عزيز مصر أخاهم بنيامين، قال لهم كبيرهم:
{ أَلَمْ تَعْلَمُوۤا } وأنتم تريدون الرجعو إلى أبيكم وليس معكم "بنيامين".
{ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ } عندما أرسله معكم، بأن تحافظوا عليه، وأن لا تعودوا إليه بدونه إلا أن يحاط بكم.
وألم تعلموا كذلك أنكم فى الماضى قد فرطتم وقصرتم فى شأن يوسف، حيث عاهدتم أباكم على حفظه، ثم ألقيتم به فى الجب.
والاستفهام فى قوله: { أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ... } للتقرير. أى: لقد علمتم علما يقينا بعهد أبيكم عليكم بشأن بنيامين، وعلمتم علما يقينا بخيانتكم لعهد أبيكم فى شأن يوسف، فبأى وجه ستعودون إلى أبيكم وليس معكم أخوكم بنيامين؟
قال الشوكانى: قوله: { أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ } أى عهدا من الله - تعالى - بحفظ ابنه ورده إليه. ومعنى كونه من الله: أنه بإذنه.
وقوله { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ } معطوف على ما قبله. والتقدير: ألم تعلموا أن أباكم... وتعلموا تفريطكم فى يوسف، فقوله "ومن قبل" متعلق بتعلموا.
أى: تعلموا تفريطكم فى يوسف من قبل. على أن ما مصدرية.
وقوله { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ... } حكاية للقرار الذى اتخذه كبيرهم بالنسبة لنفسه.
أى: قال كبير إخوة يوسف لهم: لقد علمتم ما سبق أن قلته لكم، فانظروا فى أمركم، أما أنا { فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } أى: فلن أفارق مصر { حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ } بمفارقتها، لأنه قد أخذ علينا العهد الذى تعلمونه بشأن أخى بنيامين. { أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي } بالخروج منها وبمفارقتها على وجه لا يؤدى إلى نقض الميثاق مع أبى "وهو" - سبحانه - { خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.
ثم واصل كبيرهم حديثه معهم فقال: { ارجعوا } يا إخوتى { إِلَىٰ أَبِيكُمْ } يعقوب { فَقُولُواْ } له برفق وتلطف. { يٰأَبَانَا إِنَّ ٱبْنَكَ } بنيامين { سرق } صواع الملك، ووجد الصواع فى رحله وقولوا له أيضاً: إننا { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } أى: وما شهدنا على أخينا بهذه الشهادة إلا على حسب علمنا ويقيننا بأنه سرق.
{ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أى: وما كنا نعلم الغيب بأنه سيسرق صواع الملك، عندما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا بأن نأتيك به معنا إلا أن يحاط بنا.
وقولوا كذلك على سبيل زيادة التأكيد، إن كنت فى شك من قولنا هذا فاسأل { ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } والمراد بالقرية أهلها.
أى: فأرسل من تريد إرساله إلى أهل القرية التى حصلت فيها حادثة السرقة فإنهم سيذكرون لك تفاصيلها.
قالوا: ومرادهم بالقرية مدينة مصر التى حدث فيها ما حدث، وعبروا عنها بالقرية لأنهم يقصدون مكانا معيناً منها، وهو الذى حصل فيه التفتيش لرحالهم، والمراجعة بينهم وبين عزيز مصر ومعاونيه.
وقوله: { وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِيۤ أَقْبَلْنَا فِيهَا } معطوف على ما قبله.
أى: اسأل أهل القرية التى كنا فيها، واسأل { العير } أى: قوافل التجارة التى كنا فيها عند ذهابنا وإيابنا فإن أصحاب هذه القوافل يعلمون ما حدث من ابنك "بنيامين".
وقوله { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أى: وإنا لصادقون فى كل ما أخبرناك به. فكن واثقاً من صدقنا.
وقد ختم كبيرهم كلامه بهذه الجملة، زيادة فى تأكيد صدقهم، لأن ماضيهم معه يبعث على الريبة والشك، فهم الذين قالوا له قبل ذلك فى شأن يوسف:
{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ثم ألقوا به الجب، { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد صورت بأسلوب حافل بالإِثارة والمحاورة، والأخذ والرد، والترغيب والترهيب.. ما دار بين يوسف وإخوته عندما قدموا إليه للمرة الثانية ومعهم شقيقة "بنيامين".
* * *
فماذا كان بعد ذلك؟ لقد كان بعد ذلك أن عاد الإِخوة إلى أبيهم وتركوا بمصر كبيرهم وأخاهم بنيامين، ويطوى القرآن الحكيم - على عادته فى هذه السورة الكريمة - أثر ذلك على قلب أبيهم المفجوع، إلا أنه يسوق لنا رده عليهم، الذى يدل على كمال إيمانه، وسعة آماله فى رحمة الله - تعالى - فيقول:
{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ... }