التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ
٧
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٨
ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ
٩
قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
١٠
قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
١١
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
١٢
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ
١٣
قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ
١٤
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٥
-يوسف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } شروع فى حكاية قصة يوسف مع إخوته، بعد أن بين - سبحانه - صفة القرآن الكريم، وبعد أن أخبر عما رآه يوسف فى منامه، وما قاله أبوه له.
وإخوة يوسف هم: رأو بين، وشمعون، ولاوى، ويهوذا، ويساكر، وزبولون، ودان، ونفتالى، وجاد، وأشير، وبنيامين.
والآيات: جمع آية والمراد بها هنا العبر والعظات والدلائل الدالة على قدرة الله - تعالى - ووجوب إخلاص العبادة له.
والمعنى: لقد كان فى قصة يوسف مع إخوته عبر وعظات وعظيمة، ودلائل تدل على قدرة الله القاهرة، وحكمته الباهرة، وعلى ما للصبر وحسن الطوية من عواقب الخير والنصر، وعلى ما للحسد والبغى من شرور وخذلان.
وقوله: "للسائلين" أى: لمن يتوقع منهم السؤال، بقصد الانتفاع بما ساقه القرآن الكريم من مواعظ وأحكام.
أى: لقد كان فيما حدث بين يوسف وإخوته، آيات عظيمة، لكل من سأل عن قصتهم، وفتح قلبه للانتفاع بما فيها من حكم وأحكام، تشهد بصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه.
وهذا الافتتاح لتلك القصة، كفيل بتحريك الانتباه لما سيلقى بعد ذلك منها، ومن تفصيل لأحداثها، وبيان لما جرى فيها.
وقوله - سبحانه -: { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ.. }.
بيان لما قاله إخوة يوسف فيما بينهم، قبل أن ينفذوا جريمتهم.
و "إذ" ظرف متعلق بالفعل "كان" فى قوله - سبحانه - قبل ذلك: { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ.. }.
واللام فى قوله { ليوسف } لتأكيد أن زيادة محبة أبيهم ليوسف وأخيه، أمر ثابت، لا يقبل التردد أو التشكك.
والمراد بأخيه: أخوه من أبيه وأمه وهو "بنيامين" وكان أصغر من يوسف - عليه السلام - أما بقيتهم فكانوا إخوة له من أبيه فقط.
ولم يذكروه باسمه، للاشعار بأن محبة يعقوب له، من أسبابها كونه شقيقا ليوسف، ولذا كان حسدهم ليوسف أشد.
وجملة "نحن عصبة" حالية. والعصبة كلمة تطلق على ما بين العشرة إلى الأربعين من الرجال، وهى مأخوذة من العصب بمعنى الشد، لأن كلا من أفرادها يشد الآخر ويقويه ويعضده، أو لأن الأمور تعصب بهم. أى تشتد وتقوى.
أى: قال إخوة يوسف وهم يتشاورون فى المكر به: ليوسف وأخوه "بنيامين" أحب إلى قلب أبينا منا، مع أننا نحن جماعة من الرجال الأقوياء الذين عندهم القدرة على خدمته ومنفعته والدفاع عنه دون يوسف وأخيه.
وقولهم - كما حكى القرآن عنهم -: { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } تذييل قصدوا به درء الخطأ عن أنفسهم فيما سيفعلونه بيوسف وإلقائه على أبيه الذى فرق بينهم - فى زعمهم - فى المعاملة.
والمراد بالضلال هنا: عدم وضع الأمور المتعلقة بالأبناء فى موضعها الصحيح، وليس المراد به الضلال فى العقيدة والدين.
أى: إن أبانا لفى خطأ ظاهر، حيث فضل فى المحبة صبيين صغيرين على مجموعة من الرجال الأشداء النافعين له القادرين على خدمته.
قال القرطبى: لم يريدوا بقولهم { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } الضلال فى الدين إذ لو أرادواه لكانوا كفارا، بل أرادوا: إن أبانا لفى ذهاب عن وجه التدبير فى إيثاره اثنين على عشرة، مع استوائهم فى الانتساب إليه".
وهذا الحكم منهم على أبيهم ليس فى محله، لأن يعقوب - عليه السلام - كان عنده من أسباب التفضيل ليوسف عليهم ما ليس عندهم.
قال الآلوسى ما ملخصه: يروى أن يعقوب - عليه السلام - كان يوسف أحب إليه لما يرى فيه من المناقب الحميدة، فلما رأى الرؤيا تضاعفت له المحبة.
وقال بعضهم: إن زيادة حبه ليوسف وأخيه، صغرهما، وموت أمهما، وقد قيل لإِحدى الأمهات: أى بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يشفى.
ولا لوم على الوالد فى تفضيله بعض ولده على بعض فى المحبة لمثل ذلك وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما يدخل تحت وسع البشر..".
ثم أخبر - سبحانه - عما اقترحوه للقضاء على يوسف فقال - تعالى -: { ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ }.
ولفظ "اطرحوه" مأخوذ من الطرح، ومعناه رمى الشئ وإلقاؤه بعيداً، ولفظ "أرضاً" منصوب على نزع الخافض، والتنوين فيه للإِبهام. أى: أرضا مجهولة.
والمعنى: لقد بالغ أبونا فى تفضيل يوسف وأخيه علينا، مع أننا أولى بذلك منهما؛ وما دام هو مصراً على ذلك، فالحل أن تقتلوا يوسف، أو أن تلقوا به فى أرض بعيدة مجهولة حتى يموت فيها غريبا.
قال الآلوسى: "وحاصل المعنى: اقتلوه أو غربوه، فإن التغريب كالقتل فى حصول المقصود، ولعمرى لقد ذكروا أمرين مرين، فإن الغربة كربة أية كربة، ولله - تعالى - در القائل:

حسنوا القول وقالوا غربةإنما الغربة للأحرار ذبح

وجملة "يخل لكم وجه أبيكم" جواب الأمر.
والخلو: معناه الفراغ. يقال خلا المكان يخلو خلوا وخلاء، إذا لم يكن به أحد.
والمعنى: اقتلوا يوسف أو اقذفوا به فى أرض بعيدة مجهولة حتى يموت، فإنكم إن فعلتم ذلك، خلصت لكم محبة أبيكم دون أن يشارككم فيها أحد، فيقبل عليكم بكليته، ويكن كل توجهه إليكم وحدكم، بعد أن كان كل توجهه إلى يوسف.
قال صاحب الكشاف: "يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ" أى: يقبل عليكم إقبالة واحدة، لا يلتفت عنكم إلى غيركم والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها، وينازعهم إياها، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأن الرجل إذا أقبل على الشئ أقبل عليه بوجهه..."
وقوله { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } معطوف على جواب الأمر.
أى: وتكونوا من بعد الفراغ من أمر يوسف بسبب قتله أو طرحه فى أرض بعيدة، قوما صالحين فى دينكم، بأن تتوبوا إلى الله بعد ذلك فيقبل الله توبتكم، وصالحين فى دنياكم بعد أن خلت من المنغصات التى كان يثيرها وجود يوسف بينكم.
وهكذا النفوس عندما تسيطر علها الأحقاد، وتقوى فيها رذيلة الحسد، تفقد تقديرها الصحيح للأمور، وتحاول التخلص ممن يزاحمها بالقضاء عليه، وتصور الصغائر فى صورة الكبائر، والكبائر فى صورة الصغائر.
فإخوة يوسف هنا، يرون أن محبة أبيهم لأخيهم جرم عظيم، يستحق إزهاق روح الأخ. وفى الوقت نفسه يرون أن هذا الإِزهاق للروح البريئة شئ هين، فى الإِمكان أن يعودوا بعده قوما صالحين أمام خالقهم، وأمام أبيهم، وأمام أنفسهم.
وقوله - سبحانه - { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } بيان للرأى الذى اقترحه أحدهم، واستقر عليه أمرهم.
قال القرطبى ما ملخصه: قوله { وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ ٱلْجُبِّ } قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة "فى غيابة الجب" بالإِفراد - وقرأ أهل المدينة "فى غيابات الجب" - بالجمع-.
وكل شئ غيب عنك شيئا فهو غيابة، ومنه قيل للقبر غيابة - قال الشاعر:

فإن أنا يوما غيبتنى غيابتىفسيروا بسيرى فى العشيرة والاهل

والجب: الركية - أى الحفرة - التى لم تطو - أى لم تبن بالحجارة - فإذا طويت فهى بئر. وسميت جبا لأنها قطعت فى الأرض قطعا. وجمع الجب جببه وجباب وأجباب.
وجمع بين الغيابة والجبن، لأنه أراد ألقوه فى موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين...".
والسيارة: جمع سيار، والمراد بهم جماعة المسافرين الذين يبالغون فى السير ليصلوا إلى مقصودهم.
والمعنى: قال قائل من إخوة يوسف أفزعه ما هم مقدمون عليه بشأن أخيهم الصغير: لا تقتلوا يوسف، لأن قتله جرم عظيم، وبدلا من ذلك، ألقوه فى قعر الجب حيث يغيب خبره، إلى أن يلتقطه من الجب بعض المسافرين، فيذهب به إلى ناحية بعيدة عنكم، وبذلك تستريحون منه ويخل لكم وجه أبيكم.
ولم يذكر القرآن اسم هذا القائل أو وصفه، لأنه لا يتعلق بذكر ذلك غرض، وقد رجح بعض المفسرين أن المراد بهذا القائل "يهوذا"
والفائدة فى وصفه بأنه منهم، الإِخبار بأنهم لم يجمعوا على قتله أو طرحه فى أرض بعيدة حتى يدركه الموت.
وأتى باسم يوسف دون ضميره، لاستدرار عطفهم عليه، وشفقتهم به، واستعظام أمر قتله.
وجواب الشرط فى قوله "إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ" محذوف لدلالة "وألقوه" عليه.
والمعنى: إن كنتم فاعلين ما هو خير وصواب، فألقوه فى غيابة الجب، ولا تقتلوه ولا تطرحوه أرضا.
وفى هذه الجملة من هذا القائل، محاولة منه لتثبيطهم عما اقترحوه من القتل أو التغريب بأسلوب بليغ، حيث فوض الأمر إليهم، تعظيما لهم، وحذرا من سوء ظنهم به، فكان أمثلهم رأيا، وأقربهم إلى التقوى.
قالوا: وفى هذا الرأى عبرة فى الاقتصاد عند الانتقام، والاكتفاء بما حصل به الغرض دون إفراط، لأن غرضهم إنما هو إبعاد يوسف عن أبيهم. وهذا الإِبعاد يتم عن طريق إلقائه فى غيابة الجب.
ثم حكى - سبحانه - محاولاتهم مع أبيهم، ليأذن لهم بخروج يوسف معهم فقال: { قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }.
أى: قال إخوة يوسف لأبيهم - محاولين استرضاءه لاستصحاب يوسف معهم -: يا أبانا { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ } أى: أى شئ جعلك لا تأمنا على أخينا يوسف فى خروجه معنا، والحال أننا له لناصحون، فهو أخونا ونحن لا نريد له إلا الخير الخالص، والود الصادق.
وفى ندائهم له بلفظ "يا أبانا" استمالة لقلبه، وتحريك لعطفه، حتى يعدل عن تصميمه على عدم خروج يوسف معهم.
والاستفهام فى قولهم: { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا... } للتعجيب من عدم ائتمانهم عليه مع أنهم إخوته، وهو يوحى بأنهم بذلوا محاولات قبل ذلك فى اصطحابه معم ولكنها جميعا باءت بالفشل.
ثم أضافوا إلى ذلك قولهم { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ... }.
والرتع والرتوع هو الاتساع فى الملاذ والتنعم فى العيش، يقال: رتع الإِنسان فى النعمة إذا أكل ما يطيب له ورتعت الدابة إذا أكلت حتى شبعت، وفعله كمنع والمراد باللعب هنا الاستجمام ورفع السآمة، كالتسابق عن طريق العدو، وما يشبه ذلك من ألوان الرياضة المباحة.
أى: أرسله معنا غدا ليتسع فى أكل الفواكه ونحوها، وليدفع السآمة عن نفسه عن طريق القفز والجرى والتسابق معنا.
{ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } كل الحفظ من أن يصيبه مكروه، أو يمسه سوء.
وقد أكدو هذه الجملة والتى قبلها وهى قوله { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } بألوان من المؤكدات، لكى يستطيعوا الحصول على مقصودهم فى اصطحاب يوسف معهم.
وهو أسلوب يبدو فيه التحايل الشديد على أبيهم، لإِقناعة بما يريدون تنفيذه وتحقيقه من مآرب سيئة.
ثم أخبر - سبحانه - عما رد به عليهم أبوهم فقال: { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ }.
والحزن: الغم الحاصل لوقوع مكروه أو فقد محبوب.
والخوف: فزع النفس من مكروه يتوقع حصوله.
والذئب: حيوان معروف بعدوانه على الضعاف من الإِنسان ومن الحيوان، وأل فيه للجنس، والمراد به أى فرد من أفراد الذئاب.
أى: قال يعقوب لأبنائه ردا على إلحاحهم فى طلب يوسف للذهاب معهم يا أبنائى إننى ليحزننى حزناً شديداً فراق يوسف لى، وفضلا عن ذلك فإننى أخشى إذا أخذتموه معكم فى رحلتكم أن يأكله الذئب، وأنتم عنه غافلون، بسبب اشتغالكم بشئون أنفسكم، وقلة اهتمامكم برعايته وحفظه.
قالوا: وخص الذئب بالذكر من بين سائر الحيوانات، ليشعرهم بأن خوفه عليه مما هو أعظم من الذئب توحشا وافتراسا أشد وأولى.
أو خصه بالذكر لأن الأرض التى عرفوا بالنزول فيها كانت كثيرة الذئاب.
وقوله - سبحانه - { قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } رد مؤكد من إخوة يوسف على تخوف أبيهم وتردده فى إرساله معهم. إذ اللام فى قوله: "لئن" موطئة للقسم، وجواب القسم قوله: { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ }.
أى: قال إخوة يوسف لأبيهم محاولين إدخال الطمأنينة على قلبه، وإزالة الحزن والخوف عن نفسه: يا أبانا والله لئن أكل الذئب يوسف وهو معنا، ونحن عصابة من الرجال الأقوياء الحريصين على سلامته، إنا إذا فى هذه الحالة لخاسرون خسارة عظيمة، نستحق بسببها عدم الصلاح لأى شئ نافع.
وأخيراً استسلم الأب، لإِلحاح أبنائه الكبار، ليتحقق قدر الله الذى قدره على يوسف. ولتسير قصة حياته فى الطريق الذى شاء الله تعالى - له أن تسير فيه.
وقد حكى القرآن ذلك بأسلوبه البليغ فقال: { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }.
أى: فلما أقنعوا أباهم بإرسال يوسف معهم، وذهبوا به فى الغد إلى حيث يريدون، وأجمعوا أمرهم على أن يلقوا به فى قعر الجب، فعلوا به ما فعلوا من الأذى، ونفذوا ما يريدون تنفيذه بدون رحمة أو شفقة.
فالفاء فى قوله فلما: للتفريع على كلام مقدر، وجواب "لما" محذوف، دل عليه السياق. وفعل "أجمع" يتعدى إلى المفعول بنفسه، ومعناه العزم والتصميم على الشئ، تقول: أجمعت المسير أى: عزمت عزما قويا عليه.
وقوله "أن يجعلوه" مفعول أجمعوا.
قال الآلوسى: "والروايات فى كيفية إلقائه فى الجب، وما قاله لإِخوته عند إلقائه وما قالوه له كثيرة، وقد تضمنت ما يلين له الصخر، لكن ليس فها ما له سند يعول عليه".
والضمير فى قوله، وأوحينا إليه يعود على يوسف - عليه السلام -.
أى: وأوحينا إليه عند إلقائه فى الجب عن طريق الإِلهام القلبى، أو عن طريق جبريل - عليه السلام - أو عن طريق الرؤيا الصالحة. { لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا } أى: لتخبرنهم فى الوقت الذى يشاؤه الله - تعالى - فى مستقبل الأيام، بما فعلوه معك فى صغرك من إلقائك فى الجب، ومن إنجاء الله - لك، فالمراد بأمرهم هذا: إيذاؤهم له وإلقاؤهم إياه فى قعر الجب، ولم يصرح - سبحانه - به، لشدة شناعته.
وجملة "وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ" حالية، أى: والحال أنهم لا يحسون ولا يشعرون فى ذلك الوقت الذى تخبرهم فيه بأمرهم هذا، بأنك أنت يوسف. لاعتقادهم أنك قد هلكت ولطول المدة التى حصل فيها الفراق بينك وبينهم، ولتباين حالك وحالهم فى ذلك الوقت، فأنت ستكون الأمين على خزائن الأرض، وهم سيقدمون عليك فقراء يطلبون عونك ورفدك.
وقد تحقق كل ذلك - كما سيأتى - عند تفسير قوله تعالى -:
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ... } وكان هذ الإِيحاء - على الراجح - قبل أن يبلغ سن الحلم، وقبل أن يكون نبيا.
وكان المقصود منه، إدخال الطمأنينة على قلبه، وتبشيره بما سيصير إليه أمره من عز وغنى وسلطان.
قالوا: وكان هذا الجب الذى ألقى فيه يوسف على بعد ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب - عليه السلام - بفلسطين.
ثم حكى - سبحانه - أقوالهم لأبيهم بعد أن فعلوا فعلتهم وعادوا إليه ليلا يبكون فقال:
{ وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً... }.