التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ
٢٧
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ
٢٨
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ
٢٩
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ
٣٠
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ
٣١
-الرعد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } حكاية لما طلبه مشركو مكة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التعنت والطغيان. ومرادهم بالآية: آية كونية كإحياء الموتى, وإزاحة الجبال من أماكنها، "لولا" هنا: حرف تحضيض بمعنى هلا.
أى: ويقول الكافرون على سبيل العناد والجحود، هلا أنزل على هذا الرسول آية كونية تدل على صدقه، كأن يحيى لنا موتانا، أو أن يحول لنا جبل الصفا ذهبا..
وكأنهم يرون أن القرآن الذى نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - لا يكفى - فى زعمهم - أن يكون آية ومعجزة شاهدة على صدقه.
وقد أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بقوله: { قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ }.
أى: قل لهم أيها الرسول الكريم على سبيل التعجيب من أحوالهم ومن شدة ضلالهم: إن الله - تعالى - يضل عن طريق الحق من يريد إضلاله، لاستحباب هذا الضال العمى على الهدى، ويهدى إلى صراطه المستقيم، من أناب إليه - سبحانه - ورجع إلى الحق الذى جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقلب سليم. وعقل متفتح لمعرفة الصواب والرشاد.
فالجملة الكريمة تعجيب من أقوالهم الباطلة، ومن غفلتهم عن الآيات الباهرة التى أعطاها الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسها القرآن الكريم الذى هو آية الآيات، وحض لهم على الإِقلاع عما هم عليه من العتو والعناد.
والإِنابة: الرجوع إلى الشئ بعد تردد، فقد جرت عادة كثيرة من النفوس البشرية أن يعرض عليها الحق فتتردد فى قبوله فى أول الأمر، ثم تعود إلى قبوله واعتناقه بعد قيام الدلائل على صحته وسلامته من الفساد.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف طابق قولهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } قوله { قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ... }؟
قلت: هو كلام يجرى مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة والمتكاثرة التى أوتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤتها نبى قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية. فإذا جحدوها ولم يهتدوا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعاً للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم، إن الله يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة فى الكفر، فلا سبيل إلى اهتدائهم وإن أنزلت كل آية { وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ } كان على خلاف صفتكم { أَنَابَ } أقبل إلى الحق وحقيقته دخل فى نوبة الخير".
ثم رسم القرآن صورة مشرقة للقلوب المؤمنة، وللجزاء الحسن الذى أعده الله لها فقال - تعالى - { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } حق الإِيمان، { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ } أى: تستقر قلوبهم وتسكن، بسبب تدبرهم لكلامه المعجز وهو القرآن الكريم وما فيه من هدايات.
وإطلاق الذكر على القرآن الكريم ورد فى آيات منها قوله - تعالى -
{ وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } وقوله - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقوله: { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } أى: ألا بذكره وحده دون غيره من شهوات الحياة تسكن القلوب أنساً به، ومحبة له.
ويصح أن يراد بذكر الله هنا ما يشمل القرآن الكريم، ويشمل ذكر الخالق - عز وجل - باللسان، فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته - سبحانه - كما يصح أن يراد به خشيته - سبحانه - ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه.
إلا أن الأظهر هنا أن يراد به القرآن الكريم، لأنه الأنسب للرد على المشركين الذين لم يكتفوا به كمعجزة دالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه.
واختير الفعل المضارع فى قوله - سبحانه - { تطمئن } مرتين فى آية واحدة، للإِشارة إلى تجدد الاطمئنان واستمراره، وأنه لا يتخلله شك ولا تردد.
وافتتحت جملة { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } بأداة الاستفتاح المفيدة للتنبيه، للاهتمام بمضمونها، وللإِغراء بالإِكثار من ذكره - عز وجل -، ولإِثارة الكافرين إلى الاتسام بسمة المؤمنين لتطمئن قلوبهم.
ولا تنافى بين قوله - تعالى - هنا { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } وبين قوله فى سورة الأنفال
{ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... } أى: خافت.
لأن وجلهم إنما هو عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب. أو وجلت من هيبته وخشيته - سبحانه - وهو لا ينافى اطمئنان الاعتماد والرجاء.
وقوله - تعالى - { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } بيان للثواب الجزيل الذى أعده - سبحانه - للمؤمنين الصادقين.
وطوبى: مصدر كبشرى وزلفى من الطيب، وأصله طُيْبَى، فقلبت الباء واواً لوقوعها ساكنة إثر ضمة، كما قلبت فى موقن وموسر وهو من اليقين واليسر.
وقيل: طوبى، اسم شجرة فى الجنة.
قال ابن كثير ما ملخصه: قوله { طُوبَىٰ لَهُمْ } قال ابن عباس: أى فرح وقرة عين لهم.
وقال الضحاك: أى غبطة لهم. وقال إبراهيم النخعى: أى خير لهم.
وقال قتادة: طوبى، كلمة عربية. يقول الرجل لغيره: طوبى لك أى: أصبت خيراً.
وقال سعيد بن جبير بن ابن عباس { طُوبَىٰ لَهُمْ } قال: هى أرض الجنة بالحبشية.
وقال سعيد بن مشجوج "طوبى" اسم الجنة بالهندية.
وروى ابن جرير عن شهر بن حوشب قال: "طوبى": شجرة فى الجنة كل شجر الجنة منها...
وهكذا روى عن ابن عباس وأبى هريرة وغير واحد من السلف، "أن طوبى شجرة فى الجنة، فى كل دار فى الجنة غصن منها".
والمآب: المرجع والمنقلب من الأوب وهو الرجوع. يقال: آب يئوب أوبا وإبابا ومآبا إذا رجع.
والمعنى: الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات لهم فى آخرتهم، عيش طيب. وخير كامل، ومرجع حسن يرجعون به إلى ربهم وخالقهم.
ثم بين - سبحانه - أن إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس ليس بدعا، فقد سبقه رسل كثيرون إلى أقوامهم فقال - تعالى -: { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِيۤ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ }.
فالكاف فى قوله { كَذَلِكَ } للتشبيه حيث شبه - سبحانه - إرساله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس، بإرسال الرسل السابقين إلى أقوامهم.
واسم الإِشارة يعود إلى الإِرسال المأخوذ من فعل { أَرْسَلْنَاكَ }.
والمراد بالأمة هنا: أمة الدعوة التى أرسل إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - فآمن من آمن من أفرادها، وكفر من كفر.
أى: كما أرسلنا رسلا سابقين إلى أقوامهم، أرسلناك يا محمد إلى قومك الذين قد سبقهم أقوام ورسل كثيرون لكى تقرأ على مسامعهم هذا القرآن العظيم الذى أوحيناه إليك من لدنا، ولتبين لهم ما اشتمل عليه من هدايات وتشريعات، كما بين الرسل الذين سبقوك لأقوامهم ما أمرهم الله - تعالى - ببيانه.
وفى قوله - تعالى - { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ } تعريض بمشركى مكة، وأنهم إذا ما استمروا فى طغيانهم، فسيصيبهم ما أصاب الأمم الخالية.
وقوله { لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ ٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } المقصود منه تفخيم شأن القرآن الكريم، وأنه هو المعجزة الكبرى للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قراءته عليهم قراءة تدبر واستجابة لما يدعوهم إليه.
وأن قول المشركين { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } إنما هو قول يدل على عنادهم وغبائهم وجحودهم للحق بعد أن تبين.
وجملة { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ } حالية.
أى: أرسلناك أيها الرسول الكريم إلى هؤلاء الضالين، لتتلو عليهم ما ينقذهم من الضلال، ولكنهم عموا وصموا عن سماعه، والحال أنهم يكفرون بالرحمن أى العظيم الرحمة، الذى وسعت رحمته كل شئ.
وأوثر اختيار اسم الرحمن من بين أسمائه - تعالى - للإِشارة إلى أن إرساله - صلى الله عليه وسلم - مبعثه الرحمة كما قال - تعالى -:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وللرد عليهم فى إنكارهم أن يكون الله - تعالى - رحمانا، فقد حكى القرآن عنهم ذلك فى قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ } وقد ثبت فى الحديث الصحيح أنهم لم يرضوا بكتابة هذا الاسم الكريم فى صلح الحديبية، فعندما قال - صلى الله عليه وسلم - لعلىٍّ: اكتب { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قال أحد زعمائهم. ما ندرى ما الرحمن الرحيم..
وقد أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم بما يبطل كفرهم فقال: { قُلْ هُوَ رَبِّي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }
أى: قل لهم أيها الرسول الكريم: الرحمن الذى تتجافون النطق باسم الكريم هو وحده ربى وخالقى، لا إله مستحق للعبادة سواه، عليه لا على أحد سواه توكلت فى جميع أمورى، وإليه لا إلى غيره مرجعى وتوبتى وإنابتى.
فهذه الجملة الكريمة اشتملت على أبلغ رد على أولئك المشركين الذين أنكروا أن يكون الإِله - جل وعلا - رحمانا، وأنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة.
ثم أشار - سبحانه - إلى عظمة هذا القرآن الذى أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ... }.
والمراد بالقرآن هنا: معناه اللغوى، أى الكلام المقروء.
وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه.
والمعنى: ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية، { سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَال } أى: تحركت من أماكنها، { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلأَرْضُ } أى شققت وصارت قطعا، { أَوْ كُلِّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ } بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم.
ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن، لكونه الغاية القصوى فى الهداية والتذكير، والنهاية العظمى فى الترغيب والترهيب.
وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - آية كونية سواه.
ويصح أن يكون المعنى: ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى، لما آمن هؤلاء المعاندون.
قال - تعالى -:
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ... } وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة، بيان غلوهم فى العناد والطغيان، وتماديهم فى الكفر والضلال، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة.
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التى طلبوها منه - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الإِمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقوله - سبحانه - { بَل للَّهِ ٱلأَمْرُ جَمِيعاً } إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله، وأن قدرته - سبحانه - لا يعجزها شئ.
أى: إن الله - تعالى - لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التى اقترحوها، ولكن إرادته - سبحانه - لم تتعلق بما اقترحوه، لعلمه - سبحانه - بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات.
وقوله - سبحانه -: { أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق، إلا أن شاء الله لهم الهداية، والاستفهام للإِنكار. وأصل اليأس: قطع الطمع فى الشئ والقنوط من حصوله.
وللعلماء فى تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان:
أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع الطمع فى الشئ، وعليه يكون المعنى: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش، ويعلموا أن الله - تعالى - لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا، ولكنه لم يشأ ذلك، ليتميز الخبيث من الطيب. وعلى هذا الاتجاه سار الإِمام ابن كثير فقد قال -رحمه الله - : وقوله - تعالى { أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤا } أى: من إيمان جميع الخلق ويعلموا أن يتبينوا { أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع فى النفوس والعقول من هذا القرآن، الذى لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.
وثبت فى الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذى أوتيته وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" .
ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطى فى تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، اطلب لهم - أى للمشركين - ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا.
أما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم، وعليه يكون المعنى: أفلم يعلم المؤمنون أنه - سبحانه - لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا.
وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه:
ومعنى قوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أفلم يعلموا. وهى كما قال القاسم بن معن لغة هوازن. وقال الكلبى هى لغة حى من النخع، وأنشدوا على ذلك قول سيحم بن وئيل الرباحى:

أقول لهم بالشعب إذ يأسروننىألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم

وقول رباح بن عدى:

ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنهوإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

والظاهر أن استعمال اليأس فى ذلك حقيقه.
وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فإن الآيس عن الشئ عالم بأنه لا يكون..
والفاء للعطف على مقدر. أى: أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله - تعالى - فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا..
ثم حذر - سبحانه - الكافرين من التمادى فى كفرهم، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال - تعالى -: { وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ }.
والقارعة: من القرع، وهو ضرب الشئ بشئ آخر بقوة وجمعها قوارع.
والمراد بها: الرزية والمصيبة والكارثة.
أى: ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال "قارعة" أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة فى مكان قريب من دارهم، فيتطاير شرها إليهم، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم، إن الله - تعالى - لا يخلف الميعاد، أى: موعوده لرسله ولعباده المؤمنين.
وأبهم - سبحانه - ما يصيب الكافرين من قوارع، لتهويله وبيان شدته.
والتعبير بقوله: { ولا يزال } يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها، لأن الفعل { لا يزال } يدل على الإِخبار باستمرار شئ واقع.
ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها فى خلال سنى الجدب التى حلت بقريش والتى أشار إليها القرآن بقوله:
{ فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ. يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ... } وعبر - سبحانه - عما أصابهم من بلاء بالقارعة، للمبالغة فى شدته وقوته. حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبهتهم ويزعجهم، ولذلك سميت القيامة بالقارعة، لأنها تقرع القلوب بأهوالها.
وقال - سبحانه -: { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مُرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم، وتقلق أمنهم، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
ولقد قضى الله - تعالى - أمره، بهزيمتهم فى بدر وفى غيرها، وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة. وبدخول الناس فى دين الله أفواجا.
ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك فى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفى إقامة الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وعلى بطلان الشرك، وفى بيان ما أعده للكافرين من عقاب، وما أعده للمتقين من ثواب فقال تعالى:
{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ... }.