التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
٣٢
أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٣٣
لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ
٣٤
مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّعُقْبَى ٱلْكَافِرِينَ ٱلنَّارُ
٣٥
-الرعد

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ.... } تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من حزن بسبب تعنت المشركين معه. ومطالبتهم له بالمطالب السخيفة التى لا صلة لها بدعوته، كطلبهم منه تسيير الجبال وتقطيع الأرض، وتكليم الموتى.
والاستهزاء: المبالغة فى السخرية والتهكم من المستهزَأ به. والإِملاء: الإِمهال والترك لمدة من الزمان.
والتنكير فى قوله { برسل } للتكثير، فقد استهزأ قوم نوح به، وكانوا كلما مروا عليه وهو يصنع السفينة سخروا منه.
واستهزأ قوم شعيب به وقالوا له:
{ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } واستهزأ قوم هود به وقالوا له: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ... } واستهزأ فرعون بموسى فقال: { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } والمعنى: ولقد استهزأ الطغاة والجاحدون برسل كثيرين من قبلك -أيها الرسول الكريم - { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى: فأمهلتهم وتركتهم مدة من الزمان فى أمن ودعة.
{ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } أخذ عزيز مقتدر { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فانظر كيف كان عقابى إياهم، لقد كان عقابا رادعا دمرهم تدميرا.
فالاستفهام للتعجيب مما حل بهم، والتهويل من شدته وفظاعته وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } قال ابن كثير: وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }" .
ثم أقام - سبحانه - الأدلة الساطعة على وحدانيته وعلى وجوب إخلاص العبادة له - تعالى - فقال: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ... }.
والمراد بالقيام هنا: الحفظ والهيمنة على جميع شئون الخلق والاستفهام للإِنكار، والخبر محذوف والتقدير: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } أى: رقيب ومهيمن { عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ } كائنة ما كانت، عالم بما تعمله من خير أو شر فمجازيها به كمن ليس كذلك؟
وحذف الخبر هنا وهو قولنا - كمن ليس كذلك - لدلالة السياق عليه، كما فى قوله - تعالى -:
{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } أى: كمن قسا قلبه.
وحسن حذف الخبر هنا لأنه مقابل للمبتدأ هو { من } ولأن قوله - تعالى -: { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } يدل عليه.
والمقصود من الآية الكريمة إنكار المماثلة بين الخالق العظيم، العليم بأحوال النفوس... وبين تلك الأصنام التى أشركوها مع الله - تعالى - فى العبادة والتى هى لا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لنفسها - فضلا عن غيرها - نفعا ولا ضرا.
وجملة { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } حالية، والتقدير:
أفمن هذه صفاته، وهو الله - تعالى - كمن ليس كذلك، والحال أن هؤلاء الأغبياء قد جعلوا له شركاء فى العبادة وغيرها.
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة، زيادة توبيخهم، وتسفيه أفكارهم وعقولهم.
وقوله - سبحانه - { قُلْ سَمُّوهُمْ } تبكيت لهم إثر تبكيت.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - سموهم شركاء إن شئتم، فإن هذه التسمية لا وجود لها فى الحقيقة والواقع، ولا تخرجهم عن كونهم لا يملكون لأنفسهم - فضلا عن غيرهم - نفعا ولا ضرا، لأن الله - تعالى - واحد لا شريك له.
وهذه التسمية إنما هى من عند أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطن، كما قال تعالى:
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } فالأمر فى قوله { سموهم } مستعمل فى الإِباحة المصحوبة بالتهديد، للإِشارة إلى عدم الاكتراث بهم وبآلهتهم التى سموها شركاء. وهذا كما يقول العاقل للأحمق الذى لا يحسن الكلام: قل ما شئت فإن كلامك لا وزن له، ولا خير فيه.
قال الإمام الرازى عند تفسيره لهذه الآية: "واعلم أنه - تعالى - لما قرر هذه الحجة - وهى أن القائم على كل نفس ليس كمن لا يملك شيئا - زاد فى الحجاج فقال: { قُلْ سَمُّوهُمْ } وإنما يقال ذلك فى الأمر المستحقر الذى بلغ فى الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال: سمه إن شئت.
يعنى: إنه أخس من أن يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل.
فكأنه - تعالى - قال: سموهم بالآلهة، والمعنى: سواء أسميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به، فإنها فى الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها"..
والاستفهام فى قوله - تعالى -: { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } للإنكار والتوبيخ.
أى: قل أيها الرسول لهؤلاء الذين جعلوا لله شركاء وسموهم بهذا الاسم: قل لهم على سبيل الإنكار والتوبيخ: أتخبرون الله بشركاء لا وجود لهم فى الأرض، لأنهم لو كان لهم وجود لعلمهم، لأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.
أم أنكم سميتموهم شركاء بظاهر من القول أى: بظن من القول لا حقيقة له فى الواقع ونفس الأمر.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } أى: بل أتخبرون الله - تعالى - { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي ٱلأَرْضِ } أى بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم - سبحانه - والمراد: نفيها بنفى لازمها على طريق الكناية، لأنه - سبحانه - إذا كان لا يعلمها - وهو الذى لا يعزب عن علمه شئ - فهى لا حقيقة لها أصلا.
وتخصيص الأرض بالذكر، لأن المشركين زعموا أنه - سبحانه - له شركاء فيها.
وقوله { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } أى: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق فى نفس الأمر، كتسمية الزنجى كافورا.
وروى عن الضحاك وقتادة، أن الظاهر من القول: الباطل منه، كما فى قول القائل:

أعيرتنا ألبانها ولحومهاوذلك عار يابن ربطة ظاهر

أى: باطل زائد....
وقوله - سبحانه -: { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } إضراب عن حجاجهم، وإهمال لشأنهم و "زين" من التزيين وهو تصيير الشئ زينا أى: حسنا.
والمكر: صرف الغير عما يريده بحيلة. والمراد به هنا: كفرهم ومسالكهم الخبيثة ضد الإِسلام والمسلمين.
والمعنى: دع عنك أيها الرسول الكريم - مجادلتهم، لأنه لا فائدة من ورائها، فإن هؤلاء الكافرين قد زين لهم الشيطان ورؤساؤهم فى الفكر مكرهم وكيدهم للإِسلام وأتباعه، وصدوهم عن السبيل الحق، وعن الصراط المستقيم، ومن يضلله الله - تعالى - بأن يخلق فيه الضلال لسوء استعداده، فما له من هاد يهديه ويرشده إلى ما فيه نجاته.
هذا، وقد اشتملت هذه الآية على ألوان من الحجج الساطعة التى تثبت وجوب إخلاص العبادة لله، وتبطل الشركة والشركاء أشار إليها بعض المفسرين فقال:
قال الطيبى: فى هذه الآية الكريمة احتجاج بليغ مبنى على فنون من علم البيان:
أولها: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } كمن ليس كذلك، احتجاج عليهم وتوبيخ لهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما.
ثانيها: { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } من وضع المظهر موضع المضمر، للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن هو فرد واحد لا يشاركه أحد فى أسمائه.
ثالثها: { قُلْ سَمُّوهُمْ } أى عينوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان، فهو إنكار لوجودها على وجه برهانى..
رابعها: { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ } احتجاج من باب نفى الشئ أعنى العلم بنفى لازمه وهو المعلوم وهو كناية.
خامسها: { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ ٱلْقَوْلِ } احتجاج من باب الاستدراج لبعثهم على التفكر.
أى: أتقولون بأفواهكم من غير روية، وأنتم ألباء، فتفكروا فيه لتقفوا على بطلانه.
سادسها: التدرج فى كل من الإضرابات على ألطف وجه، وحيث كانت الآية مشتملة على هذه الأساليب البديعة مع اختصارها، كان الاحتجاج المذكور مناديا على نفسه بالإِعجاز وأنه ليس كلام البشر".
ثم بين - سبحانه - سوء مصير هؤلاء الكافرين فقال: { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أى: لهم عذاب شديد فى الحياة الدنيا، ينزله الله - تعالى - بهم تارة عن طريق القوارع والمصائب التى يرسلها عليهم، وتارة عن طريق الهزائم التى يوقعها بهم المؤمنون، هذا فى الدنيا { وَلَعَذَابُ ٱلآُخِرَةِ أَشَقُّ } من عذاب الدنيا لشدته ودوامه { وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ } - تعالى - ومن عذاب الآخرة { مِن وَاقٍ } أى: من حائل يحول بينهم وبين عذابه - سبحانه -.
ثم أعقب ذلك ببيان حسن عاقبة المؤمنين فقال: { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا... }.
والمراد بالمثل هنا: الصفة العجيبة، أى: صفة الجنة التى وعد الله إياها من اتقاه وصان نفسه عن كل مالا يرضيه، أنها تجرى من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار، وأنها أكلها دائم، أى: ما يؤكل فيها لا انقطاع لأنواعه "وظلها" كذلك دائم.
قال بعضهم: وجملة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } خبر عن "مثل" باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه، فهى من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين، كما يقال: صفة زيد أسمر. وجملة "أكلها دائم" خبر ثان.
واسم الإِشارة فى قوله: { تِلْكَ عُقْبَىٰ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } يعود على الجنة التى أعدها الله - تعالى - للمتقين.
أى: تلك الجنة المنعوتة بما ذكر هى مآل المتقين الذين استقاموا على الطريق الحق، وهى منتهى أمرهم.
أما مآل الكافرين ومنتهى أمرهم فهى النار، وبئس القرار.
هذا، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية، جملة من الأحاديث فى صفة الجنة فقال: وفى الصحيحين من حديث ابن عباس فى صلاة الكسوف، وفيه:
"قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا من مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت - أى توقفت وأحجمت؟ فقال: إنى رأيت الجنة - أو أريت الجنة - فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا" .
وروى الطبرانى عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى" .
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد ساقت من التوجيهات ما فيه التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه، وما فيه أوضح الدلائل والبراهين وأبلغها عن وحدانية الله - تعالى - ووجوب إفراده بالعبادة، وما فيه البشارة للمؤمنين، والتهديد للكافرين.
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة، ببيان موقف أهل الكتاب من القرآن الكريم، وبأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلن منهجه بصراحة وثبات، دون التفات إلى أهواء معارضيه، وبالرد على الشبهات التى أثارها أعداؤه حوله وحول دعوته، وبتهديد هؤلاء الأعداء وبسوء العاقبة إذا ما استمروا فى طغيانهم فقال - تعالى - :
{ وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ... }