التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ
٦١
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
٦٢
قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ
٦٣
وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٦٤
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
٦٥
وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ
٦٦
وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ
٦٧
قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ
٦٨
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ
٦٩
قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ
٧٠
قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
٧١
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
٧٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ
٧٣
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
٧٤
-الحجر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى: وقوله - تعالى - { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } شروع فى بيان إهلاك المجرمين، وتنجية آل لوط. ووضع الظاهر موضع الضمير، للإِيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك.
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يفهم من السياق، والتقدير: وخرج الملائكة من عند إبراهيم - بعد أن بشروه بغلامه، وبعد أن أخبروه بوجهتهم - فاتجهوا إلى المدينة التى يسكنها لوط - عليه السلام - وقومه. فلما دخلوا عليه قال لهم: { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ }.
أى: إنكم قوم غير معروفين لى، لأنى لم يسبق لى أن رأيتكم، ولا أدرى من أى الأقوام أنتم، ولا أعرف الغرض الذى من أجله أتيتم، وإن نفسى ليساورها الخوف والقلق من وجودكم عندى ...
ويبدو أن لوطاً - عليه السلام - قد قال لهم هذا الكلام بضيق نفس، لأنه يعرف شذوذ المجرمين من قومه، ويخشى أن يعلموا بوجود هؤلاء الضيوف أصحاب الوجوه الجميلة عنده، فيعتدوا عليهم دون أن يملك الدفاع عنهم ...
وقد صرح القرآن الكريم بهذا الضيق النفسى، الذى اعترى لوطا بسبب وجود هؤلاء الضيوف عنده، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } }. وقال - سبحانه -: { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } مع أن المجئ كان للوط - عليه السلام - والخطاب كان معه، تشريفاً وتكريماً للمؤمنين من قوم لوط، فكأنهم كانوا حاضرين ومشاهدين لوجود الملائكة بينهم، ولما دار بينهم وبين لوط - عليه السلام -.
وقوله - سبحانه -: { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }.
حكاية لما رد به الملائكة على لوط، لكى يزيلوا ضيقه بهم، وكراهيته لوجودهم عنده.
وقوله { يمترون } من الامتراء، وهو الشك الذى يدفع الإِنسان إلى المجادلة المبنية على الأوهام لا على الحقائق.
وهو - كما يقول الإِمام الفخر الرازى - مأخوذ من قول العرب: "مريت الناقة والشاة إذا أردت حلبها، فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء، كاللبن الذى يجتذب عند الحلب. يقال: قد مارى فلان فلانا، إذا جادله كأنه يستخرج غضبه".
أى: قال الملائكة للوط لإِدخال الطمأنينة على نفسه: يا لوط نحن ما جئنا لإِزعاجك أو إساءتك، وإنما جئناك بأمر كان المجرمون من قومك، يشكون فى وقوعه، وهو العذاب الذى كنت تحذرهم منه إذا ما استمروا فى كفرهم وفجورهم ...
وإنا ما أتيناك إلا بالأمر الثابت المحقق الذى لا مرية فيه ولا تردد، وهو إهلاك هؤلاء المجرمين من قومك، وإنا لصادقون فى كل ما قلناه لك، وأخبرناك به، فكن آمناً مطمئناً.
فالإضراب فى قوله { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ... } إنما هو لإِزالة ما وقر فى قلب لوط - عليه السلام - تجاه الملائكة من وساوس وهواجس.
فكأنهم قالوا له: نحن ما جئناك بشئ تكرهه أو تخافه .. وإنما جئناك بما يسرك ويشفى غليلك من هؤلاء القوم المنكوسين.
وعبر عن العذاب بقوله { بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } زيادة فى إدخال الأنس على نفسه وتحقيقاً لوقوع العذاب بهم.
وقوله { وَأتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } تأكيد على تأكيد.
وهذه التأكيدات المتعددة والمتنوعة تشعر بأن لوطا - عليه السلام - كان فى غاية الهم والكرب لمجئ الملائكة إليه بهذه الصورة التى تغرى المجرمين بهم دون أن يملك حمايتهم أو الدفاع عنهم.
لذا كانت هذه التأكيدات من الملائكة له فى أسمى درجات البلاغة، حتى يزول خوفه، ويزداد اطمئنانه إليهم، قبل أن يخبروه بما أمرهم الله - تعالى - بإخباره به، وهو قوله - تعالى - { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ }.
قال القرطبى: قوله { فأسر .. } قرئ فاسر وقرئ فأسر، بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان. قال - تعالى -
{ { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ.. } وقال: { { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً.. } }. وقيل: فأسر تقال لمن سار من أول الليل .. وسرى لمن سار فى آخره، ولا يقال فى النهار إلا سار.
وقوله { بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ .. } أى: بجزء من الليل. والمراد به الجزء الأخير منه.
أى: قال الملائكة للوط - عليه السلام - بعد أن أزالوا خوفه منه: يا لوط إنا نأمرك - بإذن الله تعالى - أن تخرج من هذه المدينة التى تسكنها مع قومك وأن يخرج معك أتباعك المؤمنون، وليكن خروجكم فى الجزء الأخير من الليل.
وقوله { واتبع أدبارهم } أى: وكن وراءهم لتطلع عليهم وعلى أحوالهم.
قال الإِمام ابن كثير: يذكر الله - تعالى - عن الملائكة أنهم أمروا لوطا أن يسرى بأهله بعد مضى جانب من الليل، وأن يكون لوط - عليه السلام - يمشى وراءهم ليكون أحفظ لهم.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى فى الغزاة يزجى الضعيف، ويحمل المنقطع.
وقوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أى: ولا يلتفت منكم أحد أيها المؤمنون - خلفه، حتى لا يرى العذاب المروع النازل بالمجرمين.
وإنما أمرهم - سبحانه - بعدم الالتفات إلى الخلف، لأن من عادة التارك لوطنه، أن يلتفت إليه عند مغادرته، كأنه يودعه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى أمره باتباع أدبارهم ونهيهم عن الالتفات؟
قلت: قد بعث الله الهلاك على قوم لوط، ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا فلم يكن له بد من الاجتهاد فى شكر الله، وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك، فأمر بأن يقدِّمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم، فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات فى تلك الحال المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب، وليكون مسيره مسير الهارب الذى يقدم سربه ويفوت به. ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا له، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة، ويمضوا قدماً غير ملتفتين إلى ما وراءهم، كالذى يتحسر على مفارقة وطنه ...
أو جعل النهى عن الالتفات، كناية عن مواصلة السير، وترك التوانى والتوقف، لأن من يتلفت لا بد له فى ذلك من أدنى وقفة.
وقوله { وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } إرشاد من الملائكة للوط - عليه السلام - إلى الجهة التى أمره الله - تعالى - بالتوجه إليها.
أى: وامضوا فى سيركم إلى الجهة التى أمركم الله - تعالى - بالسير إليها، مبتعدين عن ديار القوم المجرمين، تصحبكم رعاية الله وحمايته.
قيل: أمروا بالتوجه إلى بلاد الشام، وقيل إلى الأردن، وقيل إلى مصر.
ولم يرد حديث صحيح يحدد الجهة التى أمروا بالتوجه إليها، ولكن الذى نعتقده أنهم ذهبوا بأمر الله - تعالى - إلى مكان آخر، أهله لم يعملوا ما كان يعمله العادون من قوم لوط - عليه السلام -.
وقوله - سبحانه - { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } بيان لجانب آخر من جوانب الرعاية والتكريم للوط - عليه السلام -.
وعدى "قضينا" بإلى، لتضمنه معنى أوحينا.
والمراد بذلك الأمر: إهلاك الكافرين من قوم لوط - عليه السلام -.
وجملة { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } مفسرة ومبينة لذلك الأمر.
وعبر عن عذابهم وإهلاكهم بالإِبهام أولاً. ثم بالتفسير والتوضيح ثانياً، للإِشعار بأنه عذاب هائل شديد.
ودابرهم: أى آخرهم الذى يدبرهم. يقال: فلان دبر القوم يدبرهم دبورا إذا كان آخرهم فى المجئ. والمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب استئصالا.
وقوله { مصبحين } أى: داخلين فى الصباح، مأخوذ من أصبح التامة، وصيغة أفعل تأتى للدخول فى الشئ، نحو أنجد وأتهم، أى دخل فى بلاد نجد وفى بلاد تهامة، وهو حال من اسم الإِشارة هؤلاء، والعامل فيه معنى الإِضافة.
والمعنى: وقضينا الأمر بإبادتهم، وأوحينا إلى نبينا لوط - عليه السلام - أن آخر هؤلاء المجرمين مقطوع ومستأصل ومهلك مع دخول وقت الصباح.
وفى هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن العذاب سيمحقهم جميعاً، بحيث لا يبقى منهم أحداً، لا من كبيرهم ولا من صغيرهم، ولا من أولهم ولا من آخرهم.
ثم حكى - سبحانه - ما حدث من القوم المجرمين، بعد أن تسامعوا بأن فى بيت لوط - عليه السلام - شباناً فيهم جمال ووضاءة فقال - تعالى - { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ }.
والمراد بأهل المدينة: أهل مدينة سدوم التى كان يسكنها لوط وقومه.
ويستبشرون: أى يبشر بعضهم بعضاً بأن هناك شباناً فى بيت لوط - عليه السلام -، من الاستبشار وهو إظهار الفرح والسرور.
وهذا التعبير الذى صورته الآية الكريمة، يدل دلالة واضحة على أن القوم قد وصلوا إلى الدرك الأسفل من الانتكاس والشذوذ وانعدام الحياء...
إنهم لا يأتون لارتكاب المنكر فرداً أو أفرادا، وإنما يأتون جميعاً - أهل المدينة - وفى فرح وسرور، وفى الجهر والعلانية، لا فى السر والخفاء ...
ولأى غرض يأتون؟ إنهم يأتون لارتكاب الفاحشة التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين.
وهكذا النفوس عندما ترتكس وتنتكس، تصل فى مجاهرتها بإتيان الفواحش، إلى ما لم تصل إليه بعض الحيوانات ...
ويقف لوط - عليه السلام - أمام شذوذ قومه مغيظا مكروباً، يحاول أن يدفع عن ضيفه شرورهم، كما يحاول أن يحرك فيهم ذرة من الآدمية فيقول لهم: { إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ }.
وتفضحون: من الفضح والفضيحة. يقال فضح فلان فلانا فضحا وفضيحة، إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بسببه.
أى: قال لوط - عليه السلام - لمن جاءوا يهرعون إليه من قومه لارتكاب الفاحشة مع ضيوفه: يا قوم إن هؤلاء الموجودين عندى ضيوفى الذين يلزمنى حمايتهم، فابتعدوا عن دارى وعودوا إلى دياركم، ولا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فأهون فى نظرهم، لعجزى عن حمايتهم، وأنتم تعلمون أن كرامة الضيف جزء من كرامة مضيفه ...
وعبر لوط - عليه السلام - عن الملائكة بالضيف لأنه لم يكن قد علم أنهم ملائكة ولأنهم قد جاءوا إليه فى هيئة الآدميين.
ثم أضاف لوط - عليه السلام - إلى رجاء قومه رجاء آخر، حيث ذكرهم بتقوى الله فقال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ }.
أى: واتقوا الله وصونوا أنفسكم عن عذابه وغضبه، ولا تخزون مع ضيفى، وتذلونى وتهينونى أمامهم.
يقال: خَزِىَ الرجل يخزَى وخَزى، إذا وقع فى مصيبة فذل لذلك.
ولكن هذه النصائح الحكيمة من لوط - عليه السلام - لقومه، لم تجد أذنا صاغية، بل قابلوها بسوء الأدب معه، وبالتطاول عليه، شأن الطغاة الفجرة { قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ }.
والاستفهام للإِنكار. والواو للعطف على محذوف، والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله - تعالى - والمراد بالعالمين هنا: الرجال الذين كانوا يأتون معهم الفاحشة من دون النساء.
أى: قال قوم لوط له بوقاحة وسوء أدب. أو لم يسبق لنا يا لوط أننا نهيناك عن أن تحول بيننا وبين من نريد ارتكاب الفاحشة معه من الرجال، وإذا كان الأمر كذلك فكيف ساغ لك بعد هذا النهى أن تمنعنا عما نريده من ضيوفك وأنت تعلم ما نريده منهم؟
ولكن لوطا - عليه السلام - مع شناعة قولهم هذا، لم ييأس من محاولة منعهم عما يريدونه من ضيوفه، فأخذ يرشدهم إلى ما تدعو إليه الفطرة السليمة فقال: { هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }.
والمراد ببناته هنا: زوجاتهم ونساؤهم اللائى يصلحن للزواج. وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبى أب لأمته من حيث الشفقة والرعاية وحسن التربية.
قال ابن كثير ما ملخصه: يرشد لوطا - عليه السلام - قومه إلى نسائهم فإن النبى للأمة بمنزلة الوالد، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم، كما قال - تعالى - فى آية أخرى:
{ { أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } }. وقيل المراد ببناته هنا: بناته من صلبه، وأنه عرض عليهم الزواج بهن.
ويضعف هذا الرأى أن لوطا - عليه السلام - كان له بنتان أو ثلاثة كما جاء فى بعض الروايات، وعدد المتدافعين من قومه إلى بيته كان كثيراً، كما يرشد إليه قوله - تعالى - { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاثة للزواج بهن؟
قال الإِمام الرازى فى ترجيح الرأى الأول ما ملخصه: "وهذا القول عندى هو المختار، ويدل عليه وجوه منها: أنه قال هؤلاء بناتى .. وبناته اللاتى من صلبه لا تكفى هذا الجمع العظيم، أما نساء أمته ففيهم كفاية للكل، ومنها: أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما: "زنتا وزاعورا" وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز، لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة".
والمعنى: أن لوطا - عليه السلام - لما رأى هيجان قومه، وإصرارهم على ارتكاب الفاحشة مع ضيوفه، قال لهم على سبيل الإِرشاد إلى ما يشبع الفطرة السليمة: يا قوم هؤلاء نساؤكم اللاتى هن بمنزلة بناتى، فاقضوا معهن شهوتكم إن كنتم فاعلين لما أرشدكم إليه من توجيهات وآداب.
وعبر بإن فى قوله { إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } لشكه فى استجابتهم لما يدعوهم إليه فكأنه يقول لهم: إن كنتم فاعلين لما أطلبه منكم، وما أظنكم تفعلونه لانتكاس فطرتكم، وانقلاب أمزجتكم ..
وجواب الشرط محذوف، أى: إن كنتم فاعلين ما أرشدكم إليه فهو خير لكم.
وقوله - سبحانه -: { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } يرى جمهور المفسرين أنه كلام معترض بين أجزاء قصة لوط - عليه السلام - مع قومه، لبيان أن الموعظة لا تجدى مع القوم الغاوين، ولتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه.
فالخطاب فيه للنبى صلى الله عليه وسلم واللام فى { لعمرك } لام القسم، والمقسم به حياته صلى الله عليه وسلم والعمر - بفتح العين - لغة فى العمر - بضمها، ومعناهما: مدة حياة الإِنسان وبقائه فى هذه الدنيا، إلا أنهم ألزموا مفتوح العين فى القسم، وهو مبتدأ وخبره محذوف وجوبا والتقدير لعمرك قسمى أو يمبنى.
والسكرة: ذهاب العقل، مأخوذة من السكر - بفتح السين وإسكان الكاف - وهو السد والإِغلاق. وأطلقت هنا على الغواية والضلالة لإِزالتهما الرشد والهداية عن عقل الإِنسان و{ يعمهون } من العمه بمعنى التحير والتردد فى الأمر. وهو للبصيرة بمنزلة العمى للبصر.
يقال: عمه فلان - كفرح - عمها، إذا تردد وتحير، فهو عمه وعامه، وهم عمهون وعمه - كركع -
والمعنى: بحق حياتك - أيها الرسول الكريم - إن هؤلاء المكذبين لك، لفى غفلتهم وغوايتهم يترددون ويتحيرون، شأنهم فى ذلك شأن الضالين من قبلهم كقوم لوط وقوم شعيب وقوم صالح، وغيرهم من المتكبرين فى الأرض بغير الحق ..
قال الآلوسى: "وقوله { لعمرك } قسم من الله - تعالى - بعمر نبينا صلى الله عليه وسلم على ما عليه جمهور المفسرين. وأخرج البيهقى فى الدلائل، وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: ما خلق الله - تعالى - وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله - تعالى - أقسم بحياة أحد غيره، قال - تعالى -: { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقيل هو قسم من الملائكة بعمر لوط - عليه السلام -، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول، أى. قالت الملائكة للوط - عليه السلام - لعمرك .. وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهداً له وقرينة عليه ..".
ثم ختم - سبحانه - القصة ببيان النهاية الأليمة لهؤلاء المفسدين من قوم لوط فقال - تعالى - { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ }.
والصيحة: من الصياح وهو الصوت الشديد. يقال: صاح فلان إذا رفع صوته بشدة. وأصل ذلك تشقيق الصوت من قولهم: انصاح الخشب أو الثوب، إذا انشق فسمع منه صوت. قالوا: وكل شئ أهلك به قوم فهو صيحة وصاعقة.
و{ مشرقين }: اسم فاعل من أشرقوا إذا دخلوا فى وقت شروق الشمس، أى: أن الله - تعالى - بعد أن أخبر لوطا - عليه السلام - بإهلاك قومه، وأمره عن طريق الملائكة - بالخروج ومعه المؤمنون من هذه المدينة .. جاءت الصيحة الهائلة من السماء فأهلكتهم جميعاً وهم داخلون فى وقت شروق الشمس.
وقال - سبحانه - قبل ذلك: { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } وقال هنا { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } للإِشارة إلى أن ابتداء عذابهم كان عند الصباح وانتهاءه باستئصال شأفتهم كان مع وقت الشروق.
والضمير فى قوله { عاليها سافلها } يعود إلى المدينة التى كان يسكنها المجرمون من قوم لوط.
أى: فجعلنا بقدرتنا عالى هذه المدينة سافلها، بأن قلبناها قلباً كاملاً { وأمطرنا عليهم } أى على هؤلاء المجرمين من قوم لوط { حجارة } كائنة { من سجيل } أى من طين متحجر. فهلكوا جميعاً.
وهكذا أخذ الله - تعالى - هؤلاء المجرمين أخذ عزيز مقتدر، حيث أهلكهم بهذه العقوبة التى تتناسب مع جريمتهم، فهم قلبوا الأوضاع، فأتوا بفاحشة لم يسبقوا إليها، فانتقم الله - تعالى - منهم بهذه العقوبة التى جعلت أعلى مساكنهم أسفلها.
ثم ساقت السورة الكريمة بعض العبر والعظات التى يهتدى بها العقلاء من قصتى إبراهيم ولوط - عليهما السلام - كما ساقت بعد ذلك جانباً من قصتى شعيب وصالح - عليهما السلام - فقال - تعالى -: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ... }.