التفاسير

< >
عرض

وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١١٢
وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
١١٣
-النحل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والفعل ضرب فى قوله - تعالى -: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً ... } متضمن معنى جعل، ولذا عدى إلى مفعولين.
والمثل - بفتح الثاء - بمعنى المثل - بسكونها - أى: النظير والشبيه. ويطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه لمورده الذى ورد فيه، ثم استعير للصفة والحال كما فى الآية التى معنا.
والمراد بالقرية: أهلها، فالكلام على تقدير مضاف.
وللمفسرين اتجاهان فى تفسير هذه الآية. فمنهم من يرى أن هذه القرية غير معينة، وإنما هى مثل لكل قوم قابلوا نعم الله بالجحود والكفران.
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف حيث قال: قوله - تعالى -: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً ... } أى: جعل القرية التى هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة. فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون فى قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضرب بها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها.
ومنهم من يرى أن المقصود بهذه القرية مكة، وعلى هذا الاتجاه سار الامام ابن كثير حيث قال ما ملخصه: هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة، يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمنا ... فجحدت آلاء الله عليها، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لتنكير لفظ قرية، ولشموله الاتجاه الثانى، لأنه يتناول كل قرية بدلت نعمة الله كفرا، ويدخل فى ذلك كفار مكة دخولا أوليا.
فيكون المعنى: وجعل الله قرية موصوفة بهذه الصفات مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بهذه النعم، فلم يشكروا الله - تعالى - عليها، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله: { كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } أى: كانت تعيش فى أمان لا يشوبه خوف، وفى سكون واطمئنان لا يخالطهما فزع أو انزعاج:.
وقوله: { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } بيان لسعة عيشها، أى: يأتيها ما يحتاج إليه أهلها واسعا لينا سهلا من كل مكان من الأمكنة.
يقال: رَغُد - بضم الغين - عيش القوم، أى: اتسع وطاب فهو رغد ورغيد ... وأرغد القوم، أى: أخصبوا وصاروا فى رزق واسع.
فالآية الكريمة قد تضمنت أمهات النعم: الأمان والاطمئنان ورغد العيش. قال بعضهم:

ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية

وقوله - تعالى -: { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } بيان لموقفها الجحودى من نعم الله - تعالى - أى: فكان موقف أهل هذه القرية من تلك النعم الجليلة، أنهم جحدوا هذه النعم، ولم يقابلوها بالشكر، وإنما قابلوها بالإِشراك بالله - تعالى - مُسدى هذه النعم.
قال القرطبى: "والأنْعُم: جمع النِّعمة. كالأشُد جمع الشِّدة، وقيل: جمع نعمى، مثل بُؤسى وأبؤس".
وقوله - سبحانه -: { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } بيان للعقوبة الأليمة التى حلت بأهلها بسبب كفرهم وبطرهم.
أى: فأذاق - سبحانه - أهلها لباس الجوع والخوف، بسبب ما كانوا يصنعونه من الكفر والجحود والعتو عن أمر الله ورسله.
وذلك بأن أظهر أثرهما عليهم بصورة واضحة، تجعل الناظر إليهم لا يخفى عليه ما هم فيه من فقر مدقع، وفزع شديد.
ففى الجملة الكريمة تصوير بديع لما أصابهم من جوع وخوف، حتى لكأن ما هم فيه من هزال وسوء حال، يبدو كاللباس الذى يلبسه الإِنسان، ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا يحسون أثره إحساسا عميقا.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد فى تصوير هذا المعنى فقال: "فإن قلت: الإِذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟ والإِذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟.
قلت: أما الإِذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها فى البلايا والشدائد وما يمس الناس منها. فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب. شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من الطعم المر البشع.
وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس، ما غشى الإِنسان والتبس به من بعض الحوادث.
وأما إيقاع الإِذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ...
ثم بين - سبحانه - رذيلة أخرى من رذائل أهل هذه القرية الكافرة بأنعم الله فقال: { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ }.
أى: ولقد جاء إلى أهل هذه القرية رسول من جنسهم، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأمرهم بطاعة الله وشكره، ولكنهم كذبوه وأعرضوا عنه.
والتعبير بقوله { جاءهم } يدل على أن هذا الرسول وصل إليهم وبلغهم رسالة ربه، دون أن يكلفهم الذهاب إليه، أو البحث عنه.
والتعبير بالفاء فى قوله: { فكذبوه } يشعر بأنهم لم يتمهلوا ولم يتدبروا دعوة هذا الرسول، وإنما قابلوها بالتكذيب السريع بدون روية، مما يدل على غباوتهم وانطماس بصيرتهم.
وقوله - تعالى - { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } بيان للعاقبة السيئة التى حاقت بهم.
أى: فكانت نتيجة تكذيبهم السريع لنبيهم أن أخذهم العذاب العاجل الذى استأصل شأفتهم، والحال أنهم هم الظالمون لأنفسهم، لأن هذا العذاب ما نزل بهم إلا بعد أن كفروا بأنعم الله، وكذبوا رسوله.
هذا، والذى يتأمل هاتين الآيتين الكريمتين يراهما وإن كانتا تشملان حال كل قوم بدلوا نعمة الله كفرا .. إلا أنهما ينطبقان تمام الانطباق على كفار مكة.
وقد بين ذلك الإِمام الآلوسى -رحمه الله - فقال ما ملخصه: وحال أهل مكة - سواء أضرب المثل لهم خاصة، أم لهم ولمن سار سيرتهم كافة - أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب، فقد كانوا فى حرم آمن ويتخطف الناس من حولهم، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شئ رزقا، ولقد جاءهم رسول منهم تحار فى سمو مرتبته العقول صلى الله عليه وسلم فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله، وكذبوه صلى الله عليه وسلم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف، حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم:
"اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف" - ما أصابهم من جدب شديد، فاضطروا إلى أكل الجيف .. وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا يغيرون عليهم ...
ثم أمرهم - سبحانه - بأن يأكلوا مما أحله لهم، وأن يشكروه على نعمه، وأن يجتنبوا ما حرمه عليهم، فقال - تعالى -: { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ... }.