التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٤
-النحل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ففى هذه الآية الكريمة بين - سبحانه - أربع نعم على عباده فى تسخير البحر لهم.
أما النعمة الأولى فتتجلى فى قوله - تعالى - { وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً }.
والطرى: ضد اليابس، والمصدر الطراوة، وفعله طَرُوَ بوزن خشن وقرب.
أى: وهو - سبحانه - وحده الذى ذلل لكم البحر، بحيث مكنكم من الانتفاع به، وأقدركم على الركوب عليه، وعلى الغوص فيه، وعلى الصيد منه، لتأكلوا من أسماكه لحما. طريا غضا شهيا.
ووصف - سبحانه - لحم أسماكه بالطراوة، لأن أكله فى هذه الحالة أكثر فائدة، وألذ مذاقا، فالمنة بأكله على هذه الحالة أتم وأكمل.
وقال بعض العلماء: وفى وصفه بالطراوة، تنبيه إلى أنه ينبغى المسارعة إلى أكله، لأنه يسرع إليه الفساد والتغير، وقد أثبت الطب أن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء، فسبحان الخبير بخلقه، ومعرفته ما يضر استعماله وما ينفع، وفيه أيضا إيماء إلى كمال قدرته - تعالى - فى خلقه الحلو الطرى فى الماء المر الذى لا يشرب.
وقد كره العلماء أكل الطافى منه على وجه الماء، وهو الذى يموت حتف أنفه فى الماء فيطفو على وجهه، لحديث جابر - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم:
"ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا" .
فالمراد من ميتة البحر فى الحديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ما لفظه البحر لا ما مات فيه من غير آفة.
وقوله { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } نعمة ثانية من نعم الله - تعالى - للإِنسان فى تسخير البحر له.
والحلية - بالكسر - اسم لما يتحلى به الناس. وجمعها حِلى وحُلى - بضم الحاء وكسرها - يقال: تحلت المرأة إذا لبست الحلى، أى: ومن فوائد تسخير البحر لكم أنه سبحانه أقدركم على الغوص فيه، لتستخرجوا منه ما يتحلى به نساؤكم كاللؤلؤ والمرجان وما يشبههما.
قال - تعالى -
{ { مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تِكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } }. والتعبير بقوله - سبحانه - { تستخرجوا .. } يشير إلى كثرة الإِخراج فالسين والتاء للتأكيد، مثل استجاب بمعنى أجاب. كما يشير إلى أن من الواجب على المسلمين أن يباشروا بأنفسهم استخراج ما فى البحر من كنوز وألا يتركوا ذلك لأعدائهم.
وأسند - سبحانه - لباس الحلية إلى ضمير جمع الذكور فقال: { تلبسونها } على سبيل التغليب، وإلا فإن هذه الحلية يلبسها النساء فى معظم الأحيان.
قال الآلوسى ما ملخصه: وقوله { تلبسونها } أى: تلبسها نساؤكم، وأسند الفعل إلى ضمير الرجال، لاختلاطهم بهم، وكونهم متبوعين، أو لأنهم سبب لتزينهن، فإنهن يتزين ليحسن فى أعين الرجال، فكأن ذلك زينتهم ولباسهم.
قال القرطبى: "امتن، الله - تعالى - على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شئ منه، وإنما حرم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير، ففى الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة" .
وروى البخارى عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ذهب ..، فاتخذ الناس مثله، فرمى به وقال: لا ألبسه أبدا. ثم اتخذ خاتما من فضة فاتخذ الناس خواتم الفضة ..." .
وقوله - سبحانه -: { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ } نعمة ثالثة من نعمه - تعالى - فى تسخير البحر للناس وأصل المخر: الشق. يقال: مخر الماء الأرض إذا شقها. ويقال مخرت السفينة تمخَر، وتمخُر، مخرا، ومخورا، إذا جرت فى الماء وأخذت تشقه بمقدمتها.
أى: وترى - أيها العاقل - بعينيك السفن وهى تشق البحر بسرعة، متجهة من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى آخر، لا تحرسها إلا رعاية الله تعالى وقدرته، كما قال - سبحانه -:
{ { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ } }. والتعبير بقوله: { وترى .. } لاستحضار الحالة العجيبة عن طريق الرؤية البصرية، وهى حالة تدل على قدرة الله تعالى ورحمته بعباده. حيث سخر لهم السفن لتجرى فى البحر بأمره.
ثم بين - سبحانه - النعمة الرابعة من نعم تسخير البحر للناس فقال تعالى: { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } والابتغاء: الطلب للشئ عن رغبة ومحبة.
أى: وسخر لكم البحر - أيضا - لتستخرجوا منه الحلية، ولتطلبوا فضل الله تعالى ورزقه، عن طريق التجارات والأسفار على ظهر البحر من مكان إلى آخر. سعيا وراء الربح.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بحض الناس على شكره على نعمه فقال { ولعلكم تشكرون }.
أى: ولعلكم تشكرون الله - تعالى - على آلائه، حيث سخر لكم البحر، وجعله وسيلة من وسائل منفعتكم ومعاشكم.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن فوائد الجبال والأنهار والسبل والنجوم، فقال - تعالى -: { وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ... }.