التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَٱرْهَبُونِ
٥١
وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ
٥٢
وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
٥٣
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٥٤
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٥٥
-النحل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: اعلم أنه - سبحانه - لما بين فى الآيات الأولى، أن ما سوى الله - تعالى - سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجسام، منقاد وخاضع لجلاله - تعالى - وكبريائه - أتبعه فى هذه الآية بالنهى عن الشرك، وببيان أن كل ما سواه واقع فى ملكه وتحت تصرفه، وأنه غنى عن الكل، فقال - تعالى -: { وَقَالَ ٱللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ ... }.
أى: وقال الله - تعالى - لعباده عن طريق رسله - عليهم الصلاة والسلام - لا تتخذوا شركاء معى فى العبادة والطاعة، بل اجعلوهما لى وحدى، فأنا الخالق لكل شئ والقادر على كل شئ.
قال الآلوسى: وقوله { وقال الله .. } معطوف على قوله - سبحانه -
{ { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ .. } }. وإظهار الفاعل، وتخصيص لفظ الجلالة بالذكر، للإِيذان بأنه - تعالى - متعين الألوهية. والمنهى عنه هو الاشراك به، لا أن المنهى عنه هو مطلق اتخاذ إلهين ..".
{ اثنين } صفة للفظ إلهين أو مؤكد له. وخص هذا العدد بالذكر، لأنه الأقل، فيعلم انتفاء اتخاذ ما فوقه بالطريق الأولى.
وقوله - سبحانه - { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } بيان وتوكيد لما قبله، وهو مقول لقوله - سبحانه - { وقال الله }.
أى: وقال الله لا تتخذوا معى فى العبادة إلها آخر، وقال - أيضا - إنما المستحق للعبادة إله واحد، والقصر فى الجملة الكريمة من قصر الموصوف على الصفة، أى: الله وحده هو المختص بصفة الوحدانية.
وقد نهى - سبحانه - عن الشرك فى آيات كثيرة، وأقام الأدلة على بطلانه ومن ذلك قوله - تعالى -
{ { ... وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً } وقوله - سبحانه - { { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } }. والفاء فى قوله { فإياى فارهبون } واقعة فى جواب شرط مقدر و{ إياى } مفعول به لفعل محذوف يقدر مؤخرا، يدل عليه قوله { فارهبون }.
والرهبة: الخوف المصحوب بالتحرز، وفعله رهب بزنة طرب.
والمعنى: إن رهبتم شيئا فإياى فارهبوا دون غيرى، لأنى أنا الذى لا يعجزنى شئ.
وفى الجملة الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب، للمبالغة فى التخويف، إذ تخويف الحاضر أبلغ من تخويف الغائب، لا سيما بعد أن وصف - سبحانه - ذاته بما وصف من صفات القهر والغلبة والكبرياء.
وقدم المفعول وهو إياى لإِفادة الحصر، وحذف متعلق الرهبة، للعموم.
أى: ارهبونى فى جميع ما تأتون وما تذرون.
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها قد اشتملت على ألوان من المؤكدات للنهى عن الشرك، والأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - وحده، تارة عن طريق التقرير { وقال الله .. } وتارة عن طريق النهى الصريح، وتارة عن طريق القصر وتارة عن طريق التخصيص.
وذلك لكى يقلع الناس عن هذه الرذيلة النكراء، ويؤمنوا بالله الواحد القهار.
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته، ونفاذ إرادته، فقال - تعالى -: { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً .. }.
والمراد بالدين هنا: الطاعة والخضوع بامتثال أمره واجتناب نهيه، وقد أتى الدين بمعنى الطاعة فى كثير من كلام العرب، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم فى معلقته:

وأياما لنا غرا كراما عصينا الملك فيها أن ندينا

أى: عصيناه وامتنعنا عن طاعته وعن الخضوع له.
قوله { واصبا } من الوصوب بمعنى الدوام والثبات، يقال: وصب الشئ يصب - بكسر الصاد - وصوبا، إذا دام وثبت. ومنه قوله - تعالى -
{ { دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } أى: دائم.
أى: ولله - تعالى - وحده ما فى السماوات وما فى الأرض ملكا وخلقا، لا شريك له فى ذلك، ولا منازع له فى أمره أو نهيه .. وله - أيضا - الطاعة الدائمة، والخضوع الباقى الثابت الذى لا يحول ولا يزول.
والآية الكريمة معطوفة على قوله { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ }.
والاستفهام فى قوله { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ } للإِنكار والتعجيب، والفاء للتعقيب، وهى معطوفة على محذوف، والتقدير، أفبعد أن علمتم أن الله - تعالى - له ما فى السماوات والأرض، وله الطاعة الدائمة .. تتقون غيره، أو ترهبون سواه؟
إن من يفعل ذلك لا يكون من جملة العقلاء، وإنما يكون من الضالين الجاهلين.
ثم بين - سبحانه - أن كل نعمة فى هذا الكون، هو - سبحانه - مصدرها وموجدها، فقال: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ .. }.
أى: وكل نعمة عندكم كعافية فى أبدانكم، ونماء فى مالكم، وكثرة فى أولادكم، وصلاح فى بالكم .. فهى من الله - تعالى - وحده.
فالمراد بالنعمة هنا النعم الكثيرة التى أنعم بها - سبحانه - على الناس، لأنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معينة، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد فى معنى الجمع - اعتمادا على القرينة - من أبلغ الأساليب الكلامية، و"ما" موصولة مبتدأ، متضمنة معنى الشرط. وقوله { فمن الله } خبرها.
وقوله { من نعمة } بيان لما اشتملت عليه "ما" من إبهام.
وقوله - سبحانه - { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } بيان لطبيعة الإِنسان، ولموقفه من خالقه - عز وجل - والضر: يشمل المرض والبلاء والفقر وكل ما يتضرر منه الإِنسان.
وقوله { تجأرون } من الجؤار بمعنى - رفع الصوت بالاستغاثة وطلب العون، يقال: جأر فلان يجأر جأرا وجؤارا، إذا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث وأصله: صياح الوحش. ثم استعمل فى رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
أى: كل ما يصاحبكم من نعمة فهو من الله - تعالى - فكان من الواجب عليكم أن تشكروه على ذلك، ولكنكم لم تفعلوا، فإنكم إذا نزل بكم الضر، صحتم بالدعاء، ورفعتم أصواتكم بالتضرع، ليكشف عنكم ما حل بكم، فإذا ما كشف - سبحانه - عنكم الضر، سرعان ما يقع فريق منكم فى الشرك الذى نهى الله - تعالى - عنه.
و"ثم" فى هاتين الآيتين للتراخى الرتبى، لبيان الفرق الشاسع بين حالتهم الأولى وحالتهم الثانية.
والتعبير بالمس فى قوله { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ .. } للإِيماء بأنهم بمجرد أن ينزل بهم الضر ولو نزولا يسيرا، جأروا إلى الله - تعالى - بالدعاء لكشفه.
وقدم - سبحانه - الجار والمجرور فى قوله { فإليه تجأرون } لإِفادة القصر، أى إليه وحده ترفعون أصواتكم بالدعاء ليرفع عنكم ما نزل بكم من بلاء، لا إلى غيره؛ لأنكم تعلمون أنه لا كاشف للضر إلا هو - سبحانه -.
و"إذا" الأولى فى قوله { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ .. } شرطية والثانية وهى قوله { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم .. } فجائية، وهى جواب الأولى.
وهذا التعبير يشير إلى مسارعة فريق من الناس، إلى جحود نعم الله - تعالى - بمجرد أن يكشف عنهم الضر بدون تريث أو تمهل.
وقال - سبحانه - { فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } لتسجيل الشرك على هذا الفريق ولإِنصاف غيره من المؤمنين الصادقين، الذين يشكرون الله - تعالى - فى جميع الأحوال، ويواظبون على أداء ما كلفهم به فى السراء والضراء.
وهذا المعنى الذى تضمنته هاتان الآيتان، قد جاء ما يشبهه فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى:
{ { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } }. وقوله - سبحانه -: { { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ .. } }. فهذه الآيات الكريمة تصور الطبائع البشرية أكمل تصوير وأصدقه، إذ الناس - إلا من عصم الله - يجأرون إلى الله - تعالى - بالدعاء عند الشدائد والمحن، وينسونه عند السراء والرخاء.
واللام فى قوله { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ .. } يصح أن تكون للتعليل، وأن تكون هى التى تسمى بلام العاقبة أو الصيرورة.
قال الشوكانى: "واللام فى { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ .. } لام كى. أى: لكى يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضر، حتى لكأن هذا الكفر منهم الواقع فى موقع الشكر الواجب عليهم، غرض لهم ومقصد من مقاصدهم. وهذا غاية فى العتو والعناد ليس وراءها غاية.
وقيل: اللام للعاقبة: يعنى ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلا الكفر ..".
وقوله - سبحانه -: { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } تهديد ووعيد لهم على جحودهم لنعم الله - تعالى - والجملة الكريمة معمولة لقول محذوف.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - اعملوا ما شئتم وانتفعوا من متاع الدنيا كما أردتم فسوف تعلمون سوء عاقبتكم يوم القيامة.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا من عقائدهم الباطلة، وأفعالهم القبيحة التى تمجها العقول السليمة، والأفكار القويمة، فقال - تعالى -: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَٱللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ... }.