التفاسير

< >
عرض

وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
٦٨
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
٦٩
-النحل

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { وأوحى } من الوحى، وهو هنا بمعنى الإِلهام، وهو - كما يقول القرطبى - ما يخلقه الله - تعالى - فى القلب ابتداء من غير سبب ظاهر. ومنه قوله - تعالى -: { { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها، وترك ما يضرها، وتدبير معاشها ...
وقال صاحب الكشاف: والإِيحاء إلى النحل: إلهامها والقذف فى قلوبها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فتأنقها فى صنعتها ولطفها فى تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها دلائل شاهدة على أن الله - تعالى - أودعها علما بذلك وفطنها، كما أودع أولى العقول عقولهم ...
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ويشمل كل من يصلح للخطاب من الأمة الإِسلامية.
والنحل: اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء، ويطلق على الذكر والأنثى، وسمى بذلك لأن الله - تعالى - نحله أى منحه العسل الذى يخرج منه.
وقوله - سبحانه -: { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } بيان لما ألهمه الله النحل من أوامر. ولما كلفها به من أعمال.
و"أن" مفسرة لأن الإِيحاء فيه معنى القول دون حروفه وما بعدها لا محل له من الإِعراب، ويجوز بأن تكون مصدرية فيكون ما بعدها فى محل نصب على تقدير الجار. أى: بأن اتخذى.
والمعنى: وألهم ربك النحل وأرشدها وهداها إلى أن تتخذ من فجوات الجبال بيوتا تسكن فيها، وكذلك من تجاويف الأشجار ومما يرفعه الناس ويعرشونه من السقوف وغيرها.
يقال: عرش الشئ يعرشه - بكسر الراء وضمها - إذا رفعه عن الأرض، ومنه العريش الذى صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر لمشاهدة سير المعركة.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت ما معنى "من" فى قوله { أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ }؟ وهلا قيل فى الجبال وفى الشجر؟.
قلت: أريد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها فى كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش، ولا فى كل مكان منها.
وقد علق الشيخ ابن المنير على هذا الكلام بقوله: "ويتزين هذا المعنى الذى نبه عليه الزمخشرى فى تبعيض "من" المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل، كأنه - تعالى - وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه، وإن حجر عليها فى البيوت، وأمرت باتخاذها فى بعض المواضع دون بعض لأن مصلحة الأكل على الإِطلاق باستمرار مشتهاها منه، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها فى كل موضع. ولهذا المعنى دخلت ثم فى قوله { ثم كلى ... } لتفاوت الأمر بين الحجر عليها فى اتخاذ البيوت، والإِطلاق لها فى تناول الثمرات، كما تقول: راع الحلال فيما تأكله ثم كل أى شئ شئت. فتوسط ثم لتفاوت. الحجر والإِطلاق فسبحان اللطيف الخبير".
وقوله: { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً .. } بيان للون آخر من الإِلهامات التى ألهمها الله - تعالى - إياها.
والسبل: جمع سبيل. والمراد بها الطرق التى تسلكها النحلة فى خروجها من بيتها وفى رجوعها إليه وأضاف - سبحانه - السبل إليه، لأنه هو خالقها وموجدها.
وذللا: جمع ذلول وهو الشئ الممهد المنقاد، وهو حال من السبل، أى: فاسلكى سبل ربك حال كونها ممهدة لك، لا عسر فى سلوكها عليك، وإن كانت صعبة بالنسبة لغيرك.
قالوا: ربما أجدب عليها ما حولها، فتنتجع الأماكن البعيدة للمرعى، ثم تعود إلى بيوتها دون أن تضل عنها.
وقيل إن { ذللا } حال من النحلة أى: ثم كلى من كل الثمرات، فاسلكى سبل ربك، حالة كونك منقادة لما يراد منك، مطيعة لما سخرك الله له من أمور تدل على قدرته وحكمته - سبحانه -.
وقوله - تعالى -: { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } كلام مستأنف، عدل به من خطاب النحلة الى خطاب الناس، تعديدا للنعم، وتعجيبا لكل سامع، وتنبيها على مواطن العظات والعبر الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وعجيب صنعه فى خلقه.
أى: يخرج من بطون النحل - بعد أكلها من كل الثمرات وبعد اتخاذها بيوتها - شراب هو العسل، مختلف ألوانه ما بين أبيض وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل، على حسب اختلاف مراعيها ومآكلها وسنها، وغير ذلك بما اقتضته حكمته - سبحانه -.
والضمير فى قوله - تعالى -: { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } يعود على الشراب المستخرج من بطونها وهو العسل.
أى: فى العسل شفاء عظيم للناس من أمراض كثيرة تعرض لهم.
وقيل: الضمير يعود إلى القرآن الكريم، والتقدير: فيما قصصنا عليكم فى هذا القرآن الشفاء للناس.
وهذا القيل وإن كان صحيحا فى ذاته، إلا أن السياق لا يدل عليه، لأن الآية تتحدث عما يخرج من بطون النحل وهو العسل، ولا وجه للعدول عن الظاهر، ومخالفة المرجع الواضح.
قال الإِمام ابن كثير: والدليل على أن المراد بقوله { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } هو العسل، الحديث الذى رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما عن أبى سعيد الخدرى - رضى الله عنه -،
"أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخى استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا. قال: اذهب فاسقه عسلا. فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدق الله وكذب بطن أخيك. اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه عسلا فبرئ" .
ثم ساق الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث فى هذا المعنى منها ما رواه البخارى عن ابن عباس قال: "الشفاء فى ثلاثة: فى شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار، وأنهى أمتى عن الكى" .
وروى البخارى - أيضا - عن جابر بن عبد الله قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن كان فى شئ من أدويتكم - أو يكون فى شئ من أدويتكم - خير: ففى شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار، توافق الداء، وما أحب أن أكتوى" .
وقال صاحب فتح البيان: وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذى جعله الله فى العسل عام لكل داء، أو خاص ببعض الأمراض.
فقال طائفة: هو على العموم فى كل حال ولكل أحد.
وقالت طائفة: أخرى: إن ذلك خاص ببعض الأمراض، ولا يقتضى العموم فى كل علة وفى كل إنسان، وليس هذا بأول لفظ خصص فى القرآن فالقرآن مملوء منه، ولغة العربى يأتى فيها العام كثيرا بمعنى الخاص، والخاص بمعنى العام.
ومما يدل على هذا، أن العسل نكرة فى سياق الإِثبات فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان. ومحققى أهل الأصول. وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض، أو أمراض، لا لكل مرض، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم.
ثم قال: قلت: وحديث البخارى: أن أخى استطلق بطنه .. أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء، لأن قوله صلى الله عليه وسلم "صدق الله" أى: أنه شفاء فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا.
والذى نراه، أن من الواجب علينا أن نؤمن إيمانا جازما بأن العسل المذكور فيه شفاء للناس، كما صرح بذلك القرآن الكريم، وكما أرشد إلى ذلك النبى صلى الله عليه وسلم.
وعلينا بعد ذلك أن نفوض أمر هذا الشفاء وعموميته وخصوصيته لعلم الله - تعالى - وقدرته وحكمته ويكفينا يقينا فى هذا المجال، إصرار النبى صلى الله عليه وسلم على أن يقول للرجل الذى استطلق بطن أخيه أكثر من مرة، "اذهب فاسقه عسلا".
وقد تولى كثير من الأطباء شرح هذه الآية الكريمة شرحا علميا وافيا، وبينوا ما اشتمل عليه عسل النحل من فوائد.
ثم ختم - سبحانه -: الآية الكريمة بقوله: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.
أى: إن فى ذلك الذى ذكرناه لكم من أمر النحل؛ من إلهامها اتخاذ البيوت العجيبة، ومن إدارتها لشئون حياتها بدقة متناهية، ومن سلوكها الطرق التى جعلها الله مذللة فى ذهابها وإيابها للحصول على قوام حياتها، ومن خروج العسل من بطونها ... إن فى ذلك وغيره، لآية باهرة، وعبرة ظاهرة، ودلالة جلية، على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، وحكمته، لقوم يحسنون التفكير فيما أخبرهم الله - تعالى - عنه، ويوقنون بأن لهذا الكون ربا واحدا لا إله إلا هو
{ { تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } }. وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا ألوانا من عجائب صنع الله فى خلقه، كاستخراج اللبن من بين فرث ودم، وكاتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، وكاستخراج العسل الذى فيه شفاء للناس من بطون النحل.
فهذه الأشربة قد أخرجها الله - تعالى - من أجساد مخالفة لها فى شكلها، وقد ساقها - سبحانه - فى آيات جمع بينها التناسق الباهر فى عرض هذه النعم، مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله،
{ { .. وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } }. وبعد هذا الحديث المتنوع عن عجائب خلق الله - تعالى - فى الأنعام والأشجار والنحل .. ساقت السورة الكريمة ألوانا أخرى من مظاهر قدرته - تعالى - فى خلق الإنسان، وفى التفاضل فى الأرزاق، ومن نعمه على عباده فى إيجاد الأزواج والبنين والحفدة .. فقال - تعالى -: { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ... }.