التفاسير

< >
عرض

وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
١٢
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً
١٣
ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
١٤
مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال أبو حيان: قوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ .. } لما ذكر - سبحانه - القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة، ذكر ما أنعم به مما لم يمكن الانتفاع إلا به، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوى. وأيضا لما ذكر عجلة الإِنسان، وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك فى الانتقال لا يثبت على حال، فنور عقب ظلمة وبالعكس، وازدياد نور وانتقاص آخر.
والمراد بالآيتين هنا: العلامتان الواضحتان، الدالتان على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته.
وقوله: { فمحونا } من المحو بمعنى إزالة أثر الشئ، يقال: محا فلان الشئ محوا - من باب قتل - إذا أزال أثره.
وللعلماء فى تفسير هذه الآية اتجاهات: أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه، أن المراد بالآيتين: نفس الليل والنهار، وأن الكلام ليس فيه حذف.
فيكون المعنى: وجعلنا الليل والنهار - بهيئاتهما الثابتة، وتعاقبهما الدائم، واختلافهما طولا وقصرا - آيتين كونيتين كبيرتين، دالتين على أن لهما صانعا قادرا، حكيما، هو الله رب العالمين.
وقوله - سبحانه - { فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ } أى: فجعلنا الآية التى هى الليل. ممحوة الضوء، مظلمة الهيئة، مختفية فيها الأشياء، ساكنة فيها الحركات.
وقوله - تعالى -: { وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } أى: وجعلنا الآية التى هى النهار مضيئة، تبصر فيها الأشياء وترى بوضوح وجلاء.
وعلى هذا الاتجاه، تكون إضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشئ إلى نفسه، مع اختلاف اللفظ، تنزيلا لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف فى المعنى، كما فى قوله - تعالى -
{ { شهر رمضان } فرمضان هو نفس الشهر.
وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه أن الكلام على حذف مضاف، وأن المراد بالآيتين: الشمس والقمر، فيكون المعنى: وجعلنا نيرى الليل والنهار - وهما الشمس والقمر - آيتين دالتين على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته، فمحونا آية الليل - وهى القمر -، بأن أزلنا عنه شعاعه وضياءه، ولم نجعله كالشمس فى ذلك، وجعلنا آية النهار - وهى الشمس - مبصرة، أى: ذات شعاع وضياء يبصر فى ضوئها الشئ على حقيقته.
وقد ذكر صاحب الكشاف هذين الوجهين دون أن يرجح بينهما فقال: قوله - تعالى -: { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ .. } فيه وجهان: أحدهما: أن يراد أن الليل والنهار آيتان فى أنفسهما، فتكون الإِضافة فى آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أى: فمحونا الآية التى هى الليل، وجعلنا الآية التى هى النهار مبصرة.
والثانى: أن يراد: وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين، يريد الشمس والقمر ...
أى: فمحونا آية الليل التى هى القمر، حيث لم نخلق له شعاعا كشعاع الشمس تبصر به الأشياء، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر فى ضوئها كل شئ.
والذى نراه: أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة؛ ولأنه لا يحتاج إلى تقدير، وما كان كذلك أولى مما يحتاج إلى تقدير، ولأن الليل والنهار هما بذاتهما من أظهر العلامات والأدلة على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته.
وهناك عشرات الآيات القرآنية فى هذا المعنى، ومن ذلك قوله - تعالى -
{ { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } }. وقوله - تعالى -: { { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ... } }. وقال - تعالى -: { { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التى أوردها الله - تعالى - فى هذا المعنى.
وقوله - سبحانه -: { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } بيان لمظهر من مظاهر حكمته - تعالى - ورحمته بعباده.
والجملة الكريمة متعلقة بما قبلها، وهو قوله - سبحانه -: { وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } أى: جعلنا النهار مضيئا، لتطلبوا فيه ما تحتاجونه من أمور معاشكم، ومن الأرزاق التى قسمها الله بينكم.
قال الآلوسى ما ملخصه: وفى التعبير عن الرزق بالفضل، وعن الكسب بالابتغاء: دلالة على أنه ليس للعبد فى تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب، وإنما الإِعطاء من الله - تعالى - بطريق التفضل ...
وشبيه بهذه الجملة الكريمة قوله - تعالى -:
{ { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } }. فقوله - تعالى -: { لتسكنوا فيه } يعود إلى الليل. وقوله - تعالى -: { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعود على النهار.
ثم بين - سبحانه - حكمة أخرى ونعمة أخرى لجعله الليل والنهار على هذه الهيئة فقال: { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ }.
أى: وجعلنا الليل والنهار على هذه الصفة من التعاقب والاختلاف فى الطول والقصر لتعرفوا عن طريق ذلك عدد الأيام والشهور والأعوام، التى لا تستغنون عن معرفتها فى شئون حياتكم، ولتعرفوا - أيضا - الحساب المتعلق بها فى معاملاتكم، وبيعكم وشرائكم، وأخذكم وعطائكم، وصلاتكم، وصيامكم، وزكاتكم، وحجكم، وأعيادكم .. وغير ذلك مما تتوقف معرفته على تقلب الليل والنهار. وولوج أحدهما فى الآخر.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً }.
والتفصيل: من الفصل بمعنى القطع. والمراد به هنا: الإِبانة التامة للشئ بحيث يظهر ظهورا لا خفاء معه ولا التباس.
ولفظ { كل } منصوب على الاشتغال بفعل يفسره ما بعده.
أى: وفصلنا كل شئ تحتاجون إليه فى أمور دينكم ودنياكم، تفصيلا، واضحا جليا، لا خفاء معه ولا التباس، فقد أقمنا هذا الكون على التدبير المحكم، وعلى الصنع المتقن، وليس على المصادفات التى لا تخضع لنظام أو ترتيب.
ثم ساق - سبحانه - صورة من صور هذا التفصيل المحكم فى كل شئ فقال - تعالى -: { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ }.
والمراد بطائره: عمله الصادر عنه باختياره وكسبه، حسبما قدره الله - تعالى - عليه من خير وشر.
أى: وألزمنا كل إنسان مكلف عمله الناتج عنه، إلزاما لا فكاك له منه، ولا قدرة له على مفارقته.
وعبر - سبحانه - عن عمل الإِنسان بطائره، لأن العرب كانوا - كما يقول الآلوسى - يتفاءلون بالطير، فإذا سافروا ومر بهم الطير زجروه، فإن مر بهم سانحا - أى من جهة الشمال إلى اليمين - تيمنوا وتفاءلوا، وإن مر بارحا، أى: من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير استعارة تصريحية، لما يشبههما من قدر الله - تعالى - وعمل العبد، لأنه سبب للخير والشر.
وقوله - سبحانه -: { فى عنقه } تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط بين الإِنسان وعمله.
وخص - سبحانه - العنق بالذكر من بين سائر الأعضاء، لأن اللزوم فيه أشد، ولأنه العضو الذى تارة يكون عليه ما يزينه كالقلادة وما يشبهها، وتارة يكون فيه ما يشينه كالغل والقيد وما يشبههما.
قال الامام ابن كثير: وطائره: هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد - من خير أو شر، يلزم به ويجازى عليه: كما قال - تعالى -:
{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } }. وكما قال - تعالى -: { { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } }. والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه، قليله وكثيره: ويكتب عليه ليلا ونهارا، صباحا ومساء.
وقوله - سبحانه -: { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } بيان لحاله فى الآخرة بعد بيان حاله فى الدنيا.
والمراد بالكتاب هنا صحائف أعماله التى سجلت عليه فى الدنيا.
أى: ألزمنا كل إنسان مكلف عمله الصادر عنه فى الدنيا، وجعلناه مسئولا عنه دون غيره. أما فى الآخرة فسنخرج له ما عمله من خير أو شر "فى كتاب يلقاه منشورا" أى: مفتوحا بحيث يستطيع قراءته، ومكشوفا بحيث لا يملك إخفاء شئ منه، أو تجاهله، أو المغالطة فيه.
كتاب ظهرت فيه الخبايا والأسرار ظهورا يغنى عن الشهود والجدال.
كتاب مشتمل على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإِنسان، كما قال - تعالى -:
{ { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ } }. ثم بين - سبحانه - ما يخاطب به الإِنسان بعد أن فتح كتابه أمامه، فقال - تعالى - { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }.
أى: ويقال له بعد أن وجد كتابه منشورا أمامه، اقرأ كتابك هذا، وما اشتمل عليه من أعمال صدرت عنك فى الدنيا، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.
أى: محاسبا، كجليس بمعنى مجالس، أو حاسبا وعادًّا كصريم بمعنى صارم يقال حسب فلان على فلان قوله، إذا عده عليه.
ولفظ { كفى } هنا لازم، ويطرد فى هذه الحالة جر فاعله بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية و{ حسيبا } تمييز، وعليك متعلق به.
وتارة يأتى لفظ { كفى } متعديا، كما فى قوله - تعالى -:
{ { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } }. ثم ساق - سبحانه - قاعدة كلية، لتحمل كل إنسان نتيجة عمله، فقال - تعالى -: { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }.
والفعل { تزر } من الوزر بمعنى الإِثم والحمل والثقل. يقال: وزر يزر وزرا، أى: أثم، أو حمل حملا ثقيلا، ومنه سمى الوزير، لأنه يحمل أعباء تدبير شئون الدولة.
أى: من اهتدى إلى الطريق المستقيم، وقدم فى حياته العمل الصالح فثمرة هدايته راجعة إلى نفسه، ومن ضل عن الطريق القويم، وفسق عن أمر ربه فوبال ضلاله راجع إليه وحده، ولا تحمل نفس آثمة، إثم نفس أخرى، وإنما تسأل كل نفس عن آثامها فحسب.
وقد تكرر هذا المعنى فى كثير من آيات القرآن الكريم ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } }. وقوله - تعالى -: { { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ .. } }. ولا يتنافى هذا مع قوله - تعالى -: { { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ .. } }. وقوله - تعالى -: { { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ .. } }. لأن المقصود فى هاتين الآيتين وأشباههما، أن دعاة الكفر والفسوق والعصيان، يحملون ذنوبهم يوم القيامة، ويحملون فوق ذلك جانبا من ذنوب من كانوا هم سببا فى ضلالهم، لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها - كما جاء فى الحديث الصحيح - فهم يحملون آثام أنفسهم، والآثام التى كانوا سببا فى ارتكاب غيرهم لها.
كذلك لا يتنافى قوله - تعالى -: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } مع ما ثبت فى الحديث الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما من
"أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه .." .
لأن العلماء حملوا الحديث على أن يكون الميت قد أوصى بذلك قبل موته، أو أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته، مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه ويشقون الجيوب، ويلطمون الخدود .. فتعذيبه بسبب تفريطه، وعدم تنفيذه لقوله - تعالى -: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ .. } }. وقوله - تعالى -: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده - ورأفته بهم، وكرمه معهم.
قال الآلوسى: قوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } بيان للعناية الربانية إثر بيان آثار الهداية والضلالة بأصحابها، وعدم حرمان المهتدى من ثمرات هدايته. وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها.
أى: وما صح وما استقام منا، بل استحال فى سنتنا المبنية على الحكم البالغة .. أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا، على فعل شئ أو ترك شئ أصليا كان أو فرعيا، حتى نبعث إليه { رسولا } يهدى إلى الحق، ويردع عن الضلال، ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع ...
وقد وردت آيات كثيرة فى القرآن الكريم، تشبه هذه الآية، فى بيان أن الله - تعالى - لا يعذب أحدا من خلقه، حتى يبعث إليه رسولا يبشره وينذره، فيعصى ذلك الرسول، ويستمر فى كفره وضلاله بعد التبشير والإِنذار.
ومن هذه الآيات قوله - تعالى -:
{ { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } }. وقوله - تعالى -: { { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ } }. وقوله - تعالى -: { { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ .. } }. قال ابن كثير عند تفسيره لقوله - تعالى -: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }: هذا إخبار عن عدله - تعالى - وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، بإرسال الرسول إليه، كما قال - تعالى -: { { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَىٰ قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ .. } }. إلى غير ذلك من الآيات التى تدل على أن الله - تعالى - لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه ...
هذا، وما ذهب إليه الإِمام ابن كثير، والإِمام الآلوسى، من أن الله - تعالى - اقتضت رحمته وعدالته، أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، عن طريق إرسال الرسل، هو الذى نعتقده، وتطمئن إليه نفوسنا، لأنه هو الظاهر من معانى الآيات الكريمة، ولأنه هو المناسب لرحمة الله - تعالى - التى وسعت كل شئ.
وهناك من يرى أن من مات على الكفر فهو فى النار، ولو لم يرسل الله - تعالى - إليه رسولا، واستدلوا بأدلة لا مجال لذكرها هنا.
ثم ساق - سبحانه سنة من سننه فى إهلاك الأمم، وفى حال الذين يريدون العاجلة وحال الذين يريدون الآجلة، فقال - تعالى -: { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }.