التفاسير

< >
عرض

وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً
١٦
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
١٧
مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
١٨
وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً
١٩
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
٢٠
ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
٢١
لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً
٢٢
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال أبو حيان -رحمه الله -: لما ذكر - تعالى - فى الآية السابقة، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا، بين بعد ذلك علة إهلاكهم، وهى مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والتمادى على الفساد - فقال، سبحانه -: { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا .. }.
وقوله - سبحانه -: { أمرنا } من الأمر الذى هو ضد النهى، والمأمور به هو الإِيمان والعمل الصالح، والشكر لله رب العالمين، وحذف لظهوره والعلم به.
وقوله { مترفيها } جمع مترف، وهو المتنعم الذى لا يمنع من تنعمه، بل يترك يفعل ما يشاء. يقال: ترف فلان - كفرح - أى: تنعم، وفلان أترفته النعمة، أى: أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها فى وجوهها المشروعة.
والمراد بهم، أصحاب الجاه والغنى والسلطان، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب، ولكنهم استعملوها فى الفسوق والعصيان، لا فى الخير والإِحسان.
والمعنى: وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية، أمرنا مترفيها، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإِيمان والعمل الصالح، والمداومة على طاعتنا وشكرنا، فلم يستجيبوا لأمرنا، بل فسقوا فيها، وعاثوا فى الأرض فسادا.
وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وقال - سبحانه -: { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً ... } مع أن الهلاك لأهلها، للإِشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية، بحيث تصير هى وسكانها أثرا بعد عين.
وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم فى معظم الأحيان، ولأنهم فى أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى الله عنه، وإلى الانغماس فى المتع والشهوات.
والحكمة من هذا الأمر، هو الإِعذار والإِنذار، والتخويف والوعيد.
كما قال - تعالى -:
{ { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ .. } }. وهذا التفسير للآية الكريمة، سار عليه جمهور المفسرين.
ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك، فهو يرى أن الأمر فى الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التى أبطرتهم.
قال -رحمه الله -: قوله - تعالى -: { وإذا أردنا } وإذا دنا وقت إهلاك قوم، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم { ففسقوا } أى: أمرناهم بالفسق ففعلوا.
والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون، فبقى أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصى واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإِحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة، على المعصية، فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم ...
ومن المفسرين من يرى أن قوله - تعالى -: { أمرنا } بمعنى كثّرنا - بتشديد الثاء - وقرئ { أمّرنا } بتشديد الميم، أى: كثرنا مترفيها وجعلناهم أمراء مسلطين ..
ولكن هذه القراءة. وقراءة { آمرنا } بمعنى "كثرنا" أيضا، ليستا من القراءات السبعة أو العشرة، وإنما هما من القراءات الشاذة.
قال الإِمام ابن جرير: وأولى القراءات فى ذلك عندى بالصواب، قراءة من قرأ { أمرنا } بقصر الألف وتخفيف الميم - لإِجماع الحجة من القراء بتصويبها دون غيرها وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة، فأولى التأويلات به من تأوله: أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها. فحق عليهم القول، لأن الأغلب من معنى { أمرنا } الأمر الذى هو خلاف النهى دون غيره.
وتوجيه معانى كلام الله - جل ثناؤه - إلى الأشهر الأعرف من معانيه، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره ...
ويبدو لنا أن الرأى الأول الذى سار عليه جمهور المفسرين، وعلى رأسهم الإِمام ابن جرير، أولى بالقبول، لأسباب منها:
ان القرآن الكريم يؤيده فى كثير من آياته، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ .. } }. فقوله - تعالى -: { { قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ } دليل واضح على أن قوله - سبحانه -: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا .. } معناه: أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وليس معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا لأنه - سبحانه - لا يأمر لا بالفسق ولا بالفحشاء.
ومنها: أن الأسلوب العربى السليم يؤيده لأنك إذا قلت: أمرته فعصانى كان المعنى المتبادر والظاهر من هذه الجملة، أمرته بالطاعة فعصانى، وليس معناه. أمرته بالعصيان فعصانى.
ومنها: أن حمل الكلام على الحقيقة - كما سار جمهور المفسرين - أولى من حمله على المجاز - كما ذهب صاحب الكشاف -.
وقوله - سبحانه -: { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } بيان لما نزل بهذه القرية وأهلها من عذاب محاها من الوجود، إذ التدمير هو الإِهلاك مع طمس الأثر، وهدم البناء.
أى: أمرنا مترفيها بطاعتنا وشكرنا، فعصوا أمرنا وفسقوا فيها، فثبت وتحقق عليها عذابنا، فأهلكناها إهلاكا استأصل شأفتها، وأزال آثارها.
وأكد - سبحانه - فعل التدمير بمصدره، للمبالغة فى إبراز شدة الهلاك الواقع على تلك القرية الظالم أهلها.
قال الآلوسى ما ملخصه: والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه، وإهلاك جميعهم، لصدور الفسق منهم جميعا، فإن غير المترف يتبع المترف عادة ...
وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال - تعالى -:
{ { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ... } }. وقد صح "عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها قالت: قلت، يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث" .
ثم بين - سبحانه - أن هذه القرية لم تكن بدعا فى نزول العذاب بها، بل هناك قرى كثيرة عتت عن أمر ربها فأخذها - سبحانه - أخذ عزيز مقتدر، فقال - تعالى -: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ... }.
و{ كم } هنا خبرية أى: أن معناها الإِخبار عن عدد كثير، وهى فى محل نصب مفعول به لجملة { أهلكنا } و"من" فى قوله - تعالى -: { من القرون } بيان للفظ { كم } وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما "من" فى قوله - تعالى -: { مِن بَعْدِ نُوحٍ } فهى لابتداء الغاية.
والقرون: جمع قرن، ويطلق على القوم المقترنين فى زمان واحد. والمشهور أن مدته مائة سنة.
أى: أن هذه القرية المدمرة بسبب فسوق أهلها، وعصيانهم لأمرنا، ليست هى القرية الوحيدة التى نزل بها عذابنا، بل إننا قد أهلكنا كثيرا من القرى من بعد زمن نوح - عليه السلام - كقوم عاد وثمود وغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الكفر على الإِيمان والغى على الرشد.
وخص نوح - عليه السلام - بالذكر، لأنه أول رسول كذبه قومه وآذوه وسخروا منه .. فأهلكهم الله - تعالى - بالطوفان.
قال ابن كثير: ودل هذا على أن القرون التى كانت بين آدم ونوح على الإِسلام، كما قاله ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإِسلام.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالتهديد الشديد لمن يخالف أمره فقال - تعالى -: { وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً }.
أى: وكفى بربك - أيها الرسول الكريم - إحاطة واطلاعا وعلما بما يقدمه الناس من خير أو شر، فإنه - سبحانه - يعلم السر وأخفى.
والآية الكريمة بجانب أنها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فهى - أيضا - تهديد للمشركين، وإنذار لهم بأنهم إذا ما استمروا على كفرهم، ومعاداتهم للحق، وتطاولهم على من جاء به وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فسيكونون محلا لغضب الله - تعالى - وسخطه، ولنزول عذابه الذى أهلك به أمثالهم فى الشرك والكفر والجحود.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } }. وقوله - تعالى -: { { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } }. ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مصير الذين يؤثرون العاجلة على الآجلة، فقال - تعالى -: { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ }.
والمراد بالعاجلة: دار الدنيا، وهى صفة لموصوف محذوف أى: الدار العاجلة التى ينتهى كل شئ فيها بسرعة وعجلة.
أى: من كان يريد بقوله وعمله وسعيه، زينة الدار العاجلة وشهواتها فحسب، دون التفات إلى ثواب الدار الآخرة، { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا } أى: عجلنا لذلك الإِنسان فى هذه الدنيا، { ما نشاء } تعجيله له من زينتها ومتعها ..
وهذا العطاء العاجل المقيد بمشيئتنا ليس لكل الناس، وإنما هو { لمن نريد } عطاءه منهم، بمقتضى حكمتنا وإرادتنا.
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد قيد العطاء لمن يريد العاجلة بمشيئته وإرادته.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: "من كانت العاجلة همه، ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد. فقيد الأمر تقييدين: أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته، والثانى: تقييد المعجل له بإرادته.
وهكذا الحال، ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضا منه، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموا فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة وأما المؤمن التقى فقد اختار مراده، وهو غنى الآخرة فما يبالى أوتى حظا من الدنيا أو لم يؤت. فإن أوتى فيها شكر، وإن لم يؤت صبر، فربما كان الفقر خيرا له، وأعون على مراده.
وقوله { لمن نريد } بدل من { له } وهو بدل البعض من الكل، لأن الضمير يرجع إلى { من } وهو فى معنى الكثرة ومفعول نريد محذوف. أى: لمن نريد عطاءه.
وقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } بيان لسوء مصير هذا المريد للعاجلة فى الآخرة.
و{ يصلاها } أى: يلقى فيها ويذوق حرها وسعيرها: يقال: صليت الشاة: شويتها وصَلِىَ فلان بالنار - من باب تعب - إذا وجد حرها.
و{ مذموما } من الذم الذى هو ضد المدح.
و{ مدحورا } من الدحور بمعنى الطرد واللعن. يقال: دحره دحرا ودحورا، إذا طرده وأبعده.
أى: من كان يريد بسعيه الدنيا وزينتها أعطيناه منها ما نشاء إعطاءه له، أما فى الآخرة فقد جعلنا له جهنم يدخلها، ويصلى حرها ولهيبها، حالة كونه { مذموما } أى مبغوضا بسبب سوء صنيعه، { مدحورا } أى: مطرودا ومبعدا من رحمة الله - تعالى -.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: وفى لفظ هذه الآية فوائد: منها: أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإِهانة والذم، بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة فقوله: { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا } إشارة إلى المضرة العظيمة. وقوله { مذموما } إشارة إلى الإِهانة والذم. وقوله { مدحورا } إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله - تعالى -.
وهى تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة، وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص ...
وقوله - سبحانه -: { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } بيان لحسن عاقبة المؤمنين الصادقين بعد بيان سوء عاقبة المؤثرين لمتع الدنيا وشهواتها.
أى: ومن أراد بقوله وعمله ثواب الدار الآخرة، وما فيها من عطاء غير مقطوع، وسعى لهذه الدار سعيها الذى يوصله إلى مرضاة الله - تعالى - حالة كونه مؤمنا بالله - تعالى - وبكل ما يجب الإِيمان به، { فأولئك } الذى فعلوا ذلك، { كان سعيهم } للدار الآخرة سعيا { مشكورا }: من الله - تعالى -، حيث يقبله - سبحانه - منهم، ويكافئهم عليه بما يستحقون من ثواب لا يعلم مقداره إلا هو - سبحانه - وعبر - عز وجل - بالسعى عن أعمالهم الصالحة، للإِشعار بجدهم وحرصهم على أداء ما يرضيه - تعالى - بدون إبطاء أو تأخير، إذ السعى يطلق على المشى الذى تصاحبه السرعة. وأشار - سبحانه - إليهم بأولئك، للإِشعار بعلو درجاتهم وسمو مراتبهم.
قال بعض العلماء ما ملخصه: وفى الآية الدليل الواضح على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإِيمان بالله - تعالى - لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة.
ولذا قال - سبحانه -: { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ .. }.
وقد أوضح - سبحانه - هذا فى آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
{ { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } }. ومفهوم هذه الآية وأمثالها، أن غير المؤمن إذا قدم عملا صالحا فى الدنيا لا ينفعه فى الآخرة لفقد شرط الإِيمان، قال - تعالى -: { { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } }. وروى الإِمام مسلم فى صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها فى الدنيا، ويجزى بها فى الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله فى الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها" .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته، وسعة عطائه فقال: { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } ولفظ "كلا" هنا مفعول به للفعل نمد؛ والتنوين عوض عن المضاف إليه. أى: نمد كل واحد من الفريقين.
وقوله { نمد } من الإِمداد بمعنى الزيادة. يقال: أمد القائد الجيش بالجند، إذا زاده وقواه.
والمراد باسم الإِشارة الأول { هؤلاء }: المؤثرون للعاجلة، والمراد بالثانى الراغبون فى ثواب الآخرة.
والمعنى: كلا من الفريقين نمده من فضلنا وإحساننا فنعطى ما نريد إعطاءه لمن يريد العاجلة ولمن يريد الآجلة دون أن ينقص مما عندنا شئ، ودون أن يخرج عن مشيئتنا شئ.
{ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ } أيها الرسول الكريم { محظورا } أى: ممنوعا لا عن المؤمن ولا عن الكافر، ولا فى الدنيا ولا فى الآخرة.
من الحظر بمعنى المنع يقال: حظره يحظره - من باب قتل - فهو محظور، أى: ممنوع.
ثم أمر - سبحانه - عباده بالنظر والتأمل فى أحوال خلقه، ليزدادوا عظة وعبرة، فقال: { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }.
أى: انظر - أيها العاقل - نظر تأمل وتدبر واعتبار فى أحوال الناس، لترى عن طريق المشاهدة كيف فضل الله - تعالى - بعض الناس على بعض فى هذه الحياة، فهذا غنى وذاك فقير، وهذا قوى وذاك ضعيف، وهذا ذكى وذاك خامل، وهذا مالك وذاك مملوك.
إلى غير ذلك من الأحوال التى تدل على تفاوت الناس فى هذه الدنيا، على حسب ما تقتضيه إرادة الله - تعالى - وحكمته، ومشيئته.
أما فى الآخرة فالناس فيها أكبر تفاضلا وتفاوتا فى الدرجات والمنازل، مما كانوا عليه فى الدنيا.
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: وقوله: { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أى: ولتفاوتهم فى الدار الآخرة أكبر من الدنيا، فإن منهم من يكون فى الدركات فى جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون فى الدرجات العلا ونعيمها وسرورها. ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون، فإن فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفى الصحيحين:
"إن أهل الدرجات العلا ليرون أهل عليين، كما ترون الكوكب الغابر فى أفق السماء" .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا سنة من سنن الله - تعالى - فى إهلاك الأمم، وأنه - تعالى - ما أهلكها إلا بعد أن عتت عن أمره، وعصت رسله، كما أنها بينت لنا سوء عاقبة الذين يؤثرون متع الدنيا على طاعة الله - تعالى -، وحسن عاقبة الذين يريدون الآخرة وما فيها من ثواب جزيل، وأن الفريقين لا ينالون مما يطلبونه إلا ما قدره الله - تعالى - لهم، وأن عطاءه للناس جميعا لا ينقص مما عنده شيئا، وأن حكمته - سبحانه - قد اقتضت تفضيل بعض الناس على بعض فى الدنيا والآخرة، وصدق - عز وجل - حيث يقول: { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: بعد أن بين - سبحانه - أن الناس فريقان: فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وفريق يريد بعمله طاعة الله، ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة: أولها: إرادة الآخرة، وثانيها: أن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة، وثالثها: أن يكون مؤمنا.
لا جرم فصل فى هذه الآيات تلك المجملات: فبدأ أولا بشرح حقيقة الإِيمان ... ثم ذكر عقبيه سائر الأعمال ....
والخطاب فى قوله - تعالى -: { لا تجعل ... } لكل من يصلح له.
والقعود فى قوله { فتقعد } قيل بمعنى المكث: كما يقول القائل: فلان قاعد فى أسوأ حال، أى: ماكث فى أسوأ حال، سواء أكان قاعدا أم غير قاعد. وقيل بمعنى العجز، لأن العرب تقول: فلان ما أقعده عن المكارم، أى: ما أعجزه عنها، وقيل هو بمعنى الصيرورة، من قولهم: فلان شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أى: صارت.
والذى تطمئن إليه النفس أن القعود على حقيقته، لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا نادما على ما فرط منه.
وقوله - سبحانه -: { مخذولا } من الخذلان، وهو ترك النصرة عند الحاجة اليها.
يقال: خذل فلان صديقه، أى: امتنع عن نصره وعونه مع حاجته الشديدة إليهما.
والمعنى: لا تجعل - أيها المخاطب - مع الله - تعالى - إلها آخر فى عبادتك أو خضوعك، فتقعد جامعا على نفسك مصيبتين:
مصيبة الذم من الله - تعالى - ومن أوليائه، لأنك تركت عبادة من له الخلق والأمر، وعبدت ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا.
ومصيبة الخذلان، بحيث لا تجد من يعينك أو ينصرك، فى ساعة أنت أحوج ما تكون فيها إلى العون والنصر.
وجاء الخطاب فى قوله - تعالى -: { لا تجعل } عاما، لكى يشعر كل فرد يصلح للخطاب أن هذا النهى موجه إليه، وصادر إلى شخصه. لأن سلامة الاعتقاد مسألة شخصية، مسئول عنها كل فرد بذاته وسيحمل وحده تبعة انحرافه عن طريق الحق
{ { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } }. وقوله { فتقعد } منصوب لأنه وقع بعد الفاء جوابا للنهى. وقوله { مذموما مخذولا } حالان من الفاعل.
وفى هذه الجملة الكريمة تصوير بديع لحال الإِنسان المشرك، وقد حط به الذم والخذلان، فقعد مهموما مستكينا عاجزا عن تحصيل الخيرات، ومن السعى فى تحصيلها.
قال الآلوسى: وفى الآية الكريمة إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة.
ثم ساق - سبحانه - بضع عشرة آية، تناولت مجموعة من التكاليف تزيد على عشرين أمرا ونهيا.
وهذه التكاليف قد افتتحت بالنهى عن الإِشراك بالله - تعالى - وبالأمر بالإِحسان إلى الوالدين قال - تعالى -: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ... }.