التفاسير

< >
عرض

وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً
٢٦
إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً
٢٧
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً
٢٨
وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً
٢٩
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً
٣٠
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال أبو حيان فى البحر: "لما أمر الله - تعالى - ببر الوالدين، أمر بصلة القرابة. قال الحسن: نزلت فى قرابة النبى صلى الله عليه وسلم. والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله: { { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ ... } وألحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم، وسد الخلة، والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه. قال نحوه: ابن عباس وعكرمة والحسن وغيرهم".
والمراد بذوى القربى: من تربطك بهم صلة القرابة سواء أكانوا من المحارم أم لا.
والمسكين: هو من لا يملك شيئا من المال، أو يملك ما لا يسد حاجته، وهذا النوع من الناس فى حاجة إلى العناية والرعاية، لأنهم فى الغالب يفضلون الاكتفاء بالقليل، على إراقة ماء وجوههم بالسؤال.
وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس المسكين الذى يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال الذى لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا" .
وابن السبيل: هو المسافر المنقطع عن ماله سمى بذلك - كما يقول الآلوسى - لملازمته السبيل - أى: الطريق - فى السفر. أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته.
وهذا النوع من الناس - أيضا - فى حاجة إلى المساعدة والمعاونة، حتى يستطيع الوصول إلى بلده.
وفى هذا الامر تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغى أن يكونوا فى التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسرة الواحدة.
والمعنى: وأعط - أيها العاقل - ذوى قرباك حقوقهم الثابتة لهم من البر، وصلة الرحم، والمعاونة، والزيارة، وحسن المعاشرة، والوقوف إلى جانبهم فى السراء والضراء، ونحو ذلك مما توجبه تعاليم دينك الحنيف.
وأعط - كذلك - المسكين وابن السبيل حقوقهما التى شرعها الله - تعالى - لهما، من الإِحسان إليهما، ومعاونتهما على ما يسد حاجتهما.
وقدم - سبحانه - الأقارب على غيرهم، لأنهم أولى بالمعروف، ولأن إعطاءهم إحسان وصلة رحم.
روى الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم، عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذى الرحم اثنتان: صدقة وصلة" .
وقوله - سبحانه -: { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } نهى عن وضع المال فى غير موضعه الذى شرعه الله - تعالى - مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه فى الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، ثم استعير لتضييع المال فى غير وجوهه.
قال صاحب الكشاف: التبذير تفريق المال فيما لا ينبغى، وإنفاقه على وجه الإِسراف، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها فى الفخر والسمعة، وتذكر ذلك فى أشعارها، فأمر الله - تعالى - بالنفقة فى وجوهها، مما يقرب منه ويزلف ...
وقال ابن كثير: وقوله { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً }: لما أمر بالإِنفاق نهى عن الإِسراف فيه، بل يكون وسطا، كما قال - تعالى -:
{ { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } }. وقال ابن مسعود: التبذير: الإِنفاق فى غير حق. وكذا قال ابن عباس.
وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله فى الحق لم يكن مبذرا. ولو أنفق مُدا فى غير حقه كان تبذيرا.
وقوله: { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً } تعليل للنهى عن التبذير، وتنفير منه بأبلغ أسلوب.
والمراد بأخوة الشياطين: المماثلة لهم فى الصفات السيئة، والسلوك القبيح.
قال الإِمام الرازى: والمراد من هذه الأخوة، التشبه بهم فى هذا الفعل القبيح، وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشئ أخا له، فيقولون: فلان أخو الكرم والجود. وأخو السفر، إذا كان مواظبا على هذه الأعمال.
أى: كن - أيها العاقل - متوسطا فى نفقتك، ولا تبذر تبذيرا. لأن المبذرين يماثلون ويشابهون الشياطين فى صفاتهم القبيحة، وكان الشيطان فى كل وقت وفى كل حال جحودا لنعم ربه، لا يشكره عليها، بل يضعها فى غير ما خلقت له هذه النعم.
وفى تشبيه المبذر بالشيطان فى سلوكه السيئ، وفى عصيانه لربه، إشعار بأن صفة التبذير من أقبح الصفات التى يجب على العاقل أن يبتعد عنها، حتى لا يكون مماثلا للشيطان الجاحد لنعم ربه.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما يجب على المؤمن فعله فى حال عدم قدرته على تقديم العون للأقارب والمحتاجين، فقال - تعالى -: { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً }.
ولفظ { إما } مركب من "إن" الشرطية، ومن "ما" المزيدة. أى: إن تعرض عنهم.
وقوله { تعرضن } من الإِعراض، بمعنى صرف الوجه عن السائل حياء منه وبسبب عدم القدرة على تلبية طلبه.
وقوله: { ابتغاء } مفعول لأجله منصوب بتعرضن، وهو من باب وضع المسبب موضع السبب. لأن الأصل: وإما تعرضن عنهم لإِعسارك.
والمراد بالرحمة: انتظار الحصول على الرزق، وحلول الفرج بعد الضيق.
والميسور: اسم مفعول من يسر الأمر - بالبناء للمفعول - مثل سعد الرجل، ومعناه: السهل اللين.
والمعنى: وإما تعرضن - أيها المخاطب - عن ذى قرابتك وعن المسكين وابن السبيل، بسبب إعسارك وانتظارك لرزق يأتيك من الله - عز وجل - فقل لهم فى هذه الحالة قولا لينا رفيقا يدل على اهتمامك بشأنهم، ويدخل السرور على نفوسهم، كأن تقول لهم مثلا -: ليس عندى اليوم ما أقدمه لكم، وإن يرزقنى الله بشئ فسأجعل لكم نصيبا منه.
قال القرطبى ما ملخصه: وهو تأديب عجيب، وقول لطيف بديع، أى لا تعرض عنهم إعراض مستهين عن ظهر غنى وقدرة فتحرمهم، وإنما يجوز أن تعرض عنهم عند عجز يعرض، وعائق يعوق، وأنت عند ذلك ترجو من الله - تعالى - فتح باب الخير، لتتوصل به إلى مواساة السائل، فإن قعد بك الحال { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } أى لينا لطيفا .. ولقد أحسن من قال:

إلاَّ تكن وَرِقٌ يوماً أجود بها للسائلين فإنى لينُ العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقى إما نوالى وإما حسنُ مردود

ثم أرشد - سبحانه - عباده إلى أفضل الطرق لإِنفاق أموالهم والتصرف فيها، فقال - تعالى -: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }.
وقوله { مغلولة } من الغل - بضم الغين - وأصله الطوق الذى يجعل فى العنق وتربط به اليد، كما يربط المذنب والأسير: وهو كناية عن البخل والتقتير.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط. ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة. حتى أنه يستعمله فى ملك لا يعطى عطاء قط، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها. ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان للبخل والجود ...
وقوله: { محسورا } من الحسور بمعنى الانقطاع عن الشئ، والعجز عن الحصول عليه.
يقال: فلان حسره السير، إذا أثر فيه أثرا بليغا جعله يعجز عن اللحاق برفقائه.
ويقال: بعير محسور. أى: ذهبت قوته وأصابه الكلل والإِعياء. فصار لا يستطيع النهوض بما يوضع عليه من أحمال.
والمقصود من الآية الكريمة: الأمر بالتوسط والاعتدال فى الإِنفاق والنهى عن البخل والإِسراف.
فقد شبه - سبحانه - مال البخيل، بحال من يده مربوطة إلى عنقه ربطا محكما بالقيود والسلاسل، فصار لا يستطيع تحريكها أو التصرف بها.
وشبه حال المسرف والمبذر، بحال من مد يده وبسطها بسطا كبيرا، بحيث أصبحت لا تمسك شيئا يوضع فيها سواء أكان قليلا أم كثيرا.
والمعنى: كن - أيها الإِنسان - متوسطا فى كل أمورك، ومعتدلا فى إنفاق أموالك بحيث لا تكون بخيلا ولا مسرفا، فان الإِسراف والبخل يؤديان بك إلى أن تصير ملوما. أى: مذموما من الخلق والخالق، محسورا، أى: مغموما منقطعا عن الوصول إلى مبتغاك بسبب ضياع مالك، واحتياجك إلى غيرك.
قال الآلوسى ما ملخصه: فالآية الكريمة تحض على التوسط، وذلك هو الجود الممدوح، فخير الأمور أوساطها. وأخرجه أحمد وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما عال من اقتصد" . وأخرجه البيهقى عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الاقتصاد فى النفقة نصف المعيشة" . وفى رواية عن أنس مرفوعا: "التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل، والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين" وكما يقال: حسن التدبير مع الكفاف، خير من الغنى مع الإِسراف.
ثم بين - سبحانه - أن مرجع الأمور كلها اليه، فهو المعطى وهو المانع، فقال - تعالى -: { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً }.
أى: إن ربك - أيها الانسان - العاقل - يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء أن يبسطه له ويمسك الرزق ويضيقه ويقدره على من يشاء من خلقه. إذ كل شئ فى هذا الكون يسير على حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته، وهو - سبحانه - العليم ببواطن الناس وبظواهرهم، لا يخفى عليه شئ من أحوالهم، ولا يعطى أو يمنع، إلا لحكمة هو يعلمها.
قال - تعالى -:
{ { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } }. وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد حضت على إيتاء ذوى القربى والمساكين وابن السبيل حقوقهم. وعلى الاعتدال فى إنفاق المال، ونهت عن الشح والتبذير، وأسندت العطاء والمنع إلى الله - تعالى - الخبير البصير بالظواهر والبواطن.
ثم يسوق - سبحانه - جملة من النواهى التى يؤدى الوقوع فيها إلى فساد أحوال الأفراد والجماعات، وإلى شيوع الفاحشة فى الأمم، مما يؤدى إلى اضمحلالها وذهاب ريحها، فقال - تعالى -: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ... }.