التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً
٣١
وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً
٣٢
وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً
٣٣
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
٣٤
وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٣٥
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
٣٦
وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً
٣٧
كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً
٣٨
ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً
٣٩
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ... } نهى عن قتل الأولاد بعد بيان أن الأرزاق بيده - سبحانه -، يبسطها لمن يشاء، ويضيقها على من يشاء.
والإِملاق: الفقر. يقال: أملق الرجل إذا افتقر قال الشاعر:.

وإنى على الإِملاق يا قوم ماجد أعد لأضيافى الشواء المصهبا

قال الآلوسى: وظاهر اللفظ النهى عن جميع أنواع قتل الأولاد، ذكورا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة.
لكن روى أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن، فنهى فى الآية عن ذلك، فيكون المراد بالأولاد البنات، وبالقتل الوأد ...
أى: ولا تقتلوا - أيها الآباء - أولادكم خشية فقر متوقع، فنحن قد تكفلنا برزقهم ورزقكم، وأرزاق غيركم من مخلوقاتنا التى لا تحصى.
قال - تعالى -:
{ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا .. } }. ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم، فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم، والتخلص منهم خوفا من الفقر المتوقع فى المستقبل، مع أن الله - تعالى - هو الرازق لهم ولكم فى كل زمان ومكان.
وقد ورد النهى عن قتل الاولاد هنا بهذه الصيغة، وورد فى سورة الأنعام بصيغة أخرى، هى قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } }. وليست أحدهما تكرارا للأخرى وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة.
فهنا يقول - سبحانه -: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } لأن النهى موجه بالأصالة إلى الموسرين الذين يقتلون أولادهم لا من أجل فقر كائن فيهم، وإنما من أجل فقر هم يتوهمون حصوله فى المستقبل بسبب الأولاد، لذا قال - سبحانه - { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر، فى زعم آبائهم - لكى يمتنع الآباء عن هذا التوقع ولكى يضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء.
وقال - سبحانه - هناك { من إملاق } لأن النهى متوجه أصالة إلى الآباء المعسرين: أى لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم - أيها الآباء -، فقد يجعل الله بعد عسر يسرا، ولذا قال - سبحانه -: { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فجعل الرزق للآباء ابتداء. لكى يطمئنهم - سبحانه - على أنه هو الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم.
وفى كلتا الحالتين، القرآن الكريم ينهى عن قتل الأولاد، ويغرس فى نفوس الآباء الثقة بالله - تعالى - والاعتماد عليه.
وجملة { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } تعليل للنهى عن قتل الأولاد، بإبطال موجبه - فى زعمهم - وهو الفقر.
أى: نحن نرزقهم لا أنتم، ونرزقكم أنتم معهم، وما دام الأمر كذلك فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء: وهى قتل الأولاد، لأن الأولاد، قطعة من أبيهم، والشأن - حتى فى الحيوان الأعجم - أنه يضحى من أجل أولاده ويحميهم، ويتحمل الصعاب فى سبيلهم.
وقوله { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } تعليل آخر للنهى عن قتل الأولاد جئ به على سبيل التأكيد.
والخِطْء: هو الإِثم - وزنا ومعنى -، مصدر خَطِئَ خِطْئاً كأثم إثما من باب علم.
أى: أن قتل الأولاد كان عند الله - تعالى - إثما كبيرا فاحشا، يؤدى إلى التعاسة والشقاء فى الدنيا والآخرة:
والحق أن المجتمع الذى يبيح قتل الأولاد، خوفا من الفقر أو العار، لا يمكن أن يصلح شأنه، لأنه مجتمع نفعى تسوده الأثرة والأنانية والتشاؤم والأوهام، لأن أفراده يظنون أن الله يخلق خلقا لا يدبر لهم رزقهم، ويعتدون على روح بريئة طاهرة، تخوفا من فقر أو عار مترقب، وذلك هو الضلال المبين.
ورحم الله الإِمام الرازى فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر، فهو سوء ظن بالله. وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى فى تخريب العالم. فالأول: ضد التعظيم لأمر الله - تعالى - والثانى: ضد الشفقة على خلقه، وكلاهما مذموم.
ولقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم برعاية الأبناء، وحذر من الاعتداء عليهم فى أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين
" عن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله، أى الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أى؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أى؟ قال: أن تزنى بحليلة جارك" .
وبعد أن نهى - سبحانه - عن قتل الأولاد المؤدى إلى إفناء النسل، أتبع ذلك بالنهى عن فاحشة الزنا المؤدية إلى اختلاط الأنساب: فقال - تعالى -: { { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } }. والزنا: وطء المرأة بدون عقد شرعى يجيز للرجل وطأها.
والفاحشة: ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال. يقال فحش الشئ، فحشا، كقبح قبحا - وزنا ومعنى -، ويقال أفحش الرجل، إذا أتى الفحش بضم الفاء وسكون الحاء -، وهو القبيح من القول أو الفعل. وأكثر ما تكون الفاحشة إطلاقا على الزنا.
وتعليق النهى بقربانها، للمبالغة فى الزجر عنها، لأن قربانها قد يؤدى إلى الوقوع فيها، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وهذا لون حكيم من ألوان إصلاح النفوس، لأنه إذا حصل النهى عن القرب من الشئ، فلأن ينهى عن فعله من باب أولى.
فكأنه - سبحانه - يقول: كونوا - أيها المسلمون بعيدين عن كل المقدمات التى تفضى إلى فاحشة الزنا كمخالطة النساء، والخلوة بهن، والنظر إليهن ... فإن ذلك يفتح الطريق إلى الوقوع فيها.
قال بعض العلماء: وكثيرا ما يتعلق النهى فى القرآن بالقربان من الشئ، وضابطه بالاستقراء:
أن كل منهى عنه من شأنه أن تميل النفوس إليه، وتدفع إليه الأهواء، جاء النهى فيه عن القربان، ويكون القصد التحذير من أن يأخذ ذلك الميل فى النفس مكانة تصل بها إلى اقتراف المحرم، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ ... } { { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ .. } }. أما المحرمات التى لم يؤلف ميل النفوس إليها، ولا اقتضاء الشهوات لها، فإن الغالب فيها، أن يتعلق النهى عنها بنفس الفعل لا بالقربان منه.
ومن ذلك قوله - تعالى -: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ... } وقوله - تعالى -: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ .. }.
فهذه وإن كانت فواحش، إلا أنها ليست ذات دوافع نفسية، يميل إليها الإِنسان بشهوته. بل هى فى نظر العقل على المقابل من ذلك، يجد الإِنسان فى نفسه مرارة ارتكابها، ولا يقدم عليها إلا وهو كاره لها، أو فى حكم الكاره ...
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } تعليل للنهى عن الاقتراب منه، أى: ابتعدوا عن مقدمات الزنا فضلا عن الوقوع فيه ذاته، لأنه كان - وما زال - فى شرع الله، وفى نظر كل عقل سليم فعلة فاحشة ظاهرة القبح وبئس الطريق طريقه، فإنها طريق تؤدى إلى غضب الله - تعالى - وسخطه.
ومما لا شك فيه أن فاحشة الزنا من أقبح الفواحش التى تؤدى إلى شيوع الفساد والأمراض الخبيثة فى الأفراد والمجتمعات، وما وجدت فى أمة إلا وكانت عاقبتها خسرا.
ولقد تحدث الإِمام الرازى عن تلك المفاسد التى تترتب على الزنا فقال ما ملخصه:
الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد، أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها، فلا يعرف الإِنسان أن الولد الذى أتت به الزانية، أهو منه أو من غيره ...
وثانيا: أنه إذا لم يوجد سبب شرعى لأجله يكون هذا الرجل لتلك المرأة، لم يبق فى حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل.
وثالثها: أن المرأة إذا باشرت الزنا، استقذرها كل طبع سليم، وحينئذ لا تحل الألفة والمحبة، ولا يتم السكن والازدواج..
ورابعها: أنه إذا فتح باب الزنا، فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة وحينئذ لا يبقى بين نوع الإِنسان، وبين سائر البهائم فرق فى هذا الباب.
وخامسها: أنه ليس المقصود من المرأة قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل فى ترتيب المنزل وإعداد مهماته .. وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد، منقطعة الطمع عن سائر الرجال، وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا ... فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضى على الزنا بالقبح.
ولقد سد الإِسلام جميع المنافذ التى تؤدى إلى ارتكاب هذه الفاحشة، وسلك لذلك وسائل من أهمها:
1- تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ومنع الاختلاط بين الرجال والنساء إلا فى حدود الضرورة الشرعية، ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى، ما رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذى محرم" .
وروى الشيخان - أيضا - عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو - بفتح الحاء وسكون الميم - وهو قريب الزوج كأخيه وابن عمه فقال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت" . أى: دخوله قد يؤدى إلى الموت.
2- تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية. ووجوب غض البصر.
قال - تعالى -:
{ { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ .. } }. وقال - سبحانه -: { { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ .. } }. وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام ... والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه" .
3- وجوب التستر والاحتشام للمرأة؛ فإن التبرج والسفور يغرى الرجال بالنساء، ويحرك الغريزة الجنسية بينهما.
قال - تعالى -:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ .. } }. 4- الحض على الزواج، وتيسير وسائله، والبعد عن التغالى فى نفقاته، وتخفيف مؤنه وتكاليفه .. فإن الزواج من شأنه أن يحصن الإِنسان، ويجعله يقضى شهوته فى الحلال ..
فإذا لم يستطع الشاب الزواج، فعليه بالصوم فإنه له وقاية - كما جاء فى الحديث الشريف -.
5- إقامة حدود الله بحزم وشدة على الزناة سواء أكانوا من الرجال أم من النساء، كما قال - تعالى -:
{ { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } }. وهذا الجلد إنما هو بالنسبة للبكر ذكرا كان أو أنثى، أما بالنسبة للمحصن وهو المتزوج أو الذى سبق له الزواج، فعقوبته الرجم ذكرا كان أو أنثى، وقد ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة.
ففى الصحيحين
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فى زان لم يتزوج وزانية متزوجة، بقوله لوالد الرجل: على ابنك مائة جلدة وتغريب عام ثم قال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه واسمه أنيس: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها" .
ومما لا شك أنه لو تم تنفيذ حدود الله - تعالى - على الزناة، لمحقت هذه الفاحشة محقا، لأن الشخص إن لم يتركها خوفا من ربه - عز وجل - لتركها خوفا من تلك العقوبة الرادعة، ومن فضيحته على رءوس الأشهاد.
هذه بعض وسائل الوقاية من تلك الفاحشة القبيحة، ولو اتبعها المسلمون، لطهرت أمتهم من رجسها، ولحفظت فى دينها ودنياها.
ثم نهى - سبحانه - عن قتل النفس المعصومة الدم، بعد نهيه عن قتل الأولاد، وعن الاقتراب من فاحشة الزنا فقال - تعالى -: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ }.
أى: ولا تقتلوا النفس التى حرم الله قتلها، إلا بالحق الذى يبيح قتلها شرعا، كردة، أو قصاص، أو زنا يوجب الرجم.
قال الإِمام ابن كثير: يقول - تعالى - ناهيا عن قتل النفس بغير حق شرعى، كما ثبت فى الصحيحين - عن عبد الله بن مسعود - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزانى المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة" .
وفى السنن: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم" .
وقوله: { إلا بالحق } متعلق بلا تقتلوا، والباء للسببية، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أى: لا تقتلوها فى حال من الأحوال، إلا فى حال ارتكابها لما يوجب قتلها.
وذلك: لأن الإِسلام ينظر إلى وجود الإِنسان على أنه بناء بناه الله - تعالى - فلا يحل لأحد أن يهدمه إلا بحق.
وبهذا يقرر الإِسلام عصمة الدم الإِنسانى، ويعتبر من يعتدى على نفس واحدة، فكأنما قد اعتدى على الناس جميعا. قال - تعالى -:
{ { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً .. } }. وقوله - سبحانه -: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } إرشاد لولى المقتول إلى سلوك طريق العدل عند المطالبة بحقه.
والمراد بوليه: من يلى أمر المقتول، كأبيه وابنه وأخيه وغيرهم من أقاربه الذين لهم الحق فى المطالبة بدمه. فإن لم يكن للمقتول ولى، فالحاكم وليه.
والمراد بالسلطان: القوة التى منحتها شريعة الله - تعالى - لولى المقتول على القاتل، حيث جعلت من حق هذا الولى المطالبة بالقصاص من القاتل، أو أخذ الدية منه، أو العفو عنه، ولا يستطيع أحد أن ينازعه فى هذا الحق، أو أن يجبره على التنازل عنه.
والمعنى: ومن قتل مظلوما، أى: بدون سبب يوجب قتله، فإن دمه لم يذهب هدرا، فقد شرعنا { لوليه سلطانا } على القاتل، لأنه - أى الولى - إن شاء طالب بالقصاص منه، وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء عفا عنه. وبذلك يصير الولى هو صاحب الكلمة الأولى فى التصرف فى القاتل، حتى لكأنه مملوك له.
وما دامت شريعة الله - تعالى - قد أعطت الولى هذا السلطان على القاتل، فعليه أن لا يسرف فى القتل، وأن لا يتجاوز ما شرعه الله - تعالى -.
ومن مظاهر هذا التجاوز: أن يقتل اثنين - مثلا - فى مقابل قتيل واحد أو أن يقتل غير القاتل، أو أن يمثل بالقاتل بعد قتله.
قال الآلوسى ما ملخصه: كان من عادتهم فى الجاهلية، أنهم إذا قتل منهم واحدا، قتلوا قاتله، وقتلوا معه غيره ...
وأخرج البيهقى فى سننه عن زيد بن أسلم أنه قال: إن الناس فى الجاهلية كانوا إذا قتل من ليس شريفا شريفا، لم يقتلوه به، وقتلوا شريفا من قومه، فنهوا عن ذلك، كما نهوا عن المثلة بالقاتل.
وقرأ حمزة والكسائى: { فلا تسرف } بالخطاب للولى على سبيل الالتفات.
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } تذييل المقصود به تعليل النهى عن الإِسراف فى القتل. والضمير يعود إلى الولى - أيضا -.
أى: فلا يسرف هذا الولى فى القتل، لأن الله - تعالى - قد نصره عن طريق ما شرعه له من سلطان عظيم، من مظاهره: المطالبة بالقصاص من القاتل، أو بأخذ الدية، ومن مظاهره - أيضا - وقوف الحاكم وغيره إلى جانبه حتى يستوفى حقه من القاتل، دون أن ينازعه منازع فى هذا الحق.
ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله { إنه } يعود إلى المقتول ظلما، على معنى: أن الله - تعالى - قد نصره فى الدنيا بمشروعية القصاص والدية حتى لا يضيع دمه، ونصره فى الآخرة بالثواب الذى يستحقه، وما دام الأمر كذلك فعلى وليه أن لا يسرف فى القتل.
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب. لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة.
قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال فى ذلك: وأشبه ذلك بالصواب عندى، قول من قال: عنى بها - أى بالهاء فى إنه - الولى، وعليه عادت، لأنه هو المظلوم ووليه المقتول، وهى إلى ذكره أقرب من ذكر المقتول، وهو المنصور - أيضا - لأن الله - جل ثناؤه - قضى فى كتابه المنزل، أن سلطه على قاتل وليه، وحكمه فيه، بأن جعل إليه قتله إن شاء، واستبقاءه على الدية إن أحب، والعفو عنه إن رأى. وكفى بذلك نصرة له من الله - تعالى -، فلذلك هو المعنى بالهاء التى فى قوله { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً }.
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة التى هى أول آية نزلت فى شأن القتل كما قال الضحاك: يراها قد عالجت هذه الجريمة علاجا حكيما.
فهى أولا: تنهى عن القتل، لأنه من أكبر الكبائر التى تؤدى إلى غضب الله - تعالى - وسخطه، قال - تعالى -: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }.
وجاء النهى عنه فى بعض الآيات بعد النهى عن الإِشراك بالله - عز وجل -. قال - سبحانه -:
{ { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ .. } }. كما جاء النهى عنه فى كثير من الأحاديث النبوية، ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن ابن مسعود - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدماء" .
وفى حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: "الآدمى بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب" .
وفى حديث ثالث: "لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم، لأكبهم الله فى النار" .
وهذا النهى الشديد عن قتل النفس من أسبابه، أنه يؤدى إلى شيوع الغل والبغض والتقاتل ... بين الأفراد والجماعات؛ إذ النفس البشرية فى كل زمان ومكان، يؤلمها، ويثير غضبها وانتقامها، أن ترى قاتل عزيز لديها يمشى على الأرض ..
وهى ثانيا: تسوق لولى المقتول من التوجيهات الحكيمة، ما يهدئ نفسه، ويقلل من غضبه، ويطفئ من نار ثورته المشتعلة.
وقد أجاد صاحب الظلال -رحمه الله - فى توضيح هذا المعنى فقال:
"وفى تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل، وتجنيد سلطان الشرع وتجنيد الحاكم لنصرته، تلبية للفطرة البشرية، وتهدئة للغليان الذى تستشعره نفس الولى، الغليان الذى قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا، فى حمى الغضب والانفعال على غير هدى. فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل. وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص، فإن ثائرته تهدأ، ونفسه تسكن، ويقف عند حد القصاص العادل الهادئ".
والإِنسان إنسان، فلا يطالب بغير ما ركب فى فطرته من الرغبة العميقة فى القصاص. لذلك يعترف الإِسلام بهذه الفطرة ويلبيها فى الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا. إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره، ويحبب فيه، ويأجر عليه، ولكن بعد أن يعطى الحق. فلولى الدم أن يقتص أو يصفح.
وشعور ولى الدم بأنه قادر على كليهما، قد يجنح به إلى الصفح والتسامح، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه، ويدفع به إلى الغلو والجموح.
هذا، والذى نعتقده وندين الله - تعالى - عليه، أنه لا علاج لجريمة القتل - وغيرها - إلا بتطبيق شريعة الله - تعالى - التى جمعت بين الرحمة والعدل.
وبالرحمة والعدل: تتلاقى القلوب بعد التفرق، وتلتئم بعد التصدع، وتتسامى عن الانتقام إلى ما هو أعلى منه وهو العفو.
وبعد أن نهى - سبحانه - عن إتلاف النفوس عن طريق القتل والزنا، أتبع ذلك بالنهى عن إتلاف الأموال التى هى قوام الحياة، وبدأ - سبحانه - بالنهى عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن، ثم ثنى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان عند التعامل، فقال - تعالى -:
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }.
واليتيم: هو الصغير الذى مات أبوه مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة.
والخطاب فى قوله: { ولا تقربوا ... } لأولياء اليتيم، والأوصياء على ماله.
والأشد: قوة الإِنسان، واشتعال حرارته، ومن الشدة بمعنى القوة. يقال: شد النهار إذا ارتفع واكتمل، وهو مفرد جاء بصيغة الجمع. أو هو جمع لا واحد له من لفظه، أو جمع شدة كأنعم ونعمة.
أى: ولا تقربوا - أيها الأولياء على اليتيم - ماله الذى منحه الله إياه عن طريق الميراث أو غيره، إلا بالطريقة التى هى أحسن الطرق، والتى من شأنها أن تنفعه، كالمحافظة عليه، واستثماره له، وإنفاقه فى الوجوه المشروعة.
واعلموا أن كل تصرف مع اليتيم أو فى ماله لا يقع فى تلك الدائرة - دائرة الأنفع والأحسن - فهو تصرف محظور ومنهى عنه، وسيحاسبكم الله - تعالى - عليه.
وتعليق النهى بالقربان، للمبالغة فى الزجر عن التصرف فى مال اليتيم، إلا بالطريقة التى هى أحسن.
وقوله: { حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ليس غاية للنهى، إذ ليس المعنى: فإذا بلغ أشده فاقربوه، لأن هذا المعنى يقتضى إباحة أكل الولى لمال اليتيم بعد بلوغه، وإنما هو غاية لما يفهم من النهى، فيكون المعنى: لا تقربوا مال اليتيم إلا بالطريقة التى هى أحسن، واستمروا على ذلك حتى يبلغ أشده، أى: حتى يصير بالغا عاقلا رشيدا، فإذا ما صار كذلك، فسلموا إليه ماله بأمانة واستعفاف عن التطلع إلى شئ منه.
هذا، وقد أمرت شريعة الإِسلام، بحسن رعاية اليتيم، وبالمحافظة على حقوقه، ونهت عن الإِساءة إليه، بأى لون من ألوان الإِساءة.
قال - تعالى -:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ .. } }. وقال - سبحانه -: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } }. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذى رواه الإِمام البخارى عن سهل بن سعد رضى الله عنه: "أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا" وأشار بالسبابة والوسطى.
وروى الشيخان عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" .
ومن الحكم التى من أجلها أمر الاسلام بالعطف على اليتيم ونهى عن ظلمه، أنه إنسان ضعيف فقد الأب الحانى، والعائل والنصير منذ صغره ..
فإذا نشأ فى بيئة ترعاه وتكرمه .. شب محبا لمن حوله، وللمجتمع الذى يعيش فيه.
وإذا نشأ فى بيئة تقهره وتذله وتظلمه .. نظر إلى من حوله، وإلى المجتمع الذى يعيش فيه، نظرة العدو إلى عدوه ..
وكأنه يقول لنفسه: إذا كان الناس لم يحسنوا إلى فى صغرى وفى حالة ضعفى، فلماذا أحسن إليهم فى حال كبرى وقوتى!! وإذا كانوا قد حرمونى حقى الذى منحه الله لى فلماذا أعطيهم شيئا من خيرى وبرى !!.
هذه بعض الأسباب التى من أجلها أمر الإِسلام أتباعه برعاية اليتيم وإكرامه، وصيانة حقوقه من أى اعتداء أو ظلم.
وبعد أن نهى - سبحانه - عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن، أمر بالوفاء بالعهود فقال: { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }.
والعهد: ما من شأنه أن يراعى ويحفظ، كالوصية واليمين. وعهد الله: أوامره ونواهيه وعهد الناس: ما يتعاهدون عليه من معاملات وعقود وغير ذلك مما تقتضيه شئون حياتهم.
أى: وأوفوا بالعهود التى بينكم وبين الله - تعالى -، والتى بينكم وبين الناس، بأن تؤدوها كاملة غير منقوصة، وأن تقوموا بما تقتضيه من حقوق شرعية. وقوله { إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } تعليل لوجوب الوفاء بالعهد.
أى: كونوا أوفياء بعهودكم لأن صاحب العهد كان مسئولا عنه، أمام الله - تعالى - وأمام الناس، فالكلام على حذف مضاف كما فى قوله - سبحانه - { واسأل القرية }.
وقال - سبحانه -: { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ ... } بالإِظهار دون الإِضمار للإِشعار بكمال العناية بشأن الوفاء بالعهود.
ويجوز أن يكون المعنى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا، أى: كان مطلوبا بالوفاء به وقد مدح الله - تعالى - الذين يوفون بعهودهم فى آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
{ { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ } }. وقوله - تعالى -: { { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } }. وبعد أن أمر - سبحانه - بالوفاء بصفة عامة، أتبع ذلك بالوفاء فى شئون البيع والشراء، فقال - تعالى -: { وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }.
والقسطاس: الميزان الذى يوزن به فى حالتى البيع والشراء.
قال صاحب الكشاف: قرئ { بالقسطاس } بكسر القاف وضمها .. قيل: كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرها.
وقال الآلوسى ما ملخصه: وهذا اللفظ رومى معرب .. وقيل: عربى .. وعلى القول بأنه رومى معرب - وهو الصحيح - لا يقدح استعماله فى القرآن فى عربيته المذكورة فى قوله - تعالى -:
{ { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } لأنه بعد التعريب والسماع فى فصيح الكلام، يصير عربيا، فلا حاجة إلى إنكار تعريبه ...
وقوله: { تأويلا } من الأول - بفتح الهمزة وسكون الواو - بمعنى الرجوع. يقال: آل هذا الأمر إلى كذا، إذا رجع إليه.
والمعنى: وأتموا أيها المؤمنون الكيل إذا كلتم لغيركم عند بيعكم لهم ما تريدون بيعه، وزنوا لهم كذلك بالميزان المستقيم العادل ما تريدون وزنه لهم.
وقيد - سبحانه - الأمر بوجوب إتمام الكيل والميزان فى حالة البيع، لأنها الحالة التى يكون فيها التطفيف فى العادة، إذ أن البائع هو الذى غالبا ما يطفف للمشترى فى المكيال والميزان ولا يعطيه حقه كاملا.
قال - تعالى -:
{ { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } }. أى: ذلك الذى أمرناكم به. من وجوب إتمام المكيال والميزان عند التعامل، خير لكم فى الدنيا، لأنه يرغب الناس فى التعامل معكم، أما فى الآخرة فهو أحسن عاقبة ومآلا، لما يترتب عليه من الثواب الجزيل لكم من الله - عز وجل -.
ثم ختم - سبحانه - تلك التوجيهات السامية السديدة، بالنهى عن تتبع ما لا علم للإِنسان به، وعن الفخر والتكبر والخيلاء .. فقال - تعالى -:
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }.
قال القرطبى -رحمه الله - ما ملخصه: قوله - تعالى -: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أى: ولا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك - من قول أو فعل - قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم ..
ثم قال: وأصل القَفْو البُهْت، والقذف بالباطل. ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام -:
"نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أُمَّنا، ولا ننتفى من أبينا" أى: لا نسُبُّ أمنا.
وقال: قفوته أقفوه ... إذا اتبعت أثره. وقافية كل شئ آخره، ومنه اسم النبى صلى الله عليه وسلم: المُقَفَّى، لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -، ومنه القائف، وهو الذى يتبع الأثر ...
وقال صاحب الكشاف -رحمه الله -: قوله: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }: يعنى، ولا تكن فى اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكا لا يدرى أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال. والمراد: النهى عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهى عن التقليد الأعمى دخولا ظاهرا لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده ...
وقوله: { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } تحذير شديد من أن يقول الإِنسان قولا لا علم له به، أو أن يفعل فعلا بدون تحقق، أو أن يحكم حكما بلا بينة أو دليل.
أى: إن السمع الذى تسمع به - أيها المكلف -، والبصر الذى تبصر به، والفؤاد - أى القلب - الذى تحيا به، كل أولئك الأعضاء ستكون مسئولا عن أفعالها يوم القيامة، وسيقال لك بتأنيب وتوبيخ: لماذا سمعت ما لا يحل لك سماعه، ونظرت إلى ما لا يجوز لك النظر إليه، وسعيت إلى ما لا يصح لك أن تسعى إليه!!.
وعلى هذا التفسير يكون السؤال فى قوله - تعالى -: { كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } للإنسان الذى تتبع ما ليس له به علم من قول أو فعل.
ومن الآيات التى تشهد لهذا التفسير قوله - تعالى -:
{ { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } }. ومنهم من يرى أن السؤال موجه إلى تلك الأعضاء، لتنطق بما اجترحه صاحبها، ولتكون شاهدة عليه، فيكون المعنى:.
إن السمع والبصر والفؤاد، كل واحد من أولئك الأعضاء، كان مسئولا عن فعله، بأن يقال له: هل استعملك صاحبك فيما خلقت من أجله أوْ لا؟.
ويكون هذا السؤال للأعضاء من باب التوبيخ لأصحابها، كما قال - تعالى -:
{ { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } }. وكما قال - سبحانه -: { { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } }. واسم الإِشارة { أولئك } على التفسيرين يعود إلى السمع والبصر والفؤاد، إما لأن هذا الاسم يشار به إلى العقلاء ويشار به إلى غير العقلاء، كما فى قول الشاعر:

ذُمَّ المنازلَ بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام

وإما لأن هذه الأعضاء أخذت حكم العقلاء، لأنها جزء منهم، وشاهدة عليهم.
وعلى كلا التفسيرين أيضا، يتمثل التحذير الشديد للإِنسان عن أن يتبع ما ليس له به علم.
قال الجمل: وقوله - تعالى -: { كل أولئك } مبتدأ، خبره جملة { كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }، والضمير فى "كان" وفى "عنه" وفى { مسئولا } يعود على كل. أى: كان كل واحد منها مسئولا عن نفسه، يعنى عما فعل به صاحبه: ويجوز أن يكون الضمير فى: "عنه" لصاحب السمع والبصر والفؤاد ...
وشبيه بهذه الآية فى النهى عن اتباع ما لا علم للإنسان به. قوله - تعالى -:
{ { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } }. وقوله - سبحانه -: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } }. قال الإِمام ابن كثير: ومضمون ما ذكروه - فى معنى قوله - تعالى -: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .. } أن الله - تعالى - نهى عن القول بلا علم، كما قال - سبحانه -: { { ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ .. } وفى الحديث: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ..." وفى سنن أبى داود: "بئس مطية الرجل زعموا" وفى الحديث الآخر: "إن أفْرَى الفِرَى - أى أكذب الكذب - أن يُرِىَ الرجل عينيه ما لم تريا" .
وقال بعض العلماء: وهذه الكلمات القليلة - التى اشتملت عليها الآية - تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمى الذى عرفته البشرية حديثا جدا، ويضيف إليه استقامة القلب، ومراقبة الله، ميزة الإِسلام على المناهج العقلية الجافة!.
فالتثبت من كل خبر، ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة، قبل الحكم عليها، هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإِسلام الدقيق ..
فلا يقول اللسان كلمة، ولا ينقل رواية، ولا يروى حادثة، ولا يحكم العقل حكما، ولا يبرم الإِنسان أمرا. إلا وقد تثبت من كل جزئية، ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة فى صحتها ...
ثم ينتقل القرآن الكريم من النهى عن أن يتبع الإِنسان ما لا علم له به، إلى النهى عن التفاخر والتكبر والإِعجاب فى النفس فيقول: { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً ... }.
والمرح فى الأصل: شدة الفرح، والتوسع فيه، مع الخيلاء والتعالى على الناس، يقال: مرح - بزنة فرح - يمرح مرحا، إذا اشتد فرحه ومشى مشية المتكبرين. وهو مصدر وقع موقع الحال.
أى: ولا تمش - أيها الانسان - فى الأرض مشية الفخور المتكبر المختال بل كن متواضعا متأدبا بأدب الإِسلام فى سلوكك.
وتقييد النهى بقوله { فى الأرض } للتذكير بالمبدأ والمعاد، المانعين من الكبر والخيلاء، إذ من الأرض خلق وإليها يعود، ومن كان كذلك كان جديرا به أن يتواضع لا أن يتكبر.
قال - تعالى -:
{ { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } }. وقوله - سبحانه -: { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } تعليل للنهى عن التفاخر مع السخرية والتهكم من المتفاخر المغرور.
أى: إنك - أيها الماشى فى الأرض مرحا - لن تخرق الأرض بوطئك عليها، أو بمشيك فوقها، ولن تبلغ - مهما ارتفعت قامتك - الجبال فى الطول والعلو. وما دام شأنك كذلك، فكن متواضعا، فمن تواضع لله - تعالى - رفعه.
وقوله { طولا } تمييز محول عن الفاعل. أى: لن يبلغ طولك الجبال.
وشبيه بهذه الآية فى النهى عن التعالى والتطاول، قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } }. وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالتواضع، ونهى عن التكبر والغرور، وبين سوء عاقبة ذلك فى أحاديث كثيرة، منها ما رواه مسلم فى صحيحه عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله - تعالى - أوحى إلى أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغى أحد على أحد" .
وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا" .
وروى الترمذى عن سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه - أى يرتفع ويتكبر - حتى يكتب فى الجبارين - فيصيبه ما أصابهم" .
ورحم الله القائل:

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم همو منك أرفع
وإن كنت فى عز وحِرْزٍ ومَنْعَة فكم مات من قوم همو منك أمنع

ثم ختم - سبحانه - تلك التكاليف التى يغلب عليها طابع النهى عن الرذائل بقوله: { كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً }.
واسم الإِشارة { ذلك } يعود إلى ما تقدم ذكره من التكاليف والأوامر والنواهى. التى لا يتطرق إليها النسخ، والتى تبلغ خمسة وعشرين تكليفا، تبدأ بقوله - تعالى -: { لاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } ثم يأتى بعد ذلك النهى عن عقوق الوالدين، والأمر بصلة الأرحام، وبالعطف على المسكين وابن السبيل، ثم النهى عن البخل، والإِسراف، وقتل الأولاد، والاقتراب من الزنا، وقتل النفس إلا بالحق، والاعتداء على مال اليتيم .. الخ.
والضمير فى { سيئه } يعود إلى ما نهى الله عنه من أفعال، كالشرك، وعقوق الوالدين، والزنا. أى: كل ذلك الذى بيناه لك فيما سبق، كان الفعل السيئ منه، عند ربك مكروها، أى: مبغوضا عنده - سبحانه - وأما الفعل الحسن كالوفاء بالعهد، وإعطاء ذى القربى حقه، فهو محمود عند ربك - عز وجل -.
قال الآلوسى: ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن أكثره من الكبائر - كالشرك والزنا ... - للإِيذان بأن مجرد الكراهة عنده - تعالى - كافية فى وجوب الكف عن ذلك.
وتوجيه الإِشارة إلى الكل، ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء، لما قيل: من أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة، بل على وجه الاختلاط لنكتة اقتضته، وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده - سبحانه -.
وإنما لم يصرح بذلك، إيذانا بالغنى عنه، أو اهتماما بشأن التنفير من النواهى ...
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: { كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سيئة } بالتاء والتنوين.
وعلى هذه القراءة يكون اسم الإِشارة، يعود إلى المنهيات السابقة فقط، ويكون المعنى: كل ذلك الذى نهيناك عنه فى الآيات السابقة، من الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، واتباع ما ليس لك به علم .. كان اقترافه سيئة من السيئات المبغوضة عند ربك، المحرمة فى شرعه، المعاقب مرتكبها.
ثم ختم - سبحانه - تلك الأحكام المحكمة، والتكاليف السامية، بقوله: { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً }.
أى: ذلك الذى أمرناك به، ونهيناك عنه - أيها الرسول الكريم - بعض ما أوحاه الله - تعالى - عليك { من الحكمة } التى هى علم الشرائع ومعرفة الحق، والعمل به، وحذار أن تجعل بعد هذا البيان الحكيم، مع الله - تعالى - إلها آخر - أيها المخاطب - فتلقى وتطرح فى جهنم، ملوما من نفسك ومن غيرك، مدحورا أى: مبعدا من رحمة الله - تعالى -.
قال صاحب الكشاف: ولقد جعل الله - تعالى - فاتحتها - أى تلك الآيات المشتملة على تلك الأوامر والنواهى - وخاتمتها، النهى عن الشرك، لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذّ فيها الحكماء، وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة التى اشتملت على بضع وعشرين تكليفا، والتى ابتدأت بقوله - تعالى - { لاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } وانتهت بقوله - سبحانه -: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ .. } قد ربطت قواعد السلوك والآداب: والتكاليف الفردية والاجتماعية، بإخلاص العبادة لله - تعالى - لأن هذا الإِخلاص لله - تعالى - فى العقيدة والعبادة والقول والعمل .. هو رأس كل حكمة وملاكها. كما قال صاحب الكشاف -رحمه الله -.
وبعد أن ذكر - سبحانه - ما ذكر من الأوامر والنواهى فى الآيات السابقة، التى بدأها وختمها بالنهى عن الإِشراك بالله - تعالى - أتبع ذلك بإقامة الأدلة على استحالة أن يكون له شريك أو ولد، بل كل من فى السماوات ومن الأرض، خاضع لسلطانه، وما من شئ إلا ويسبح بحمده، فقال - تعالى -: { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً }.