التفاسير

< >
عرض

رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ ٱلْفُلْكَ فِي ٱلْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٦٦
وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً
٦٧
أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً
٦٨
أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً
٦٩
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى -: { رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ ٱلْفُلْكَ فِي ٱلْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ... } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده، وفضله عليهم.
و{ يزجى } من الإِزجاء، وهو السوق شيئاً فشيئاً. يقال أزجى فلان الإِبل، إذا ساقها برفق، وأزجت الريح السحاب، أى: ساقته سوقاً رفيقاً، ومنه قوله - تعالى -:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ... } }. و{ الفلك } ما عظم من السفن. قال الجمل ما ملخصه: ويستعمل لفظ الفلك للواحد والجمع، ويذكر ويؤنث. قال - تعالى -: { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } فأفرد وذكر. وقال - سبحانه -: { { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } فأنث، ويحتمل الإِفراد والجمع. قال - تعالى -: { { حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ... } فجمع ....
و{ البحر } يطلق على الماء الكثير عذباً كان أو ملحاً. وأكثر ما يكون إطلاقاً على الماء الملح.
أى: اذكروا - أيها الناس - لتعتبروا وتشكروا ربكم الذى من مظاهر نعمته عليكم، أنه يسوق لكم - بلطفه وقدرته - السفن التى تركبونها فى البحر لكى تطلبوا من وراء ركوبها الرزق الذى يصلح معاشكم، والذى هو لون من ألوان فضل الله عليكم.
وقوله: لتبتغوا من فضله، تعليل لإِزجاء الفلك، وتصريح بوجوه النفع التى تفضل الله - تعالى - بها عليهم.
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } تعليل ثان لهذا الإِزجاء.
أى: يزجى لكم الفلك فى البحر، لتطلبوا من وراء ذلك ما ينفعكم، ولأنه - سبحانه - كان أزلا وأبدا، بكم دائم الرحمة والرأفة.
ثم انتقل - سبحانه - من الحديث عن مظاهر نعمه عليهم، فى حال سوق السفن ودفعها بهم فى البحر برفق وأناة، إلى بيان رعايته لهم فى حال اضطرابها وتعرضها للغرق، بسبب هيجان البحر وارتفاع أمواجه، فقال - تعالى -: { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ... }.
والمس: اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة، والمراد به هنا: ما يعتريهم من خوف وفزع، وهم يرون سفينتهم توشك على الغرق.
والمراد بالضر هنا: اضطراب الفلك، وارتفاع الأمواج، واشتداد العواصف، وتعرضهم للموت من كل مكان.
المعنى: وإذا أحاطت بكم الأمواج من كل جانب وأنتم على ظهور سفنكم وأوشكتم على الغرق .. ذهب وغاب عن خواطركم وأذهانكم، كل معبود سوى الله - عز وجل - لكى ينقذكم مما أنتم فيه من بلاء، بل إياه وحده - سبحانه - تدعون ليكشف عنكم ما نزل بكم من سوء.
فالجملة الكريمة تصوير مؤثر بديع لبيان أن الإِنسان عند الشدائد والمحن لا يتجه بدعائه وضراعته إلا إلى الله - تعالى - وحده.
قال القرطبى: "{ ضل } معناه؛ تَلِف وفُقد وهى عبارة عن تحقير لمن يدعى إلهاً من دون الله. والمعنى فى هذه الآية: أن الكفار إنما يعتقدون فى أصنامهم أنها شافعة، وأن لها فضلاً، وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علماً لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها فى الشدائد، فوقَّفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل".
وقال الإِمام ابن كثير: "يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين، ولهذا قال - تعالى -: { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } أى: ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله - تعالى - كما اتفق لعكرمة بن أبى جهل، لما ذهب فارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة، فذهب هارباً فركب فى البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغنى عنكم إلا أن تدعو الله وحده.
فقال عكرمة فى نفسه: والله إن كان لا ينفع فى البحر غيره، فإنه لا ينفع فى البر غيره، اللهم لك على عهد لئن أخرجتنى منه، لأذهبن فلأضعن يدى فى يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رءوفاً رحيماً. فخرجوا من البحر، فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه - رضى الله عنه".
وقوله - تعالى -: { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً } بيان لطبيعة الإِنسان إلا من عصم الله.
أى: فلما نجاكم الله - تعالى - بلطفه وإحسانه: من الغرق، وأوصلكم سالمين إلى البر، أعرضتم عن طاعته، وتركتم دعاءه والضراعة إليه، وكان الإِنسان الفاسق عن أمر ربه، { كفورا } أى: كثير الكفران والجحود لنعم ربه - عز وجل -.
قال الألوسى ما ملخصه: "وقوله: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً } كالتعليل للإِعراض، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين، وفيه لطافة حيث أعرض - سبحانه - عن خطابهم بخصوصهم، وذكر أن جنس الإِنسان مجبول على الكفران، فلما أعرضوا أعرض الله - تعالى - عنهم".
وفى معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة. منها قوله - تعالى -
{ { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } }. وقوله - سبحانه -: { { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } }. ثم بين - سبحانه - أن قدرته لا يعجزها شئ، لا فى البحر ولا فى البر ولا فى غيرهما فقال: { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } والهمزة فى قوله { أفأمنتم } للاستفهام الإِنكارى، والفاء عاطفة على محذوف، والتقدير: أنجوتم فأمنتم.
وقوله { يخسف } من الخسف وهو انهيار الأرض بالشئ، وتغييبه فى باطنها و{ جانب البر } ناحية أرض، وسماه - سبحانه - جانباً، لأن البحر يمثل جانبا من الأرض، والبر يمثل جانباً آخر.
والحاصب: الريح الشديدة، التى ترمى بالحصباء، وهى الحجارة الصغيرة. يقال. حصب فلان فلانا، إذا رماه بالحصباء.
والمعنى: أنجوتم من الغرق - أيها الناس - ففرحتم وأمنتم ونسيتم أن الله - تعالى - إذا كان قد أنجاكم من الغرق، فهو قادر على أن يخسف بكم جانب الأرض، وقادر كذلك على أن يرسل عليكم ريحاً شديدة ترميكم بالحصباء التى تهلككم؛ ثم لا تجدوا لكم وكيلاً تكلون إليه أموركم، ونصيراً ينصركم ويحفظكم من عذاب الله - تعالى -.
إن كنتم قد أمنتم عذاب الله بعد نجاتكم من الغرق، فأنتم جاهلون، لأن قدرة الله - تعالى - لا يعجزها أن تأخذكم أخذ عزيز مقتدر سواء أكنتم فى البحر أم فى البر أم فى غيرهما، إذ جميع جوانب هذا الكون فى قبضة الله - تعالى - وتحت سيطرته.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت فما معنى ذكر الجانب؟ قلت: معناه، أن الجوانب والجهات كلها فى قدرته سواء، وله فى كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة، ليس جانب البحر وحده مختصا بذلك، بل إن كان الغرق فى جانب البحر، ففى جانب البر ما هو مثله وهو الخسف، لأنه تغييب تحت التراب، كما أن الغرق تغييب تحت الماء فالبر والبحر عنده سيان، يقدر فى البر على نحو ما يقدر عليه فى البحر، فعلى العاقل أن يستوى خوفه من الله فى جميع الجوانب وحيث كان".
ثم ساق - سبحانه - مثالاً آخر للدلالة على شمول قدرته، فقال - تعالى -: { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً }.
و{ أم } هنا يجوز أن تكون متصلة؛ بمعنى: أى الأمرين حاصل. ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى: بل.
والقاصف من الريح: هو الريح العاتية الشديدة التى تقصف وتحطم كل ما مرت به من أشجار وغيرها. يقال: قصف فلان الشئ، إذا كسره.
والتبيع: فعيل بمعنى فاعل، وهو المطالب غيره بحق سواء أكان هذا الحق دينا أم ثأراً أم غيرهما، مع مداومته على هذا الطلب.
والمعنى: بل أأمنتم - أيها الناس - { أن يعيدكم } الله - تعالى - { فيه } أى: فى البحر، لسبب من الأسباب التى تحملكم على العودة إليه مرة أخرى { فيرسل عليكم } - سبحانه - وأنتم فى البحر { قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ } العاتية الشديدة التى تحطم سفنكم { فيغرقكم } بسبب كفركم وجحودكم لنعمه، { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } أى: إننا من السهل علينا أن نفعل معكم ذلك وأكثر منه، ثم لا تجدوا لكم أحداً ينصركم علينا، أو يطالبنا بحق لكم علينا، فنحن لا نسأل عما نفعل، وأنتم المسئولون.
فالاستفهام هنا - أيضاً - للإِنكار والتوبيخ.
وقال - سبحانه - { أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ } ولم يقل أن يعيدكم إليه، للإِشعار باستقرارهم فيه، وأنه - تعالى - لا يعجزه أن يفعل ذلك.
والتعبير بقوله { قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ } فيه من الترهيب والإِنذار ما فيه لأن لفظ القصف يدل بمعناه اللغوى على التحطيم والتكسير.
وقال - سبحانه -: { بما كفرتم } لبيان أن الله - تعالى - ما ظلمهم بإهلاكهم، وإنما هم الذين عرضوا أنفسهم لذلك بسبب كفرهم وإعراضهم عن طاعته - سبحانه -.
والضمير فى { به } يعود إلى الإِهلاك بالإِغراق المفهوم من قوله { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } أى: لا تجدون تبيعاً يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإِغراق الذى أوقعناه بكم.
وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد ساقت ألوناً من نعم الله - تعالى - على الناس، وحذرتهم من جحود هذه النعم، حتى لا يتعرضوا لعذاب الله، الذى قد ينزل بهم وهم فى البحر أو فى البر أو فى غيرهما.
ثم ذكر - سبحانه - تكريمه لبنى آدم، وتفضيلهم على كثير من مخلوقاته، وأحوالهم فى الآخرة، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ... }.