التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
٧٠
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً
٧١
وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً
٧٢
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى: "قوله: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ ... } أى: جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم، ذوى كرم، أى: شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر ..".
ومن مظاهر تكريم الله - تعالى - لبنى آدم، أنه خلقهم فى أحسن تقويم، كما قال - تعالى -:
{ { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } }. وأنه ميزهم بالعقل والنطق والاستعدادات المتعددة، التى جعلتهم أهلاً لحمل الأمانة، كما قال - سبحانه -: { { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ ... } }. وأنه سخر الكثير من مخلوقاته لمنفعتهم ومصلحتهم، قال - تعالى -: { { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } }. وأنه سجل هذا التكريم فى القرآن الكريم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكفاهم بذلك شرفا وفخرا.
وقوله - تعالى - { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } بيان لنوع من أنواع هذا التكريم. أى: وحملناهم بقدرتنا ورعايتنا فى البر على الدواب وغير ذلك من وسائل الانتقال كالقطارات والسيارات وغيرها، وحملناهم فى البحر على السفن وعابرات البحار التى تنقلهم من مكان إلى آخر.
وقوله: { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } بيان لنوع آخر من أنواع التكريم. أى: ورزقناهم بفضلنا وإحساننا من طيبات المطاعم والمشارب والملابس، التى يستلذونها، ولا يستغنون عنها فى حياتهم.
وقوله: { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } بيان لنوع ثالث من أنواع التكريم، أى: وبسبب هذا التكريم فضلناهم على كثير من مخلوقاتنا التى لا تحصى، تفضيلاً عظيماً.
وعلى هذا التفسير يكون التفضيل لوناً من ألوان التكريم الذى منحه الله - تعالى - لبنى آدم.
وبعضهم يرى أن هناك فرقاً بين التكريم والتفضيل، ومن هذا البعض الإِمام الفخر الرازى، فقد قال -رحمه الله - ما ملخصه: "لقد قال الله - تعالى - فى أول الآية { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } وقال فى آخرها { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }. ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار.
والأقرب أن يقال: إنه - تعالى - فضل الإِنسان على سائر الحيوانات بأمور خِلْقية طبيعية ذاتية، مثل: العقل، والنطق، والصورة الحسنة .. ثم إنه - تعالى - عرضه بواسطة ذلك لاكتساب العقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة فالأول: هو التكريم، والثانى: هو التفضيل".
وكأن الفخر الرازى يرى أن التكريم يرجع إلى الصفات الخلقية التى امتاز بها بنو آدم، أما التفضيل فيرجع إلى ما اكتسبوه من عقائد سليمة، وأخلاق قويمة.
هذا، وقد أخذ صاحب الكشاف من هذه الجملة وهى قوله - تعالى -: { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } أن الملائكة أفضل من البشر، لأنهم - أى الملائكة - هم المقصودون بالقليل الذى لم يفضل عليه بنو آدم.
قال -رحمه الله -: "قوله: { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا ... } هو ما سوى الملائكة وحسب بنى آدم تفضيلاً، أن ترفع عليهم الملائكة - وهم هم -، ومنزلتهم عند الله منزلتهم ...".
ويرى كثير من المفسرين أن المراد بالتفضيل هنا: تفضيل الجنس، ولا يلزم منه تفضيل كل فرد على كل فرد.
قال الجمل ما ملخصه: "{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } المراد تفضيل جنس البشر على أجناس غيره كالملائكة، ولا يلزم من تفضيل جنس البشر على جنس الملك تفضيل الأفراد، إذ الملائكة فى جملتهم أفضل من البشر غير الأنبياء. وصلحاء البشر - كالصديق - أفضل من عوام الملائكة، أى: غير الرؤساء منهم، على المعتمد من طريقة التفضيل".
والذى تطمئن إليه النفس فى هذه المسألة - والله أعلم -: أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أفضل من الملائكة جميعاً، لأن الله - تعالى - قد أمر الملائكة بالسجود لآدم الذى جعله خليفة له فى أرضه، دون غيره من الملائكة ...
وأن الرسل من الملائكة - كجبريل وإسرافيل وعزرائيل وميكائيل - أفضل من عموم البشر - سوى الأنبياء -، لأن هؤلاء الرسل قد اصطفاهم الله - تعالى - واختارهم لوظائف معينة، قال - تعالى -
{ { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ } }. وأن صلحاء البشر - كالعشرة المبشرين بالجنة - أفضل من عامة الملائكة، لأن الملائكة ليست فيهم شهوة تدفعهم إلى مخالفة ما أمر الله به ... أما بنو آدم فقد ركب الله - تعالى - فيهم شهوة داعية إلى ارتكاب المعصية، ومقاومة هذه الشهوات جهاد يؤدى إلى رفع الدرجات ...
ومن العلماء الذين بسطوا القول فى هذه المسألة الإِمام الفخر الرازى، فليرجع إليه من شاء.
وقوله - سبحانه -: { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } شروع فى بيان تفاوت أحوال بنى آدم فى الآخرة، بعد بيان حالهم فى الدنيا.
ولفظ { يوم } منصوب بفعل محذوف، أى: واذكر يوم ندعو كل أناس بإمامهم. والمراد بإمامهم هنا: كتاب أعمالهم.
وقد اختار هذا القول الإِمام ابن كثير ورجحه فقال: يخبر الله - تعالى - عن يوم القيامة، أنه يحاسب كل أمة بإمامهم، وقد اختلفوا فى ذلك. فقال مجاهد وقتادة أى: بنبيهم، وهذا كقوله - تعالى -:
{ { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } } ... وقال ابن زيد: بإمامهم أى بكتابهم الذى أنزل على نبيهم من التشريع، واختاره ابن جرير ...
وروى العوفى عن ابن عباس فى قوله: { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أى: بكتاب أعمالهم ...
وهذا القول هو الأرجح لقوله - تعالى -:
{ { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } وقال - تعالى -: { { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } } .. ويحتمل أن المراد بإمامهم: أن كل قوم بمن يأتمون به، فأهل الإِيمان ائتموا بالأنبياء - عليهم السلام -، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم فى الكفر ...
وفى الصحيحين:
"لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت ..." الحديث ...
ثم قال -رحمه الله - ولكن المراد ها هنا بالإِمام، هو كتاب الأعمال.
والمعنى: واذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - يوم ندعو كل أناس من بنى آدم الذين كرمناهم وفضلناهم على كثير من خلقنا، بكتاب أعمالهم الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الذين أخلصوا دينهم لله فقال - تعالى -: { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }.
أى: فمن أوتى من بنى آدم يوم القيامة، كتابه بيمينه، بأن ثقلت موازين حسناته على سيئاته، فأولئك السعداء يقرءون كتابهم بسرور وابتهاج، ولا ينقصون من أجورهم قدر فتيل، وهو الخيط المستطيل فى شق النواة، وبه يضرب المثل فى الشئ القليل و{ من } فى قوله { فمن أوتى } يجوز أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة، ودخلت الفاء فى الخبر وهو { فأولئك } لشبهه بالشرط.
وجاء التعبير فى قوله { أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } بالإِفراد، حملا على لفظ من، وجاء التعبير بالجمع فى { أولئك } حملا على معناها.
وفى قوله - سبحانه - { بيمينه } تشريف وتبشير لصاحب هذا الكتاب الملئ بالإِيمان والعمل الصالح وقال - سبحانه -: { فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ } بالإِظهار، ولم يقل: يقرءونه، لمزيد العناية بهؤلاء السعداء، ولبيان أن هذا الكتاب تبتهج النفوس بتكرار اسمه.
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من أوتى كتابه بشماله فقال: { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً }.
والمراد بالعمى هنا: عمى القلب لا عمى العين، بدليل قوله - تعالى -:
{ { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } }. والمعنى: ومن كان من بنى آدم فى هذه الدنيا أعمى القلب، مطموس البصيرة، بسبب إيثاره الكفر على الإِيمان، فهو فى الدار الآخرة أشد عمى، وأضل سبيلاً منه فى الدنيا، لأنه فى الدنيا كان فى إمكانه أن يتدارك ما فاته أما فى الآخرة فلا تدارك لما فاته.
وعبر - سبحانه - عن الذى أوتى كتابه بشماله بقوله - { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ } للإِرشاد إلى العلة التى بسببها أصابه الشقاء فى الآخرة، وهى - فقدانه النظر السليم، وإيثاره الغى على الرشد، والباطل على الحق ..
ومما يدل على أن المراد به من أوتى كتابه بشماله، مقابلته لمن أوتى كتابه بيمينه، كما جاء فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى -:
{ { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } }. وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لبنى آدم من التكريم والتفضيل ما من شأنه أن يحملهم على إخلاص العبادة لخالقهم، وعلى امتثال أمره، واجتناب نهيه، لكى يكونوا من السعداء فى دنياهم وآخرتهم.
ثم حكى - سبحانه - جانباً من المسالك الخبيثة، التى سلكها المشركون مع النبى صلى الله عليه وسلم لزحزحته عن التمسك بدعوته، وكيف أن الله - تعالى - قد عصمه من كيدهم، فقال - سبحانه -: { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً }.