التفاسير

< >
عرض

أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً
٧٨
وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً
٧٩
وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً
٨٠
وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
٨١
-الإسراء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى ما ملخصه: وفى نظم هذه الآيات مع ما قبلها وجوه، الأول: أنه - تعالى - لما قرر الإِلهيات والمعاد والنبوات، أردفها بذكر الأمر بالطاعات. وأشرف الطاعات. بعد الإِيمان الصلاة؛ فلهذا أمر بها.
الثانى: أنه - تعالى - لما قال: { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } أمره - تعالى - بالإِقبال على عبادته لكى ينصره عليهم .. كما قال - تعالى -:
{ { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ... } }. وقوله - سبحانه - { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } أى: داوم - أيها الرسول الكريم - على إقامة الصلاة، من وقت زوالها وميلها عن وسط السماء لجهة الغرب. يقال: دلكت الشمس تدلك - بضم اللام - إذا مالت وانتقلت من وسط السماء إلى ما يليه. ومادة { دلك } تدل على التحول والانتقال.
ولذلك سمى الدلاك بهذا الاسم. لأن يده لا تكاد تستقر على مكان معين من الجسم.
وتفسير دلوك الشمس هذا بمعنى ميلها وزوالها عن كبد السماء، مروى عن جمع من الصحابة والتابعين منهم عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأنس، وابن عباس، والحسن، ومجاهد.
وقيل المراد بدلوك الشمس هنا غروبها. وقد روى ذلك عن على، وابن مسعود، وابن زيد.
قال بعض العلماء: والقول الأول عليه الجمهور، وقالوا: الصلاة التى أمر بها ابتداء من هذا الوقت، هى صلاة الظهر، وقد أيدوا هذا القول بوجوه منها: ما روى
"عن جابر أنه قال: طعم عندى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ثم خرجوا حين زالت الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين دلكت الشمس" .
ومن الوجوه - أيضاً - النقل عن أهل اللغة، فقد قالوا: إن الدلوك فى كلام العرب: الزوال، ولذا قيل للشمس إذا زالت. دالكة.
وقوله: { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ } أى: إلى شدة ظلمته.
قال القرطبى: يقال: غسق الليل غُسوقاً. وأصل الكلمة من السيلان. يقال: غَسقت العين إذ سالت تغسق. وغسَق الجرح غسقانا، أى: سال منه ماء أصفر ... وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمته.
وقال: أبو عبيدة: الغسق: سواد الليل ...".
والمراد من الصلاة التى تقام من بعد دلوك الشمس إلى غسق الليل: صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
وقوله - تعالى -: { وقرآن الفجر } معطوف على مفعول { أقم } وهو الصلاة.
والمراد بقرآن الفجر: صلاة الفجر. وسميت قرآناً، لأن القراءة ركن من أركانها، من تسمية الشئ باسم جزئه، كتسمية الصلاة ركوعاً وسجوداً وقنوتاً.
وقوله { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } تنويه بشأن صلاة الفجر، وإعلاء من شأنها.
أى: داوم - أيها الرسول الكريم - على أداء صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وداوم على صلاة الفجر - أيضاً - فإن صلاتها مشهودة من الملائكة ومن الصالحين من عباد الله - عز وجل -.
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه: وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإِسلام اليوم، مما تلقوه خلفاً عن سلف، وقرنا بعد قرن.
روى البخارى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد، خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار فى صلاة الفجر" .
يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ... }.
وقال الإِمام الفخر الرازى: "وفى الآية احتمال، وهو أن يكون المراد من قوله - تعالى -: { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } الترغيب فى أن تؤدى هذه الصلاة بالجماعة. ويكون المعنى: إن صلاة الفجر مشهودة بالجماعة الكثيرة".
وقوله - سبحانه - { وَمِنَ ٱلَّيلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } إرشاد إلى عبادة أخرى من العبادات التى تطهر القلب، وتسمو بالنفس إلى مراقى الفلاح، وتعينها على التغلب على الهموم والآلام.
والجار والمجرور { ومن الليل } متعلق بقوله { فتهجد } أى. تهجد بالقرآن بعض الليل. أو متعلق بمحذوف تقديره: وقم قومة من الليل فتهجد، و{ من } للتبعيض.
قال الجمل: "والمعروف فى كلام العرب أن الهجود عبارة عن النوم بالليل. يقال: هجد فلان، إذا نام بالليل.
ثم لما رأينا فى عرف الشرع أنه يقال لمن انتبه بالليل من نومه وقام إلى الصلاة أنه متهجد، وجب أن يقال: سمى ذلك متهجدا من حيث أنه ألقى الهجود. فالتهجد ترك الهجود وهو النوم ...".
والضمير فى { به } يعود إلى القرآن الكريم، المذكور فى قوله - تعالى - { وقرآن الفجر }، إلا أنه ذكر فى الآية السابقة بمعنى الصلاة، وذكر هنا بمعناه المشهور، ففى الكلام ما يسمى فى البلاغة بالاستخدام.
والنافلة: الزيادة على الفريضة، والجمع نوافل. يقال: تنفل فلان على أصحابه، إذا أخذ زيادة عنهم.
أى: واجعل - أيها الرسول الكريم - جانباً من الليل، تقوم فيه، لتصلى صلاة زائدة على الصلوات الخمس التى فرضها الله - تعالى - عليك وعلى أمتك.
قال - تعالى -:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } }. قالوا: وقيام الليل كان واجباً فى حقه صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، زيادة على الصلاة المفروضة.
أخرج البيهقى فى سننه عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"ثلاث هن على فرائض، وهن لكم سنة: الوتر، والسلوك، وقيام الليل" .
ومن العلماء من يرى أن قيام الليل كان مندوباً فى حقه صلى الله عليه وسلم كما هو الشأن فى أمته، ومعنى { نافلة لك } أى: زيادة فى رفع درجاتك، فإن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أما غيرك فقد شرعنا له النافلة تكفيراً لخطاياه.
وقوله - عز وجل -: { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } بيان لما يترتب على أدائه للصلوات بخشوع وخضوع، من سمو فى المكانة، ورفعة فى الدرجة.
وكلمة عسى فى كلام العرب تفيد التوقع، أما فى كلام الله - تعالى - فتفيد الوجوب والقطع.
قال الجمل: "اتفق المفسرون على أن كلمة { عسى } من الله - تعالى - تدخل فيما هو قطعى الوقوع، لأن لفظ عسى يفيد الإِطماع، ومن أطمع إنسانا فى شئ، ثم حرمه، كان عارا عليه والله - تعالى - أكرم من أن يطمع أحداً ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه".
أى: داوم أيها الرسول الكريم على عبادة الله وطاعته لنبعثك يوم القيامة ونقيمك مقاماً محموداً، ومكاناً عالياً، يحمدك فيه الخلائق كلهم.
والمراد بالمقام المحمود هنا، هو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة. ليريح الناس من الكرب الشديد، فى موقف الحساب.
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية جملة من الأحاديث فى هذا منها: ما أخرجه البخارى عن ابن عمر قال: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثاً - جمع جثوة كخطوة وخطا - أى جماعات - كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهى الشفاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقاما محموداً".
وروى الإِمام أحمد والترمذى عن أبى بن كعب عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا كان يوم القيامة، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم. وصاحب شفاعتهم غير فخر" .
"وروى ابن جرير عن أبى هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله - تعالى -: { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } فقال: هو المقام الذى أشفع لأمتى فيه" .
وقال الآلوسى: والمراد بذلك المقام، مقام الشفاعة العظمى فى فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخارى وغيره عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم، فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك. ثم محمد فيشفع فيقضى الله - تعالى - بين الخلق، فيمشى صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله - تعالى - مقاماً محموداً، يحمده أهل الجمع كلهم" .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يكثر من اللجوء إليه عن طريق الدعاء، بعد أن أمره بذلك عن طريق المداومة على الصلاة، فقال - تعالى -: { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً }.
والمدخل والمخرج - يضم الميم فيهما - مصدران بمعنى الإِدخال والإِخراج، فهما كالمجرى والمرسى وإضافتهما إلى الصدق من إضافة الموصوف لصفته.
قال الآلوسى: واختلف فى تعيين المراد من ذلك، فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم، أن المراد: بالإِدخال: دخول المدينة، وبالإِخراج: الخروج من مكة، ويدل عليه ما أخرجه أحمد، والطبرانى، والترمذى وحسنه، والحاكم وصححه، وجماعة، عن ابن عباس قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فأنزل الله - تعالى - عليه هذه الآية. وبدأ بالإِدخال لأنه الأهم ...
ثم قال: والأظهر أن المراد إدخاله - عليه الصلاة والسلام - إدخالاً مرضياً فى كل ما يدخل فيه ويلابسه من مكان أو أمر، وإخراجه - من كل ما يخرج منه خروجاً مرضياً - كذلك -، فتكون الآية عامة فى جميع الموارد والمصادر ...".
ويبدو لنا أن المعنى الذى أشار إليه الآلوسى -رحمه الله - بأنه الأظهر، هو الذى تسكن إليه النفس، ويدخل فيه غيره دخولاً أوليا، ويكون المعنى:
وقل - أيها الرسول الكريم - متضرعاً إلى ربك: يا رب أدخلنى إدخالاً مرضياً صادقاً فى كل ما أدخل فيه من أمر أو مكان، وأخرجنى كذلك إخراجاً طيباً صادقاً من كل أمر أو مكان.
والمراد بالسلطان فى قوله - تعالى -: { وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } الحجة البينة الواضحة التى تقنع العقول، والقوة الغالبة التى ترهب المبطلين.
أى: واجعل لى - يا إلهى - من عندك حجة تنصرنى بها على من خالفنى، وقوة تعيننى بها على إقامة دينك، وإزالة الشرك والكفر.
وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى فقال: قوله: { وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } أى: حجة تنصرنى على من خالفنى، أو ملكاً وعزاً قوياً ناصراً للإِسلام على الكفر، مظهراً له عليه، فأجيبت دعوته بقوله:
{ { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } } { { فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } } { { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } } { { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ } }. ووعده لينزعن ملك فارس والروم فيجعله له.
"وعنه صلى الله عليه وسلم أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال: انطلق فقد استعملتك على أهل الله، فكان شديداً على المريب. ليناً على المؤمن، وقال: لا والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة فى جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابياً جافياً.
فقال صلى الله عليه وسلم: إنى رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة، فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً، حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإِسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم، فذلك السلطان النصير"
.
وقال ابن كثير - بعد أن ساق بعض الأقوال فى معنى الآية الكريمة - قوله: { وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } قال الحسن البصرى فى تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس والروم وليجعلنه له.
وقال قتادة فيها: إن نبى الله علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان. فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله. ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإِقامة دين الله، فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم ...
ثم قال ابن كثير: واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة، وهو الأرجح، لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه، ولهذا يقول - تعالى -:
{ { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ... } }. وفى الحديث: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أى: ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام، ما لا يمتنع كثير من الناس عن ارتكابه بالقرآن وما فيه من الوعيد الأكيد، والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع".
وفى قوله - تعالى -: { وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ } تصوير بديع لشدة القرب والاتصال بالله - تعالى - واستمداد العون منه - سبحانه - مباشرة، واللجوء إلى حماه بدون وساطة من أحد.
ثم بشره - سبحانه - بأن النصر له آت لا ريب فيه فقال - تعالى - { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }.
والحق فى لغة العرب: الشئ الثابت الذى ليس بزائل ولا مضمحل. والباطل على النقيض منه.
والمراد بالحق هنا: حقائق الإِسلام وتعاليمه التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم من عند ربه - عز وجل -.
والمراد بالباطل: الشرك والمعاصى التى ما أنزل الله بها من سلطان، والمراد بزهوقه: ذهابه وزواله. يقال: فلان زهقت روحه، إذا خرجت من جسده وفارق الحياة.
أى: وقل - أيها الرسول الكريم - على سبيل الشكر لربك، والاعتراف له بالنعمة، والاستبشار بنصره، قل: جاء الحق الذى أرسلنى به الله - تعالى - وظهر على كل ما يخالفه من شرك وكفر، وزهق الباطل، واضمحل وجوده وزالت دولته، إن الباطل كان زهوقاً، أى: كان غير مستقر وغير ثابت فى كل وقت. كما قال - تعالى -:
{ { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } }. وكما قال - سبحانه -: { { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ... } }. وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية أحاديث منها: ما أخرجه الشيخان عن ابن مسعود - رضى الله عنه - قال: "دخل النبى صلى الله عليه وسلم مكة - عند فتحها - وحول البيت ستون وثلثمائة صنم. فجعل يطعنها بعود فى يده ويقول { جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } { قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }" .
وأخرج ابن أبى شيبة وأبو يعلى وابن المنذر عن جابر قال: "دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت على وجهها. وقال { جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }" .
وقال القرطبى: فى هذه الآية دليل على كسر نُصُب المشركين، وجميع الأوثان إذا غلب عليهم، ويدخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله، وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التى لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله تعالى ...
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أمرت المسلمين فى شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم بالمداومة على كل ما يقربهم من الله - تعالى -، ولا سيما الصلاة التى هى صلة بين العبد وربه، وبشرت النبى صلى الله عليه وسلم بمنحه المقام المحمود من ربه - عز وجل، وبأن ما معه من حق وصدق، سيزهق ما مع أعدائه من باطل وكذب، فإن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن تكون العاقبة للمتقين.
ثم مدح - سبحانه - القرآن الكريم الذى أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين أحوال الإِنسان فى حالتى اليسر والعسر، والرخاء والشدة، وأن كل إنسان يعمل فى هذه الدنيا على حسب طبيعته ونيته وميوله، فقال - تعالى -: { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }.