التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
١٣
وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً
١٤
هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
١٥
وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً
١٦
-الكهف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: "نحن" وحدنا يا محمد، نقص عليك وعلى أمتك خبر هؤلاء الفتية قصصا لحمته وسداه والحق والصدق، لأنه قصص من ربك الذى لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء.
وقوله: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } كلام مستأنف جواب عن سؤال تقديره ما قصتهم وما شأنهم بالتفصيل؟
أى: إنهم فتية أخلصوا العبادة لخالقهم، وأسلموا وجوههم لبارئهم، وآمنوا بربوبيته - سبحانه - إيمانا عمقياً ثابتاً، فزادهم الله ببركة هذا الإِخلاص والثبات على الحق، هداية على هدايتهم، وإيمانا على إيمانهم.
وقوله - سبحانه - { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ } إيماء إلى أن قصة هؤلاء الفتية كانت معروفة لبعض الناس، إلا أن معرفتهم بها كانت مشوبة بالخرافات والأباطيل.
قال ابن كثير: ما ملخصه: ذكر الله - تعالى - أنهم كانوا فتية - أى شبابا -، وهم أقبل للحق من الشيوخ، الذين عتوا فى دين الباطل، ولهذا كان اكثر المستجيبين لله ولرسوله شبابا، وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل.
واستدل غير واحد من الأئمة كالبخارى وغيره بقوله { وزدناهم هدى } إلى أن الإِيمان يزيد وينقص ...
ثم حكى - سبحانه - جانبا من مظاهر هدايته لهم فقال: { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ }.
وأصل الربط: الشد، يقال، ربطت الدابة، أى: شددتها برباط، والمراد به هنا: ما غرسه الله فى قلوبهم من قوة، وثبات على الحق، وصبر على فراق أهليهم، ومنه قولهم: فلان رابط الجأش، إذا كان لا يفزع عند الشدائد والكروب.
والمراد بقيامهم: عقدهم العزم على مفارقة ما عليه قومهم من باطل، وتصميمهم على ذلك تصميما لا تزحزحه الخطوب مهما كانت جسيمة.
ويصح أن يكون المراد بقيامهم: وقوفهم فى وجه ملكهم الجبار بثبات وقوة، دون أن يبالوا به عندما أمرهم بعبادة ما يعبده قومهم، وإعلانهم دين التوحيد، ونبذهم لكل ما سواه من شرك وضلال.
قال القرطبى ما ملخصه: قوله - تعالى - { إذ قاموا } يحتمل ثلاثة معان. أحدها: أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدى الملك الكافر، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا ما دعاهم إليه.
والمعنى الثانى فيما قيل: إنهم أولاد عظماء تلك المدينة فخرجوا واجتمعوا وراءها من غير ميعاد، وتعاهدوا على عبادة الله وحده.
والمعنى الثالث: أن يعبر بالقيام عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله - تعالى - ومنابذة الناس، كما تقول: قام فلان إلى أمر كذا، إذا عزم عليه بغاية الجد.
وعلى أية حال فالجملة الكريمة تفيد أن هؤلاء الفتية كانت قلوبهم ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذى اهتدت إليه، معتزة بالإِيمان الذى أشربته، مستبشرة بالإِخاء الذى جمع بينها على غير ميعاد، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:
"الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" .
ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بعد أن استقر الإِيمان فى نفوسهم فقال: { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً .. }.
أى: أعلنوا براءتهم من كل خضوع لغير الله - عز وجل - حين قاموا فى وجه أعدائهم، وقالوا بكل شجاعة وجرأة: ربنا - سبحانه - هو رب السماوات والأرض، وهو خالقهما وخالق كل شئ، ولن نعبد سواه أى معبود آخر.
ونفوا عبادتهم لغيره - سبحانه - بحرف - "لن" للإِشعار بتصميمهم على ذلك فى كل زمان وفى كل مكان، إذ النفى بلن أبلغ من النفى بغيرها.
قال الآلوسى: وقد يقال؛ إنهم أشاروا بالجملة الأولى - وهى: ربنا رب السماوات والأرض - إلى توحيد الربوبية، وأشاروا بالجملة الثانية - لن ندعو من دونه إلها - إلى توحيد الألوهية، وهما أمران متغايران، وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا، ويقولون بالأول:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } وحكى - سبحانه - عنهم أنهم يقولون: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } وصح أنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وقوله - سبحانه - { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } تأكيد لبراءتهم من كل عبادة لغير الله - تعالى -.
والشطط: مصدر معناه مجاوزة الحد فى كل شئ، ومنه: أشط فلان فى السَّومْ إذا جاوز الحد، وأشط فى الحكم إذا جاوز حدود العدل: وهو صفة لموصوف محذوف، وفى الكلام قسم مقدر، واللام فى "لقد" واقعة فى جوابه، و"إذا" حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر.
أى: ربنا رب السماوات والأرض، لن ندعو من دونه إلها. ولو فرض أننا دعونا وعبدنا من دونه إلها آخر، والله لنكونن فى هذه الحالة قد قلنا إذا قولا شططا، أى: بعيدا بعدا واضحا عن دائرة الحق والصواب.
والأية الكريمة تدل على قوة إيمان هؤلاء الفتية، وعلى أن من كان كذلك ثبت الله - تعالى - قلبه، وقواه على تحمل الشدائد، كما تدل على أن من أشرك مع الله - تعالى - إلها آخر، يكون بسبب هذا الإِشراك، قد جاء بأمر شطط بعيد كل البعد عن الحق والصواب وصدق الله إذ يقول:
{ { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } }. ثم حكى - سبحانه - عن هؤلاء الفتية أنهم لم يكتفوا بإعلان إيمانهم الصادق، بل أضافوا إلى ذلك استنكارهم لما عليه قومهم من شرك فقال: { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ .. }.
و{ هؤلاء } مبتدأ، و{ قومنا } عطف بيان، وجملة { ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً } هى الخبر.
و"لولا" للتحضيض، وهو الطلب بشدة والمقصود بالتحضيض هنا: الإِنكار والتعجيز، إذ من المعلوم أن قومهم لن يستطيعوا أن يقيموا الدليل على صحة ما هم عليه من شرك.
والمراد بالسلطان البين: الحجة الواضحة.
أى: أن أولئك الفتية بعد أن اجتمعوا، وتعاهدوا على عبادة الله - تعالى - وحده، ونبذ الشرك والشركاء قالوا على سبيل الإِنكار والاحتقار لما عليه قومهم: هؤلاء قومنا بلغ بهم السفه والجهل، أنهم اتخذوا مع الله - تعالى - أصناما يشركونها معه فى العبادة، هلا أتى هؤلاء السفهاء بحجة ظاهرة تؤيد دعواهم بأن هذه الأصنام تصلح آلهة لا شك أنهم لن يستطيعوا ذلك.
قال صاحب الكشاف وقوله: { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } تبكيت لأن الإِتيان بالسلطان على صحة عبادة الأوثان محال، وهو دليل على فساد التقليد، وأنه لا بد فى الدين من حجة حتى يصح ويثبت.
وشبيه بهذه الآية فى تعجيز المشركين وتجهيلهم قوله تعالى:
{ { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } }. وقوله - سبحانه -: { { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } }: ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يدل على تكذيبهم لقومهم، ووصفهم إياهم بالظلم فقال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }.
أى: لا أحد أشد ظلماً من قوم افتروا على الله - تعالى- الكذب، حيث زعموا أن له شريكا فى العبادة والطاعة، مع انه - جل وعلا - منزه عن الشريك والشركاء:
{ { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } }. ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما تناجوا به فيما بينهم، بعد أن وضح موقفهم وضوحا صريحا حاسما، وبعد أن أعلنوا كلمة التوحيد بصدق وقوة .. فقال - تعالى -: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }.
و"إذ" يبدو أنها هنا للتعليل. والاعتزال: تجنب الشئ سواء أكان هذا التجنب بالبدن أم بالقلب. و"ما" فى قوله { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ } اسم موصول فى محل نصب معطوف على الضمير فى قوله { اعتزلتموهم } وقوله: { إلا الله } استثناء متصل، بناء على أن القوم كانوا يعبدون الله - تعالى - ويشكرون معه فى العبادة الأصنام. و"من" قالوا إنها بمعنى البدلية.
وقوله: { مرفقاً } من الارتفاق: بمعنى الانتفاع، وقرأ نافع وابن عامر مرفقا - بفتح الميم وكسر الفاء.
والمعنى: أن هؤلاء الفتية بعد أن أعلنوا كلمة التوحيد، وعقدوا العزم على مفارقة قومهم المشركين تناجوا فيما بينهم وقالوا: ولأجل ما أنتم مقدمون عليه من اعتزالكم لقومكم الكفار، واعتزالكم الذى يعبدونه من دون الله؛ لأجل ذلك فالجأوا إلى الكهف، واتخذوه مأوى ومستقراً لكم، ينشر لكم ربكم الكثير من الخير بفضله ورحمته، ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب. أمراً آخر فيه اليسر والنفع.
وفى التعبير بقولهم - كما حكى القرآن عنهم .. { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ .. } دلالة واضحة على صدق إيمانهم وحسن ظنهم الذى لا حدود له، بربهم - عز وجل - فهم عندما فارقوا أهليهم وأموالهم وزينة الحياة، وقرروا اللجوء إلى الكهف الضيق الخشن المظلم .. لم ييأسوا من رحمة الله، بل أيقنوا أن الله - تعالى - سيرزقهم فيه الخير الوفير، وييسر لهم ما ينتفعون به، ببركة إخلاصهم وصدق إيمانهم.
وهكذا الإِيمان الصادق، يجعل صاحبه يفضل المكان الخالى من زينة الحياة، من أجل سلامة عقيدته، على المكان الملئ باللين والرخاء الذى يحس فيه بالخوف على عقيدته.
فالآية الكريمة تدل على أن اعتزال الكفر والكافرين من أجل حماية الدين، يؤدى إلى الظفر برحمة الله وفضله وعطائه العميم وصدق الله إذ يقول فى شأن إبراهيم - عليه السلام -
{ { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } }. ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن أحوال هؤلاء الفتية بعد أن استقروا فى الكهف وبعد أن ألقى الله - تعالى - عليهم بالنوم الطويل فتقول: { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ... }.