التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
١٩
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٢٠
-الكهف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ }، بيان للعلة التى من أجلها بعث أصحاب الكهف من نومهم الطويل.
أى: وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة، بعثناهم من نومهم بعدها، ليسأل بعضهم بعضا، وكأنهم قد أحسوا بأن نومهم قد طال.
والاقتصار على التساؤل الذى حصل الإِيقاظ من أجله، لا ينفى أن يكون هناك أسباب أخرى غيره حصل من أجلها إيقاظهم، وإنما أفرده - سبحانه - بالذكر لاستتباعه لسائر الآثار الأخرى.
ثم حكى - سبحانه - بعض تساؤلهم فقال: { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ } أى: كم مكثتم مستغرقين فى النوم فى هذا الكهف.
فأجابه بعضهم بقوله: { لبثنا يوماً } لظنهم أن الشمس قد غربت، فلما رأوها لم تغرب بعد قالوا: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أى: مكثنا نائمين بعض ساعات اليوم.
ويصح أن تكون أو للشك. أى قال بعضهم فى الرد على سؤال السائل كم لبثتم، لبثنا فى النوم يوما أو بعض يوم، لأننا لا ندرى على الحقيقة كم مكثنا نائمين.
ثم حكى القرآن أن بعضهم رد عِلْمَ مقدار مدة نومهم على جهة اليقين إلى الله - تعالى - فقال: { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أى: ربكم وحده هو العليم بمقدار الزمن الذى قضيتموه نائمين فى هذا الكهف.
قال الآلوسى: وهذا رد منهم على الأولين، على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب، وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق فى قوله - تعالى -
{ { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } }. وقال بعضهم: وقد استدل ابن عباس على أن عدد الفتية سبعة بهذه الآية، لأنه قد قال فى الآية: قال قائل منهم، وهذا واحد، وقالوا فى جوابه: لبثنا يوما، أو بعض يوم وهو جمع وأقله ثلاثة، ثم قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة.
ثم بين - سبحانه - ما قالوه بعد أن تركوا الحديث فى مسألة الزمن الذى قضوه نائمين فى الكهف فقال - تعالى -: { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً }.
أى: كفوا عن الحديث فى مسألة المدة التى نمتموها، فعلمها عند الله، وابعثوا أحدكم { بورقكم }. أى: بدراهمكم المضروبة من الفضة، { إلى المدينة } التى يوجد بها الطعام الذى نحن فى حاجة إليه، والتى هى أقرب مكان إلى الكهف.
قالوا: والمراد بها مدينتهم التى كانوا يسكنونها قبل أن يلجأوا إلى الكهف فراراً بدينهم.
{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً } أى: ومتى وصل إلى المدينة، فليتفقد أسواقها، وليتخير أى أطعمتها أحل وأطهر وأجود وأكثر بركة.
{ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } أى: فليأتكم بما يسد جوعكم من ذلك الأزكى طعاما، فيكون الضمير فى "منه" للطعام الأزكى.
ويصح أن يكون للدراهم المضروبة المعبر عنها { بورقكم }، أى: فليأتكم بدلا منها بطعام تأكلونه، وليتلطف، أى: وليتكلف اللطف فى الاستخفاء، والدقة فى استعمال الحيل حال دخوله وخروجه من المدينة، حتى لا يعرفه أحد من أهلها.
{ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } أى: ولا يفعلن فعلا يؤدى إلى معرفة أحد من أهل المدينة بنا.
وقوله: { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } تعليل للأمر والنهى السابقين.
أى: قولوا لمن تختارونه لشراء طعامكم من المدينة: عليه أن يتخير أزكى الطعام، وعليه كذلك أن لا يخبر أحدا بأمركم من أهل المدينة، لأنهم { إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } أى: يطلعوا عليكم. أو يظفروا بكم.
وأصل معنى ظهر. أى: صار على ظهر الأرض. ولما كان ما عليها مشاهدا متمكنا منه، استعمل تارة فى الاطلاع، وتارة فى الظفر والغلبة، وعدى بعلى.
{ يرجموكم } أى إن يعرفوا مكانكم، يرجموكم بالحجارة حتى تموتوا { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } الباطلة التى نجاكم الله - تعالى - منها.
{ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } أى: وإن عدتم إليها بعد إذ نجاكم الله - تعالى - منها وعصمكم من اتباعها، فلن تفلحوا إذا أبدا، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة.
وهكذا نجد هاتين الآيتين تصوران لنا بأسلوب مؤثر بليغ حال الفتية وهم يتناجون فيها بينهم، بعد أن استيقظوا من رقادهم الطويل.
ونراهم فى تناجيهم - بعد أن تركوا الحديث عن المدة التى لبثوها فى نومهم - نراهم حذرين خائفين، ولا يدرون أن الأعوام قد كرت. وأن عجلة الزمن قد دارت، وأن أجيالا قد تعاقبت، وأن مدينتهم التى يعرفونها قد تغيرت معالمها. وأن أعداءهم الكافرين قد زالت دولتهم.
ثم تمضى السورة الكريمة لتحدثنا عن مشهد آخر من أحوال هؤلاء الفتية. مشهد تتجلَّى فيه قدرة الله - تعالى - على أبلغ وجه، كما تتجلى فيه حكمته ووحدانيته، استمع إلى القرآن الكريم وهو يحدثنا عن ذلك فيقول: { وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً }.