التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
٢٧
وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً
٢٨
وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً
٢٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً
٣٠
أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً
٣١
-الكهف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى ما ملخصه: قوله - تعالى -: { وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ .. } اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى - عليه السلام - والخضر، كلام واحد فى قصة واحدة وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء .. فنهاه الله عن طردهم لأنه مطلوب فاسد .. ثم إنه - سبحانه - أمره بالمواظبة على تلاوة كتابه، وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين، وتعنت المتعنتين.
قوله - سبحانه - : { واتل } ... فعل أمر من التلاوة بمعنى القراءة.
أى: وعليك أيها الرسول الكريم - أن تواظب وتداوم على قراءة ما أوحيناه إليك من هذا القرآن الكريم، وأن تتبع إرشاداته وتوجيهاته، فإن فى ذلك ما يهديك إلى الطريق الحق، وما يغنيك عن السؤال والاستفتاء، قال - تعالى -:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } }. وصيغة الأمر فى قوله - سبحانه -: { واتل .. } لإِبقاء الفعل لا لإِيجاده، كما فى قوله - تعالى -: { { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } }. و"من" فى قوله { مِن كِتَابِ رَبِّكَ } بيانية.
وقوله: { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أى ليس فى هذا الكون أحد فى إمكانه أن يغير أو يبدل شيئا من الكلمات التى أوحاها الله - تعالى - إليك - أيها الرسول الكريم -، لأننا قد تكفلنا بحفظ هذا الكتاب الذى أوحيناه إليك.
قال - تعالى -:
{ { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } }. وقال - سبحانه - { { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } }. فالجملة الكريمة وهى قوله - سبحانه - { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } نفت قدرة أحد على تبديل كلمات الله، لأن أخبارها صدق، وأحكامها عدل، وإنما الذى يقدر على التغيير والتبديل هو الله - تعالى - وحده.
والضمير فى { كلماته } يعود على الله - تعالى -، أو على الكتاب.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً }.
وأصل الملتحد: مكان الالتحاد وهو افتعال من اللحد بمعنى الميل. ومنه اللحد فى القبر، لأنه ميل فى الحفر. ومنه قوله - تعالى -:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ .. } أى: يميلون فى آياتنا.
فالمراد بالملتحد: المكان الذى يميل فيه إلى ملجأ للنجاة.
والمعنى: وداوم أيها الرسول الكريم على تلاوة ما أوحيناه إليك من كتابنا الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واعلم أنك إن خالفت ذلك لن تجد غير الله - تعالى - ملجأ تلجأ إليه، أو مأوى تأوى إليه، لكى تنجو مما يريده بك.
فالجملة الكريمة تذييل قصد به التحذير الشديد - فى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لكل من يقصر فى تلاوة كتاب الله، أو يحاول التبديل فى ألفاظه ومعانيه.
ثم ساقت السورة الكريمة لونا من الأدب السامى، والتوجيه العالى، حيث بينت أن أولى الناس بالرعاية والمجالسة هم المؤمنون الصادقون، وأمرت النبى صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم، فقال - تعالى -:
{ { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } }. وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنها نزلت فى أشراف قريش، حين طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وابن مسعود. وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك .. وأمره أن يصبر نفسه فى الجلوس مع هؤلاء الفقراء فقال: { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }.
وصبر النفس معناه: حبسها وتثبيتها على الشئ، يقال: صبرَت فُلانا أصْبِره صَبْرا، أى: حبسته.
والغداة: أول النهار. والعشى. آخره.
والمعنى: عليك - أيها الرسول الكريم - أن تحبس نفسك وتعودها على مجالسة أصحابك { ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } أى: يعبدونه ويتقربون إليه بشتى أنواع القربات، فى الصباح والمساء، ويداومون على ذلك، دون أن يريدوا شيئا من وراء هذه العبادة، سوى رضا الله - تعالى - عنهم ورحمته بهم.
وفى تخصيص الغداة والعشى بالذكر: إشعار بفضل العبادة فيهما: لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور الدنيوية غالبا.
ويصح أن يكون ذكر هذين الوقتين المقصود به مداومة العبادة. وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله: قوله: { يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ } أى: يعبدونه دائما. وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام. وهى نظير قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن. يريدون به ضرب جميع البدن. وأبقى غير واحد اللفظين على ظاهرهما أى: يعبدونه فى طرفى النهار.
وقوله: { يريدون وجهه } مدح لهم بالإِخلاص والبعد عن الرياء والمباهاة .. فهم لا يتقربون إلى الله - تعالى - بالطاعات من أجل دنيا يصيبونها. أو من أجل إرضاء الناس.
وإنما هم يبتغون بعبادتهم رضا الله - تعالى - وحده، لا شيئا آخر من حظوظ الدنيا.
وقوله - سبحانه - { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } نهى له صلى الله عليه وسلم - عن الغفلة عنهم، بعد أمره بحبس نفسه عليهم.
والفعل { تَعْدُ } بمعنى تصرف. يقال عداه عن الأمر عدوا إذا صرفه عنه وشغله.
أى: احبس نفسك مع هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه - سبحانه - ولا تصرف عيناك النظر عنهم، وتتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء، طمعا فى إسلامهم.
فالمراد بإرادة الحياة الدنيا الحرص على مجالسة أهل الغنى والجاه حبا فى إيمانهم.
وجملة { تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } فى موضع الحال من الضمير المضاف إليه فى قوله { عيناك }، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه.
وقوله - تعالى - { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } نهى آخر مؤكد لما قبله من حبس نفسه صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المؤمنين الفقراء، وعدم صرف نظره عنهم إلى غيرهم من المتغطرسين الأغنياء.
والفرط - بضم الفاء والراء -: مجاوزة الحد، ونبذ الحق والصواب، واتباع الباطل والضلال. أى: ولا تطع - أيها الرسول الكريم - فى تنحية المؤمنين الفقراء عن مجلسك أقوال أولئك الغافلين عن طاعتنا وعبادتنا لاستحواذ الشيطان عليها، والذين اتبعوا أهواءهم فآثروا الغى على الرشد. والذين كان أمرهم. فرطا أى: مخالفا للحق، ومجاوزا للصواب، ومؤديا للضياع والخسران.
قال ابن جرير - "بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى قوله - تعالى -: { فرطا }: وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال معناه: ضياعا وهلاكا. من قولهم: أفرط فلان فى هذا الأمر إفراطاً، إذا أسرف فيه. وتجاوز قدره. وكذلك قوله: { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }. معناه: وكان أمر هذا الذى أغفلنا قلبه عن ذكرنا فى الرياء والكبر واحتقار أهل الإِيمان سرفا قد تجاوز حده، فضيع بذلك الحق وهلك".
فالآية الكريمة تسوق للناس توجيها حكيما فى بيان القيم الحقيقية للناس؛ وهى أنها تتمثل فى الإِيمان والتقوى، لا فى الغنى والجاه.
فالمؤمن الصادق فى إيمانه، الكريم فى أخلاقه .. هو الذى يحرص على مخالطة أهل الإِيمان والتقوى. ولا يمنعه فقرهم من مجالستهم ومصاحبتهم ومؤانستهم والتواضع لهم، والتقدم إليهم بما يسرهم ويشرح صدورهم.
ولقد ربى النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا الخلق الكريم، روى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدى قال:
"مر رجل على النبى صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك فى هذا؟ فقال: رجل من أشرف الناس، هذا والله حرىُّ إن خطب أن يزوج، وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرّ رجل آخر: فقال له صلى الله عليه وسلم: ما رأيك فى هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا والله حرى إن خطب أن لا يزوج، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجهر بكلمة الحق فى وجوه المستكبرين، فقال. { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ .. }.
أى: وقل: أيها الرسول - لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم، وكان أمرهم فرطا، قل لهم: هذا الذى جئتكم به من قرآن هو الحق من ربكم وخالقكم ..
فقوله: { ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف.
أو أن لفظ { الحق } مبتدأ، والجار والمجرور خبره. أى: الحق الذى جئتكم به فى هذا القرآن العظيم، كائن مبدؤه من ربكم، وليس من أحد سواه.
وليس المراد من قوله { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } التخيير بين الإيمان والكفر، بل المراد به التهديد والتخويف، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً } .. إلخ.
أى: قل لهم جئتكم من ربكم بالحق الذى يجب اتباعه، فمن شاء أن يؤمن به فليفعل فإن عاقبته الخير والثواب، ومن شاء أن يكفر به فليكفر فإن عاقبته الخسران والعقاب، كما بين - سبحانه - ذلك فى قوله: { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا }.
والسرادق: كل ما أحاط بغيره، كالحائط أو السور الذى يحيط بالبناء، فيمنع من الوصول إلى ما بداخله.
أى: إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بهذا الحق نارا مهولة عظيمة، أحاط بهم سياجها إحاطة تامة؛ بحيث لا يستطيعون الخروج منه، وإنما هم محصورون بداخله. كما ينحصر الشئ بداخل ما يحدق به من كل جانب.
وقوله: { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } بيان لما ينزل بهم من عذاب عندما يطلبون الغوث مما هم فيه من كروب.
والمهل فى اللغة: يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض. كالحديد، والرصاص، والنحاس، ونحو ذلك كما يطلق - أيضا - على الماء الغليظ كدردى الزيت أى: ما تعكر منه. وقيل. هو نوع من القطران أو السم.
والمرتفق: المتكأ، من الارتفاق وهو الاتكاء على مرفق اليد.
أى: إن هؤلاء الكافرين، إن يطلبوا الغوث عما هم فيه من كرب وعطش، يغاثوا بماء كالمهل فى شدة حرارته ونتنه وسواده، هذا الماء { يشوى الوجوه } أى: يحرقها.
{ بئس الشراب } ذلك الماء الذى يغاثون به { وساءت } النار منزلا ينزلون به، ومتكأ يتكئون عليه.
فالآية الكريمة تصور ما ينزل بهؤلاء الظالمين من عذاب، تصويرا ترتجف من هوله الأبدان، ويدخل الرعب والفزع على النفوس.
قال بعضهم: "فإن قيل، أى إغاثة لهم فى ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب، وكيف قال - سبحانه -، { يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ }؟
فالجواب: إن هذا من أساليب اللغة العربية التى نزل بها القرآن ونظيره من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب.

وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع

أى: لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع، وإذا كان هؤلاء الظالمون لا يغاثون إلا بماء كالمهل، علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم مطلقا".
والمخصوص بالذم فى قوله: { بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } محذوف، بئس الشراب ذلك الماء الذى يغاثون به، وساءت النار مكانا للارتفاق والاتكاء.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حسن عاقبة المؤمنين فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }.
ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ألوان النعيم فقال: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ }.
ولفظ { عدن } بمعنى إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول. وأصله من عدن فلان بالمكان. إذ أقام به واستقر فيه.
أى: أولئك الذين عمروا دنياهم بالإِيمان والعمل الصالح لهم جنات يقيمون فيها إقامة دائمة، تجرى من تحت مساكنهم الأنهار.
{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } والأساور: جمع سوار. وهو نوع من الحلى يلبس بزند اليد.
أى: يلبسون فى تلك الجنات أساور من ذهب على سبيل التزين والتكريم.
ولا مانع من أن يضاف إلى هذه الأساور الذهبية، أساور أخرى من فضة، وثالثة من لؤلؤ كما فى قوله - تعالى -:
{ { وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } }. وقوله - سبحانه -: { { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً .. } }. وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" .
وقوله { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } معطوف على ما قبله.
والسندس: ما رق من الحرير واحده سندسة.
والإِستبرق: ما غلظ منه وثخن، واحده إستبرقة.
أى: يتزينون فى الجنات بأساور من ذهب، ويلبسون فيها ثيابا خضرا من رقيق الحرير ومن غليظه.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً }.
والأرائك: جمع أريكة. وهو كل ما يتكأ عليه من سرير أو فراش.
أى: متكئين فى الجنات على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين { نعم الثواب } ذلك الذى وعدهم الله - تعالى - به { وحسنت } تلك الأرائك فى الجنات { مرتفقا }.
أى: متكأ ومقرا ومجلسا ومسكنا.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد اشتملت على ألوان متعددة من التكريم والثواب لأولئك المؤمنين الذين عمروا دنياهم بالعمل الصالح.
فقد بشرهم - سبحانه - بجنات عدن، ثم بشرهم ثانيا بأن الأنهار تجرى من تحتهم، ثم بشرهم ثالثا بأنهم يحلون فيها من أساور من ذهب، ثم بشرهم رابعا بأنهم يلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق، ثم بشرهم خامساً، بأنهم يتكئون فى تلك الجنات على الأرائك.
وفى هذه البشارات ما فيها من الحض على المسارعة إلى العمل الصالح، الذى يرفع درجات المؤمن إلى أعلى عليين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، نسأل الله - تعالى - أن يرزقنا هذا الفضل، فهو أكرم مسئول، وأعظم مأمور.
ثم ساقت السورة الكريمة مثلا للنفس الإِنسانية المغرورة المتفاخرة بزينة الحياة الدنيا، الجاحدة لنعم الله ... وللنفس الإِنسانية المتواضعة، المعتزة بعقيدتها السليمة، الشاكرة لربها ... لكى يكون فى هذا المثل عبرة وعظة لمن كان له قلب، فقال - تعالى -: { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً }.