التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً
٥٤
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً
٥٥
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً
٥٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٥٧
وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
٥٨
وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
-الكهف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه - { صرفنا } من التصريف بمعنى التنويع والتكرير.
والمثل: هو القول الغريب السائر فى الآفاق الذى يشبه مضربه مورده.
وقد أكثر القرآن من ضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفى وتقريب الأمر المعقول من الأمر المحسوس، وعرض الأمر الغائب فى صورة الحاضر.
والمعنى: ولقد كررنا ورددنا ونوعنا فى هذا القرآن من أجل هداية الناس، ورعاية مصلحتهم ومنفعتهم، من كل مثل من الأمثال التى تهدى النفوس، وتشفى القلوب، لعلهم بذلك يسلكون طريق الحق، ويتركون طريق الباطل.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة، الشهادة من الله - تعالى - بأن هذا القرآن الذى أنزله - سبحانه - على نبيه صلى الله عليه وسلم فيه من الأمثال الكثيرة المتنوعة النافعة، ما يرشد الناس إلى طريق الحق والخير، متى فتحوا قلوبهم له. وأعملوا عقولهم لتدبره وفهمه.
ومفعول { صرفنا } محذوف، و"من" لابتداء الغاية، أى: ولقد صرفنا البينات والعبر والحكم فى هذا القرآن، من أنواع ضرب المثل لمنفعة الناس ليهتدوا ويذكروا.
ثم بين - سبحانه - موقف الإِنسان من هذه الأمثال فقال: { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }.
والمراد بالإنسان: الجنس، ويدخل فيه الكافر والفاسق دخولا أوليا.
والجدل: الخصومة والمنازعة مع الغير فى مسألة من المسائل.
أى: وكان الإنسان أكثر شئ مجادلة ومنازعة لغيره، أى: أن جدله أكثر من جدل كل مجادل.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: ولقد بينا للناس فى هذا القرآن، ووضحنا لهم الأمور، وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق .. ومع هذا البيان، فالإنسان كثير المجادلة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
قال الإمام أحمد:
"حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب. عن الزهرى قال: أخبرنى على بن الحسين، أن الحسين بن على أخبره، أن على بن أبى طالب أخبره. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق عليا وفاطمة ليلة فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله .. فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف حين قلت ذلك ولم يرفع إلى بشئ ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول: وكان الإِنسان أكثر شئ جدلا
"
. وفى التعبير عن الإنسان فى هذه الجملة بأنه { شئ } وأنه { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } إشعار لهذا الإِنسان بأن من الواجب عليه أن يقلل من غروره وكبريائه. وأن يشعر بأنه خلق من مخلوقات الله الكثيرة، وأن ينتفع بأمثال القرآن ومواعظه وهداياته .. لا أن يجادل فيها بالباطل.
ومنهم من يرى أن المراد بالإنسان هنا: الكافر، أو شخص معين، قيل: هو النضر بن الحارث، وقيل: أبى بن خلف.
لكن الظاهر أن المراد به العموم - كما أشرنا - ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا.
ثم حكى - سبحانه - الأسباب التى منعت بعض الناس من الإِيمان فقال: { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً }.
والمراد بالناس: كفار مكة ومن حذا حذوهم فى الشرك والضلال والمراد بسنة الأولين: ما أنزله - سبحانه - بالأمم السابقة من عذاب بسبب إصرارها على الكفر والجحود.
والمعنى: وما منع الكفار من الإِيمان وقت أن جاءهم الهدى عن طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم ومن أن يستغفروا ربهم من ذنوبهم، إلا ما سبق فى علمنا، من أنهم لا يؤمنون، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين، أى: سنتنا فى إهلاكهم بعذاب الاستئصال بسبب إصرارهم على كفرهم.
ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف، و"أن" وما بعدها فى قوله { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ } فى تأويل فاعل الفعل { منع }.
والمعنى: وما منع الناس من الإيمان والاستغفار وقت مجئ الهدى إليهم، إلا طلب إتيان سنة الأولين، كأن يقولوا - كما حكى الله - تعالى - عن بعضهم:
{ { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } }. فسنة الأولين أنهم طلبوا من أنبيائهم تعجيل العذاب، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وقوله: { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } بيان لعذاب آخر ينتظرونه.
وكلمة { قُبُلا } قرأها عاصم والكسائى وحمزة - بضم القاف والباء - على أنها جمع قبيل وهو النوع فيكون المعنى: أو يأتيهم العذاب على صنوف وأنواع مختلفة، ومن جهات متعددة يتلو بعضها بعضا.
وقرأها الباقون: { قِبَلا } - بكسر القاف وفتح الباء - بمعنى عيانا ومواجهة.
والمعنى: أو يأتيهم العذاب عيانا وجهارا، وأصله من المقابلة، لأن المتقابلين يعاين ويشاهد كل منهما الآخر.
وهى على القراءتين منصوبة على الحالية من العذاب.
فحاصل معنى الآية الكريمة أن هؤلاء الجاحدين لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا حين نزول العذاب الدنيوى بهم وهو ما اقتضته سنة الله - تعالى - فى أمثالهم، أو حين نزول أصناف العذاب بهم فى الآخرة.
ثم بين - تعالى - وظيفة الرسل فقال: { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ }.
أى: تلك هى وظيفة الرسل الكرام الذين نرسلهم لهداية الناس وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان.
فهم يبشرون المؤمنين بحسن العاقبة وجزيل الثواب، وينذرون الفاسقين والكافرين بسوء العاقبة، وشديد العقاب.
وقوله - تعالى -: { وَيُجَادِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } بيان لموقف الكافرين من الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
ويجادل من المجادلة بمعنى المخاصمة والمنازعة. ومفعوله محذوف.
والباطل: هو الشئ الزائل المضمحل الذى هو ضد الحق والعدل. والحق هو الشئ الثابت القويم الذى تؤيده شريعة الله - عز وجل -.
والدحض: الطين الذى لا تستقر عليه الأقدام. فمعنى يدحضوا: يزيلوا ويبطلوا تقول العرب: دحضت رجل فلان، إذا زلت وزلقت .. ومنه قوله - تعالى -:
{ { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } }. والمعنى: ويجادل الذين كفروا رسلهم بالجدال الباطل، ليزيلوا به الحق الذى جاء به هؤلاء الرسل ويدحضوه ويبطلوه، والله - تعالى - متم نوره ولو كره الكافرون، فإن الباطل مهما طال فإن مصيره إلى الاضمحلال والزوال.
وقوله - تعالى - { وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً } معطوف على ما قبله لبيان رذيلة أخرى من رذائل هؤلاء الكافرين.
والمراد بآيات الله: تلك المعجزات التى أيد الله - تعالى - بها رسله سواء أكانت قولا أم فعلا، ويدخل فيها القرآن دخولا أوليا.
أى: أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بجدال رسلهم بالباطل، بل أضافوا إلى ذلك أنهم اتخذوا الآيات التى جاء بها الرسل كدليل على صدقهم، واتخذوا ما أنذروهم به من قوارع إذا ما استمروا على كفرهم. اتخذوا كل ذلك { هزوا } أى: اتخذوها محل سخريتهم ولعبهم ولهوهم واستخفافهم، كما قال - سبحانه -:
{ { وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِي ٱتَّخَذُواْ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ مَهْجُوراً } }. ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المعرضين عن التذكير وعن آيات الله فقال: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ }.
والاستفهام هنا للنفى والإِنكار والمراد بالآيات آيات القرآن الكريم. لقوله - تعالى - بعد ذلك: { أن يفقهوه }.
والمراد بالنسيان: الترك والإِهمال وعدم التفكر والتدبر فى العواقب.
أى: ولا أحد أشد ظلما وبغيا. من إنسان ذكره مذكر ووعظه بآيات الله التى أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها دون أن يقبلها أو يتأملها. بل نبذها وراء ظهره، ونسى ما قدمت يداه من السيئات والمعاصى، نسيان ترك وإهمال واستخفاف.
ثم بين - سبحانه - علة هذا الإِعراض والنسيان فقال: { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً }.
والأكنة: جمع كنان بمعنى غطاء والوقر الثقل والصمم. يقال فلان وقرت أذنه، أى: ثقل سمعها وأصيبت بالصمم.
أى: إنا جعلنا على قلوب هؤلاء الظالمين المعرضين عن الحق، أغطية تمنع قلوبهم عن وصول النور إليها، وتحجبها عن فقه آياته - سبحانه - وجعلنا - أيضا - فى آذانهم صمما وثقلا عن سماع ما ينفعهم وذلك يسبب استحبابهم العمى على الهدى، وإيثارهم الكفر على الإِيمان.
{ وإن تدعهم } أيها الرسول الكريم { إلى الهدى } والرشد فلن، يستجيبوا لك، ولن { يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً } إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، بسبب زيغ قلوبهم، واستيلاء الكفر والجحود والعناد عليها.
والضمير فى قوله { أن يفقهوه } يعود إلى الآيات، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى، إذ المراد منها القرآن الكريم.
وجاءت الضمائر فى أول الآية بالإِفراد، كما فى قوله، { ذُكر } و{ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } باعتبار لفظ "من" فى قوله { ومن أظلم } وجاءت بعد ذلك بالجمع كما فى قوله سبحانه -: { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً .. } باعتبار المعنى.
وهذا الأسلوب كثير فى القرآن الكريم، ومنه قوله - تعالى -:
{ { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ ٱللَّهُ لَهُ رِزْقاً } }. فالضمير فى قوله: "يؤمن ويعمل ويدخله" جاء بصيغة الإِفراد باعتبار لفظ "من"، وفى قوله: { خالدين فيها } جاء بصيغة الجمع باعتبار معنى "من".
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على سعة رحمته، وعظيم فضله فقال: { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً }.
أى: وربك - أيها الرسول الكريم - هو صاحب المغفرة الكثيرة، وصاحب الرحمة التى وسعت كل شئ. لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب والمعاصى، لعجل لهم العذاب بسبب ما يرتكبونه من كفر وآثام. ولكنه - سبحانه - لم يعجل لهم العذاب رحمة منه وحلما.
وجملة { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ .. } معطوفة على مقدر، فكأنه - سبحانه - قال: لكنه - سبحانه - لم يؤاخذهم، بل جعل وقتا معينا لعذابهم، لن يجدوا من دون هذا العذاب موئلا.
أى ملجأ يلتجئون إليه، أو مكانا يعتصمون به.
فالموئل: اسم مكان. يقال: وَأَلَ فلان إلى مكان كذا يَئِل وَأْلاً .. إذا لجأ إليه ليعتصم به من ضر متوقع.
فالآية الكريمة تبين أن الله - تعالى - بفضله وكرمه لا يعاجل الناس. بالعقاب، ولكنه - عز وجل - ليس غافلا عن أعمالهم، بل يؤخرهم إلى الوقت الذى تقتضيه حكمته، لكى يعاقبهم على ما ارتكبوه من ذنوب وآثام.
وفى معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة، منها قوله - تعالى -:
{ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } }. وقوله - تعالى -: { { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } ثم بين - سبحانه - سننه فى الأمم الماضية فقال: { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً }.
واسم الاشارة "تلك" تعود إلى القرى المهلكة بسبب كفرها وفسوقها عن أمر ربها، كقرى قوم نوح وهود وصالح - عليهم السلام -.
والقرى: جمع قرية والمراد بها أهلها الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والجحود.
أى: وتلك القرى الماضية التى أصر أهلها على الكفر والفسوق والعصيان أهلكناهم بعذاب الاستئصال فى الدنيا، بسبب هذا الكفر والظلم، وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا لا يتأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
ولفظ "تلك" مبتدأ، والقرى صفة له أو عطف بيان، وجملة { أهلكناهم } هى الخبر.
وقوله { لما ظلموا } بيان للأسباب التى أدت بهم إلى الهلاك والدمار، أى: أهلكناهم بسبب وقوع الظلم منهم واستمرارهم عليه.
وجئ باسم الاشارة "تلك" للإِشعار بإن أهل مكة يمرون على تلك القرى الظالمة المهلكة، ويعرفون أماكنهم معرفة واضحة عند أسفارهم من مكة إلى بلاد الشام. قال - تعالى -
{ { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِٱلَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } }. وقوله: { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } قرأ الجمهور، { لمهلكهم }، - بضم الميم وفتح اللام - على صيغة اسم المفعول، وهو محتمل أن يكون مصدرا ميميا. أى: وجعلنا لإِهلاكهم موعدا. ويحتمل أن يكون اسم زمان، أى: وجعلنا لزمان إهلاكهم موعدا.
وقرأ حفص عن عاصم { لمهلكهم } بفتح الميم وكسر اللام - فيكون اسم زمان، وقرأ شعبة عن عاصم. { لمهلكهم } - بفتح الميم واللام - فيكون مصدرا ميميا.
وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد وضحت أن القرآن الكريم قد نوع الله - تعالى - فيه الأمثال لقوم يعقلون، كما بينت أن الإِنسان مجبول على المجادلة والمخاصمة. وأن المشركين قد أصروا على شركهم بسبب انطماس بصائرهم. وزيغهم عن الحق، وأن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وظيفتهم البلاغ والتبشير والإِنذار، وأن عاقبة الجاحدين الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم هى النار وبئس القرار، وأن الله - تعالى - يمهل الظالمين ولا يهملهم، فهو كما قال - سبحانه -
{ { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ } }. ثم ساق - سبحانه - قصة فيها ما فيها من الأحكام والعظات، ألا وهى قصة موسى - عليه السلام - مع عبد من عباد الله الصالحين، فقال - تعالى -: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لاۤ أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ ٱلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ... }.