التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً
١٦
فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
١٧
قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
١٨
قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً
١٩
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً
٢٠
قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
٢١
-مريم

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال ابن كثير: "لما ذكر الله تعالى - قصة زكريا - عليه السلام - وأنه أوجد منه فى حال كبره وعقم زوجته ولدا زكياً طاهراً مباركاً، وعطف بذكر قصة مريم، فى إيجاده ولدها عيسى - عليه السلام - منها من غير أب.
وهى مريم ابنة عمران - من سلالة داود - عليه السلام - وكانت من بيت طاهر فى بنى إسرائيل... ونشأت نشأة عظيمة، فكانت إحدى العابدات الناسكات...
وكانت فى كفالة زوج أختها زكريا - عليه السلام - ورأى لها من الكرامات الهائلة ما بهره...".
والمعنى: { وَٱذْكُرْ } - أيها الرسول الكريم - { فِي ٱلْكِتَابِ } أى فى هذه السورة الكريمة، أو فى القرآن الكريم، خبر مريم وقصتها { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } أى: وقت أن تنحت عنهم واعتزلتهم فى مكان يلى الناحية الشرقية من بيت المقدس، أو من بيتها الذى كانت تسكنه.
وفى التعبير بقوله - تعالى - { إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } إشارة إلى شدة عزلتها عن أهلها إذ النبذ معناه الطرح والرمى، فكأنها ألقت بنفسها فى هذا المكان لتتخلى للعبادة والطاعة، والتقرب إلى الله - تعالى - بصالح الأعمال.
قال القرطبى: واختلف الناس لم انتبذت؟ فقال السدى: انتبذت لتطهر من حيض أو نفاس. وقال غيره: لتعبد الله وهذا حسن. وذلك أن مريم كانت وقفا على سدانة المعبد وخدمته والعبادة فيه، فتنحت من الناس لذلك، ودخلت فى المسجد إلى جانب المحراب فى شرقيه لتخلو للعبادة..
فقوله { مَكَاناً شَرْقِياً } أى: مكاناً من جانب الشرق. والشرق - بسكون الراء - المكان الذى تشرق فيه الشمس. والشرق - بفتح الراء - الشمس.
وإنما خص المكان بالشرق، لأنهم كانوا يعظمون جهة المشرق، حيث تطلع الأنوار...".
وقوله: { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } تأكيد لانتباذها من أهلها، واعتزالها إياهم.
أى: اذكر وقت أن اعتزلت أهلها. فى مكان يلى شرق بيت المقدس، فاتخذت بينها وبينهم حجابا وساتراً للتفرغ لعبادة ربها.
ثم بين - سبحانه - ما أكرمها به فى حال خلوتها فقال: { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً }.
أى: فأرسلنا إليها روحنا وهو جبريل - عليه السلام - فتشبه لها فى صورة بشر سوى معتدل الهيئة، كامل البنية، كأحسن ما يكون الإنسان.
يقال: رجل سوى، إذا كان تام الخلقة عظيم الخلق، لا يعيبه فى شأن من شئونه إفراد أو تفريط.
والإضافة فى قوله { رُوحَنَا } للتشريف والتكريم، وسمى جبريل - عليه السلام - روحاً لمشابهة الروح الحقيقية فى أن كلا منهما مادة الحياة للبشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة ألإلهية تحيا به القلوب، والروح تحيا به الأجسام.
وإنما تمثل لها جبريل - عليه السلام - فى صورة بشرى سوى، لتستأنس بكلامه، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته، ولو بدا لها فى صورته التى خلقه الله - تعالى - عليها. لنفرت منه، ولم تستطع مكالمته.
وقوله: { بَشَراً سَوِيّاً } حالان من ضمير الفاعل فى قوله { فَتَمَثَّلَ لَهَا }.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما دار بين مريم وبين جبريل من حوار ونقاش فقال: { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً }.
أى" قالت لجبريل - عليه السلام - الذى تمثل لها فى صورة بشر سوى: إنى أعوذ وألتجىء إلى الرحمن منك، إن كنت ممن يتقى الله ويخشاه.
وخصت الرحمن بالذكر، لتثير مشاعر التقوى فى نفسه، إذ من شأن الإنسان التقى أن ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، وأن يرجع عن كل سوء يخطر بباله.
وجواب هذا الشرط محذوف، أى إن كنت تقيا، فابتعد عنى واتركنى فى خلوتى لأتفرغ لعبادة الله - تعالى -.
وبهذا القول الذى حكاه القرآن عن مريم. تكون قد جمعت بين الاعتصام بربها، وبين تخويف من تخاطبه وترهيبه من عذاب الله. إن سولت له نفسه إرادتها بسوء. كما أن قولها هذا، يدل على أنها قد بلغت أسمى درجات العفة والطهر والبعد عن الريبة، فهى تقول له هذا القول، وهى تراه بشراً سوياً، وفى مكان بمعزل عن الناس...
وهنا يجيبها جبريل - كما حكى القرآن عنه - بقوله: { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً }.
أى: قال لها جبريل ليدخل السكون والاطمئنان على قلبها: إنما أنا يا مريم رسول ربك الذى استعذت به، والتجأت إليه، فلا تخافى ولا تجزعى وقد أرسلنى - سبحانه - إليك، لأهب لك بإذنه وقدرته غلاماً زكياً، أى: ولداً طاهراً من الذنوب والمعاصى، كثير الخير والبركات.
ونسب الهبة لنفسه، لكونه سبباً فيها. وقرأ نافع وأبو عمرو: (ليهب لك) بالياء المفتوحة بعد اللام أى: ليهب لك ربك غلاماً زكيا.
وهنا تزداد حيرة مريم، ويشتد عجبها فتقول: { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً }.
أى: قالت على سبيل التعجب مما سمعته: كيف يكون لى غلام، والحال أنى لم يمسنى بشر من الرجال عن طريق الزواج الذى أحله الله - تعالى -، ولم أك فى يوم من الأيام بغياً، أى: فاجرة تبغى الرجال. أو يبغونها للزنا بها. يقال: بغت المرأة تبغى إذا فجرت وتجاوزت حدود الشرف والعفاف.
قال صاحب الكشاف: جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، لأنه كناية عنه. كقوله - تعالى -
{ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } والزنا ليس كذلك، إنما يقال فيه: فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبَغِى: الفاجرة التى تبغى الرجال...".
وعلى هذا الرأى الذى ذهب إليه صاحب الكشاف، يكون ما حكاه القرآن عن مريم من قولها: { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ... } المقصود به النكاح الحلال.
ويرى آخرون أن المقصود به ما يشمل الحلال والحرام، أى: ولم يمسسنى بشر كائناً من كان لا بنكاح ولا بزنى، ويكون قوله: { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } من باب التخصيص بعد التعميم، ويؤيد هذا الرأى قوله - تعالى -:
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ويؤيده أيضاً أن لفظ { بَشَرٌ } نكرة فى سياق النفى فيعم كل بشر سواء أكان زوجاً أم غير زوج.
قال القرطبى: قوله: { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } أى: زانية. وذكرت هذا تأكيداً لأن قولها { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } يشمل الحلا والحرام...
وقال الجمل فى حاشيته ما ملخصه: وإنما تعجبت مما بشرها به جبريل لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا بعد الاتصال برجل. فليس فى قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه - تعالى - قادر على خلق الولد ابتداء. كيف وقد عرفت أن أبا البشر قد خلقه الله - تعالى - من غير اب أو أم...".
وقوله - تعالى -:
{ قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ... } رد من جبريل عليها.
أى: قال الأمر كذلك أى: كما ذكرت من أن بشراً لم يمسسك ومن أنك لم تكونى فى يوم من الأيام بغيا. أو الأمر كذلك من أنى أرسلنى ربك لأهب لك غلاماً زكيا من غير أن يكون له أب.
وقوله { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } بيان لمظهر من مظاهر قدرة الله - تعالى - التى لا يعجزها شىء، أى: { قَالَ رَبُّكَ هُوَ } أى: خلق ولدك من غير أب { عَلَيَّ هَيِّنٌ } أى: سهل يسير لأن قدرتنا لا يعجزها شىء.
وقوله - سبحانه - { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } تعليل لمعلل محذوف، أى: ولنجعل وجود الغلام منك من غير أن يمسك بشر { آيَةً } عظيمة، وأمراً عجيباً يدل دلالة واضحة على قدرتنا، أمام الناس جميعاً، فإن قدرتنا لا يعجزها ذلك، كما لا يعجزها أن توجد بشراً من غير أب وأم كما فعلنا مع آدم. أو من غير أم كما فعلنا مع حواء، أو من أب وأم كما فعلنا مع سائر البشر.
وقوله: { وَرَحْمَةً مِّنَّا } معطوف على ما قبله، أى: ولنجعل هذا الغلام الذى وهبناه لك من غير أب رحمة عظيمة منا لمن آمن به، واتبع دعوته. { وَكَانَ } وجود هذا الغلام منك على هذه الكيفية { أَمْراً مَّقْضِيّاً } أى: مقدراً فى الأزل مسطوراً فى اللوح المحفوظـ، ولا بد من وقوعه بدون تغيير أو تبديل.
وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة، قد حكت لنا جانباً من حالة مريم ومن الحوار الذى جرى بينها وبين جبريل - عليه السلام - الذى تمثل لها فى صورة بشر سوى.
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد تلك القصة العجيبة، حكت فيها حالتها عند حملها بعيسى، وعندما جاءها المخاض. فقال - تعالى -: { فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ... }.