التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٣٥
قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
١٣٦
فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٣٧
صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ
١٣٨
قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
١٣٩
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
١٤٠
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤١
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال: "قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا - يا محمد - تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك، فأنزل الله - عز وجل - { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }.
ومعنى الآية الكريمة: وقالت اليهود للنبى صلى الله عليه وسلم وللمسلمين اتركوا دينكم واتبعوا ديننا تهتدوا وتصيبوا طريق الحق. وقالت النصارى مثل ذلك قل لهم - يا محمد - ليس الهدى فى اتباع ملتكم، بل الحق فى أن نتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين، فاتبعوا أنتم - يا معشر أهل الكتاب - ما اتبعناه لتكونوا حقاً سالكين ملة إبراهيم الذى لا تنازعون فى هداه.
وقوله تعالى: { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ } حكاية لما زعمه كل من فريقى اليهود والنصارى من أن الهدى فى اتباع ملتهم.
و(أو) للتنويع، أى قال اليهود لغيرهم لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها، فاتبعوها تهتدوا. وقال النصارى لغيرهم كونوا نصارى تهتدوا، إلا أن القرآن الكريم ساق هذا المعنى بقوله: { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ } لمعرفة السامع أن كل فريق منهم يكفر الآخر، ويعد ديانته باطلة، كما حكى القرآن عنهم ذلك فى قوله تعالى:
{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ } ثم لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الرد الملزم لهم، فقال تعالى: { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }.
الملة: الدين، والحنيف فى الأصل المائل عن كل دين باطل إلى الدين الحق ووصف به إبراهيم - عليه السلام - لميله عن الأديان الباطلة التى كانت موجودة فى عهده إلى الدين الحق الذى أوحى الله به إليه.
وذهب بعض المفسرين إلى أن حنيفاً من الحنف وهو الاستقامة.
قال الإِمام الرازى: "لأهل اللغة فى الحنيف قولان:
الأول: أن الحنيف هو المستقيم، ومنه قيل للأعرج أحنف تفاؤلا بالسلامة، كما قالوا للديغ سليم وللمهلكة مفازة، قالوا فكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه فى شىء فهو حنيف، وهو مروى عن محمد بن كعب القرظى.
الثانى: أن الحنيف المائل، لأن الأحنف هو الذى يميل كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها. وتحنف إذا مال، فالمعنى: إن إبراهيم - عليه السلام - حنف إلى دين الله، أى مال إليه، فقوله: { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أى: مخالفاً لليهود والنصارى.
والمعنى: قل يا محمد لليهود ليس الهدى فى أن نتبع ملتكم، بل الهدى فى أن نتبع ملة إبراهيم المائل عن كل دين باطل إلى الدين الحق، والذى ما كان من المشركين بأى صورة من صور الشرك".
وقوله تعالى: { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أى: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً. وقد تضمن هذا القول إبطال ما ادعاه كل من اليهود والنصارى، لأن حرف (بل) يؤتى به فى صدر الكلام لينفى ما تضمنته الجملة السابقة، والجملة السابقة هنا هى قول أهل الكتاب { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ } فجاءت بل بعد ذلك لتنفى هذا القول، ولتثبت أن الهداية إنما هى فى اتباع ما كان عليه إبراهيم - عليه السلام - وفى اتباع من سار على نهجه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وفى هاتين الجملتين وهما قوله تعالى: { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً }. { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } دعوة لليهود إلى اتباع ملة إبراهيم لاستقامتها، ولبعدها عن الشرك، وفى ذلك تعريض بأن ملتهم ليست مستقيمة، بل هى معوجة، وبأن دعواهم اتباع إبراهيم لا أساس لها من الصحة؛ لأنهم أشركوا مع الله آلهة أخرى، ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق به.
قال الإِمام الرازى - ما ملخصه: فى الآية الكريمة جواب إلزامى لهم وهو قوله تعالى: { بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } وتقرير هذا الجواب: أنه إن كان طريق الدين التقليد، فالأولى فى ذلك اتباع ملة إبراهيم لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم، والأخذ بالمتفق عليه، أولى من الأخذ بالمختلف فيه.
وإن كان طريقه الاستدلال والنظر. فقد سقنا الكثير من الدلائل على أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الموافق لما جاء به إبراهيم - عليه السلام - فى أصول الدين.
ثم أرشد الله - تعالى - المؤمنين إلى جواب جامع وكلمة سواء تفيد نبذ التعصب جانباً وتدعو إلى اتباع الوحى الإِلهى الذى أرسل الله به الرسل مبشرين ومنذرين بدون تفرقة بين أحد منهم، وهو يتضمن دعوة أهل الكتاب إلى الطريق الحق فقال تعالى: { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }.
أى: قولوا أيها المؤمنون لأولئك اليهود الذين يزعمون أن الهداية فى اتباع ملتهم، قولوا لهم: ليست الهداية فى اتباع ملتكم فقد دخلها الشرك والتحريف، وإنما الهداية فى أن نصدق بالله، وبالقرآن الكريم الذى أنزله إلينا { وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ }، وبالتوراة التى أنزلها الله على موسى وبالانجيل الذى أنزله الله على عيسى، ونحن فى تصديقنا بالأنبياء لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعضهم ونكفر بالبعض الآخر كما فعلتم أنتم يا معشر اليهود وإنما نؤمن بهم جميعاً بدون تفرقة بينهم، ونحن لربنا مسلمون خاضعون بالطاعة. مذعنون له بالعبودية.
قال الإِمام الرازى: "فإن قيل: كيف يجوز الإِيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟ قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً فى زمانه، فلا يلزم منا المناقضة، أما اليهود فإنهم لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز على يديه، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع قيام المعجز على يديه، فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق.
وقوله تعالى: { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ } خطاب للمؤمنين.
والأسباط: جمع سبط، وهو الحفيد، وهم أبناء يعقوب - عليه السلام - سموا بذلك لكونهم حفدة إبراهيم وإسحاق - عليهما السلام - وكانوا اثنى عشر سبطاً كما قال تعالى:
{ وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } والمراد: الإِيمان بما أنزل الله من الوحى على الأنبياء منهم.
قال الإِمام القرطبى: والأسباط: ولقد يعقوب، وهم اثنا عشر ولداً، ولكل واحد من هم أمة من الناس، واحدهم سبط، والسبط فى بنى إسرائيل بمنزلة القبيلة فى ولد إسماعيل، وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون، وقيل أصله من السبط "بالتحريك" وهو الشجر، أى هم فى الكثرة بمنزلة الشجر: الواحد سبطة، وبين لك هذا ما روى عن ابن عباس، قال: كل الأنبياء من إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا، وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمداً - صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً".
وقوله تعالى: { وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } معناه: وآمنا - أيضاً - بالتوراة التى أعطاها الله - تعالى - لموسى، وبالإِنجيل الذى أعطاه لعيسى، وبكل ما آتاه الله لأنبيائه تصديقاً لهم فى نبوتهم.
وعطف - سبحانه - عيسى على موسى بدون إعادة الفعل لأن عيسى جاء مصدقاً للتوراة، وما نسخ منها إلا أحكاماً يسيرة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم فى قوله حكاية عنه
{ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وقدم - سبحانه - الإِيمان بالله على غيره لأن الإِيمان بالأنبياء. وما أنزل إليهم متوقف على الإِيمان بالله.
وقدم الإِيمان بما أنزل إلينا - نحن معشر المسلمين - وهو القرآن الكريم لأن الإِيمان به يجب أن يكون على وجهى الإِجمال والتفصيل، أما ما أنزل على الأنبياء من قبل كالتوراة والإِنجيل، فيكفى الإِيمان به على وجه الإِجمال.
وقوله تعالى: { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } معناه: لا نفرق بين جماعة النبيين، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلتم يا معشر اليهود، إذ كفرتم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وفعلكم هذا فى حقيقته كفر بالأنبياء جميعا لأن من كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل، ولذلك فنحن معشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء بدون تفرقة أو استثناء.
ثم بين - سبحانه - أن أهل الكتاب إن آمنوا بما دعوتموهم إليه معشر المسلمين، فقد أصابوا الهدى، وإن نأوا وأعرضوا فهم معاندون مستكبرون فقال تعالى:
{ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }.
والفاء التى صدرت بها الآية الكريمة لترتيب ما بعدها على ما قبلها. لأن قول المؤمنين { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } إلخ.
من شأنه أن يرقق القلوب الجاحدة، ويستميل النفوس الشاردة، لبعده عن التعصب والعناد، لأنه الحق الذى تؤيده العقول السليمة، وإذا لم يؤمنوا به فمرد ذلك إلى شدة عنادهم والتواء أفكارهم.
وقوله تعالى: { فَقَدِ ٱهْتَدَواْ } ترغيب لهم فى اتباع الحق الذى اتبعه المؤمنون، أى: فإن آمنوا مثل إيمانكم فقد اهتدوا ورشدوا.
وكلمة: (مثل) فى الآية الكريمة معناها، نفس الشىء وحقيقته. المراد فإن آمنوا بنفس ما آمنتم به فقد اهتدوا، ومنه قول العرب: "مثلك لا يبخل" والمراد أنت لا تبخل. ويرى بعض المفسرين أن كلمة "مثل" هنا على حقيقتها وهى الشبية والنظير، وأن المماثلة وقعت بين الإِيمانيين، وأنها لا تقتضى تعدد ما أمرنا الله أن نؤمن به.
قال الإِمام القرطبى: "المعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا".
وقال ابن جرير: فإن صدقوا مثل تصديقكم بجميع ما أنزل عليكم من كتب الله وأنبيائه، فقد اهتدوا فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والاقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء، كقول القائل: (مر عمرو بأخيك مثل ما مررت به) يعنى ذلك (مر عمرو بأخيك مثل مرورى به) والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين لا بين عمرو وبين المتكلم، فكذلك قوله: { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } إنما وقع التمثيل بين الإِيمانين لا بين المؤمن به".
وقوله تعالى: { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } بيان لحالهم عند إعراضهم عن دعوة الحق، ووعد من الله - تعالى - للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر عليهم، والعصمة من شرورهم.
والشقاق: المنازعة والمخالفة وأصله من الشق وهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين فى شق غير شق صاحبه.
وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.
والمعنى: وإن أعرض هؤلاء الذين زعموا أن الهداية ميلهم عن الإِيمان الذى تدعوهم إليه - يا محمد - فاعلم أن إعراضهم سببه المخالفة والمعاندة والمعاداة إذ لا حجة أوضح من حجتك، وما داموا هم كذلك فسيقيك الله شرهم، وينصرك عليهم، فهو سميع لما يقولونه فيك، عليم بما يبيتونه لك ولأتباعك من مكر وكيد، وهو الكفيل بكف بأسهم، وقطع دابرهم.
وعبر - سبحانه - عن شدة مخالفتهم بقوله: { فَإِنَّمَا هُمْ فى شِقَاقٍ } مبالغة فى وصفهم بالشقاق حيث جعله مستوليا عليهم استيلاء الظرف على ما يوضع فيه.
ورتب قوله: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ } على قوله { فَإِنَّمَا هُمْ فى شِقَاقٍ } تثبيتاً للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأن إعلامهم أن أهل الكتاب فى مخالفة ومعاداة لهم قد يحملهم على الخوف منهم بسبب كثرتهم وقوتهم، فبشر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بأنهم مهما بلغت قوتهم فلن يستطيعوا أن يصلوا إليك بأذى. وأنه - سبحانه - سيكفيك شرهم.
وقد أوفى الله - تعالى - بوعده، فنصر نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم وعصمه من كيدهم بإلقاء العداوة بينهم وطرد من يستحق الطرد منهم، وقتل من لا بد من قتله بسبب خيانته وغيدره. فالآية الكريمة قد تضمنت وعداً للمؤمنين بالنصر، ووعيداً لليهود ومن على شاكلتهم بالهزيمة والخيبة.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك - أن دين الله وهو الإِسلام أولى بالاتباع فقال تعالى:
{ صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ }.
الصبغة فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهى فى أصل اللغة. الحالة التى يقع عليها الصبغ وهو تلوين الأشياء - كالثياب وغيرها - بألوان معينة واستعملت الصيغة فى الآية بمعنى الإِيمان بما فصلته الآية الكريمة وهى قوله تعالى قبل ذلك { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ }. الخ الآية. وإنما أطلقت الصبغة على الإِيمان بما ذكرته الآية مفصلا، لأن الإِيمان يمتزج بالقلوب امتزاج الصبغ بالمصبوغ، وتبدو آثاره على المؤمنين كما تبدو آثار الصبغ على المصبوغ. ويقال: تصبغ فلان فى الدين إذا أحسن دينه وتقيد بتعاليمه تقيداً تاماً.
وقوله: { صِبْغَةَ ٱللَّهِ } هكذا بالنصب على أنه وارد مورد المصدر المؤكد لقولهم (آمنا) فإنه فى معنى صبغنا الله بالإِيمان، وكأنهم قالوا صبغنا الله بالإِيمان صبغته. وإيراد المصدر تأكيدا لفعل يوافقه فى المعنى ويخالفه فى اللفظ معهود فى الكلام البليغ.
قال القاضى: قوله تعالى { صِبْغَةَ ٱللَّهِ } متعلق بقوله: { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ } إلى قوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فوصف هذا الإِيمان منهم بأنه صيغة الله، ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذى اختاره الله وبين الدين الذى اختاره المبطلون ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذى الحس السليم".
والاستفهام فى قوله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً } للإِنكار والنفى والمعنى: لا أحد أحسن من الله صبغة لأنه هو الذى يصبغ عباده بالإِيمان ويطهرهم من أدران الكفر والضلال، فهى صبغة ثابتة لا تزول لأن الإِيمان متى خالطت بشاشته القلوب لا يرتد عنه أحد سخطه له. بخلاف ما يتلقنه أهل الكتاب عن أحبارهم ورهبانهم من الأديان الباطلة فهو من الصيغة البشرية، التى تجعل من الدين الواحد أديانا مختلفة ومذاهب متنافرة.
وهذا التركيب { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً } يدل بحسب أصل الوضع اللغوى على نفى أن يكون دينا أفضل من دين الله، ويبقى احتمال أن يوجد دين يساويه فى الحسن، وهذا الاحتمال لم ينفه التركيب بحسب أصل الوضع ولكن مثل هذا التركيب صار أسلوباً يفهم منه يمعونة مقام المدح نفى مساواة دين لدين الله فى الحسن، كما يفهم منه نفى أن يكون هناك دين أحسن منه.
وأفضلية دين الله من جهة هدايته إلى الاعتقاد الحق، والأخلاق الكريمة، والآداب السمحة والعادات الصحيحة، والسياسة الرشيدة والمعاملات القائمة على رعاية المصالح.
وقوله تعالى: { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } عطف على آمنا بالله فى قوله تعالى: { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ } والمعنى: قل لهم يا محمد إننا نحن معاشر المسلمين نعبد الله وحده وصبغته هى صبغتنا ولا نعبد غيره فلا نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً يزيدون فى ديننا وينقصون ويحلون ويحرمون ويمحون من النفوس صبغة التوحيد، ليحلوا محلها بأهوائهم صبغة الشرك والكفر.
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يزيد فى تذكيرهم ودحض حجتهم فقال تعالى: { قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا في اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
ومعنى الآية الكريمة: قل يا محمد لأهل الكتاب الذين قالوا لك ولأصحابك { كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ } وزعموا أن دينهم هو المعتبر عند الله دون دينك، قل لهم: أتجادلوننا فى دين الله وهو ملة الإِسلام التى بعثنى به للعالمين هدى ورحمة، وتزعمون أن الهداية فيما أنتم عليه من اليهودية والنصرانية، وتستبعدون عليه - تعالى - أن ينزل وحيه على من ليس منكم، بدعوى أنكم أقرب إلى الله منا، وأنكم أبناء الله وأحياؤه، والحال أنه - سبحانه - هو { رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أى خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم ومحاسبنا ومحاسبكم على ما يصدر منا ومنكم من أعمال.
وقوله تعالى: { وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } معناه: لكل منا ومنكم أعمال يترتب عليها الثواب والعقاب، فكما أننا نتساوى معكم فى أن الله ربنا وربكم فكذلك نتساوى معكم فى استحقاق الجزاء على الأعمال التى نعملها، فانظروا إلى أعمالنا وأعمالكم تجدوا أعمالنا خيراً من أعمالكم، لأننا نزيد عليكم الإِخلاص لله في تلك الأعمال فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه بإكرامهم بالنبوة.
فقوله تعالى: { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } حجتان مبطلتان لدعوى أهل الكتاب أنهم أحق لأن تكون النبوة فيهم لأن نسبة العباد إلى الله - تعالى - واحدة هو ربهم وهم عباده، والتفاضل فى المنازل لديه إنما يكون بالأعمال الصالحة والإِخلاص لله فيها، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ويختص بوحيه من يراه أهلا لذلك، وقد شاء - سبحانه - أن ينزل وحيه على محمد صلى الله عليه وسلم النبى الأمى العربى، بدين عام خالد فيه الهداية والنور والفلاح فى الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } بيان لسبب أحقية المسلمين بالهداية والكرامة، والمعنى، ونحن - يا معشر المسلمين - لربنا موحدون، نخلص لله العبادة والعمل، ولا نشرك معه آلهة أخرى، أما أنتم فقد أشركتم وضللتم فقال بعضكم:
{ { عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } وقال بعضكم { ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ } فنحن أهدى منكم سبيلا، وأقوم قيلا.
ولم يصف المسلمون أعمالهم بالحسن، ولا أعمال المخاطبين بالسوء تجنباً لنفور المخاطبين من سماع خطابهم، بل أوردوا كلامهم مورد قوله تعالى
{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } كما أنهم لم يقولوا: ونحن مخلصون وأنتم مخطئون، بل اقتصروا على نسبة الإِخلاص لأنفسهم، وفى ذلك تعريض لطيف بأن المخاطبين غير مخلصين لله، فإن إخبار الإِنسان باشتراكه مع جماعة فى أمر أو أمور، وإفراد نفسه بعد ذلك بأمر، يومئ إلى أن هذا الأمر الذى أثبته لنفسه خاصة معدوم فى أولئك الجماعة.
فمعنى الجملة: ونحن مخلصون فى أعمالنا لله وحده، ولم نخلطها بشىء من الشرك كما فعل غيرنا.
وبعد أن أبطل القرآن الكريم محاجة أهل الكتاب فى دين الله بغير حق وأنكر عليهم ذلك، عقبه بإبطال دعواهم أن أسلافهم من الأنبياء كانوا هوداً أو نصارى فقال تعالى: { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.
وقوله تعالى: { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ } حرف "أم" فيه معادل للهمزة فى قوله تعالى فى الآية السابقة { أَتُحَآجُّونَنَا فى اللَّهِ } على أحد الوجوه بمعنى أى الأمرين تأتون؟ المحاجة فى حكمة الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء المذكورين فى هذه الآية والمراد من الاستفهام عنهما إنكارهما معاً، إنكار حجاجهم فى دين الله، وإنكار قولهم إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى.
فكأنه - سبحانه - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: لا تجادلوننا فى دين الله بغير حق، ولا تقولوا إن الأنبياء كانوا على دينكم، فإن مجادلتكم وأقوالكم من قبيل المزاعم الباطلة التى لا سند لها من عقل أو نقل.
وقوله تعالى: { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ } معناه قل لهم يا محمد إن زعموا أن الأنبياء المذكورين فى الآية كانوا هودا أو نصارى: إن ما زعمتوه من أن إبراهيم واسماعيل وإسحاق ويعقوب كانوا هودا أو نصارى هو على خلاف ما يعلمه الله، لأنه - سبحانه - قد أخبرنا بأنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية، وأن يعقوب - عليه السلام - عندما حضرته الوفاة أوصى بنيه بأن يموتوا على الإِسلام، وأن التوراة والانجيل ما أنزلا إلا من بعد أولئك الأنبياء جميعا، هكذا أخبرنا الله فهل أنتم أعلم بديانتهم أم الله ولا شك أنهم لن يستطيعوا أن يقولوا نحن أعلم، وإنما سيقولون الله اعلم، فإذا لزمهم هذا القول: قلنا لهم إذا فدعواكم لا أساس لها من الصحة وبذلك تكون الجملة الكريمة قد قطعت حجتهم بأجمع بيان وأحكمه.
وقوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ } معناه لا أحد أشد ظلماً ممن يكتم شهادة ثبتت عنده عن الله، تخبر بأن هؤلاء الأنبياء كانوا على الإِسلام ولم يكونوا هوداً أو نصارى.
قال فضيلة أستاذنا السيد محمد الخضر حسين -رحمه الله - ما ملخصه: ولما أنزل قوله تعالى:
{ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ... } إلى آخر الآية الكريمة، كان من أهل الكتاب من آمن به وأخبر بما فى كتبهم من ذكره بصفته وعلاماته، وكان منهم من لا ينكر أن يكون قد ذكر فى الكتابين. ولكنه يكابر ويقول: المقصود نبى لم يأت بعد وقد تصدى لجمع هذه البشائر من كتابى التوراة والإِنجيل طائفة من أهل البحث والعلم فى القديم والحديث، وبينوا وجه انطباقها على حال النبى صلى الله عليه وسلم بحيث لا تأخذ الناظر الطالب للحق ريبة فى أنه الرسول الذى بشرت الأنبياء بمبعثه وعموم رسالته، ومن هذه البشائر ما جاء فى سفر التثنية من التوراة (أقيم لهم من وسط إخواتهم مثلك، وأجعل كلامى فى فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به).
والنبى المماثل لموسى - عليه السلام - فى الرسالة والشريعة المستأنفة هو النبى محمد صلى الله عليه وسلم وإخوة بنى إسرائيل هم العرب، لأنهما يجتمعان فى إبراهيم - عليه السلام - وقوله: "وأجعل كلامى فى فمه، يوافق حال النبى صلى الله عليه وسلم من الأمية وعدم تعاطى الكتابة".
ثم ختمت الآية بالوعيد الشديد لهم على مزاعمهم الباطلة، فقال تعالى: { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.
الغفلة: السهو والنسيان، والمراد أنه - سبحانه - محيط بأعمال هؤلاء الذين كتموا الحق، لا تخفى عليه منها خافية وسيحاسبهم عليها حسابا عسيراً، ويعاقبهم على مزاعمهم الباطلة عقاباً أليماً، فالجملة الكريمة تهديد ووعيد لأهل الكتاب.
ثم حذر الله - تعالى - أهل الكتاب - فى ختام الآيات - من التمادى فى الكفر والمعصية، انكالا على انتسابهم لآباء كانوا من الأنبياء أو من الصالحين، فقال تعالى: { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
{ تِلْكَ } إشارة إلى أمة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط و (الأمة) المراد بها هنا الجماعة من الناس الذين يجمعهم أمر واحد وهو هنا الدين (قد خلت) أى مضت وانقرضت.
ومعنى الآية الكريمة: قل يا محمد لأهل الكتاب الذين زعموا أن الهداية فى ملتهم وأن إبراهيم وآله كانوا هوداً أو نصارى، قل لهم: إن إبراهيم وآله يمثلون أمة مضت لسبيلها لها عند الله ما كسبت من خير وعليها ما اكتسبت من شر ولا ينفعها غير صالح أعمالها، ولا يضرها سوى سيئها، وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء الذين تفتخرون بهم، فمن الأولى أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لكم فعليكم أن تسلكوا طريق الايمان والعمل الصالح وأن تتركوا الاتكال على فضائل الآباء والأجداد فإن كل نفس يوم القيامة ستسأل عن أعمالها دون أعمال غيرها، كما بين ذلك قوله تعالى:
{ كُلُّ ٱمْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } فالمقصد الأول الذى ترمى إليه الآية الكريمة، هو تحذير المخاطبين من تركهم الإِيمان والطاعة اعتماداً منهم على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين، فإن هذا الاعتماد إنما هو نوع من الأمانى الكاذبة والأفكار الفاسدة وقد جاء فى الحديث الشريف "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"
). وكأن الآية تقول لأهل الكتاب فى تأكيد: إن أمامكم ديناً دعيتم إلى اتباعه، واقترنت دعوته بالحجة فانظروا فى دلائل صحته، وسمو حكمته، ولا تردوه بمجرد أن الأنبياء كانوا على ما أنتم عليه الآن، فإن دعواكم هذه لا تنفعكم ولو فى حال تسليمها لكم، إذ لا يمنع اختلاف الشرائع باختلاف المصالح، وعلى حسب ما تقتضيه حكمة عالم الغيب والشهادة.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد دحضت ما ادعاه اليهود من أن الهدى فى إتباع ملتهم، وأقامت الحجج والشواهد على كذبهم وافترائهم وأرشدتهم إلى الدين الحق، ودعتهم إلى الدخول فيه، ووبختهم على المحاجة فى دين الله بغير علم، وحذرتهم من الانحراف عن الصراط المستقيم اعتماداً منهم على آباء لهم كانوا أنبياء أو صالحين، فإنه لن تجزى نفس عن نفس شيئاً يوم الدين.
ثم تحدث القرآن الكريم بعد ذلك عن قصة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وأورد الشبهات التى أثارها المشركون وأهل الكتاب - وعلى رأسهم اليهود - حول هذه المسألة، ورد عليها بما يدحضها ويبطلها.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع فسيكون كلامنا عنه على النحو التالى:
أولاً: كيف كان المسلمون يتجهون فى صلاتهم قبل تحويل القبلة إلى المسجد الحرام؟
ثانياً: ما الشبهات التى أثارها اليهود بعد تحويل القبلة إلى المسجد الحرام؟
ثالثاً: كيف مهد القرآن الكريم لهذا التحويل؟
رابعاً: تفسير الآيات الكريمة التى نزلت بشأن القبلة؟
خامساً: لماذا أطال القرآن الكريم حديثه عن تحويل القبلة مع أنها من الأمور الفرعية.
وإليك الإِجابة عن كل سؤال من هذه الأسئلة.
أولاً: فرضت الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم فى مكة ليلة الإِسراء والمعراج. ويرى بعض العلماء أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يستقبل فى صلاته - وهو بمكة - بيت المقدس إلا أنه لم يكن يستدير الكعبة، بل كان يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وذلك بأن يقف بين الركنين الأسود واليمانى.
ويرى بعضهم أنه كان يستقبل فى صلاته وهو بمكة المسجد الحرام. وهذا الرأى هو الذى نرجحه، لأن المسجد الحرام هو قبلة أبيه إبراهيم، ولأنه صلى الله عليه وسلم عربى، وظهر بين قومه العرب، ولا شك أن اعتزازهم بالمسجد الحرام، أشد من اعتزازهم بأى مسجد آخر، إذن فالمصلحة والحكمة تقضيان بأن يستقبل المسلمون فى صلاتهم بمكة الكعبة المشرفة.
ومهما يكن من خلاف بين العلماء فى الجهة التى كان النبى صلى الله عليه وسلم يستقبلها فى صلاته وهو بمكة، فإن الأمر الذى لا خلاف فيه، أنه بعد الهجرة إلى المدينة لم يستقبل فى صلاته سوى بيت المقدس بأمر من الله تعالى - وقد وردت أحاديث صحيحة فى ذلك، منها ما أخرجه البخارى فى صحيحه عن البراء بن عازب - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم جهة مكة فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلى قبل بيت المقدس فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك.
ومنها ما أخرجه عن ابن عمر - رضى الله عنهما - قال: (بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح، إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة).
وبذلك نرى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتوجه فى صلاته وهو بالمدينة إلى بيت المقدس، قبل أن يأمره الله - تعالى - بالتحول إلى المسجد الحرام.
ثانياً: الشبهات التى أثارها اليهود بعد تحول المسلمين فى صلاتهم إلى المسجد الحرام.
قلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة استقبل فى صلاته بيت المقدس بأمر من الله - تعالى - تأليفاً لقلوب اليهود لأن بيت المقدس قبلتهم، ورمز وحدتهم، وقد فرحوا لصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين إليه، وكان أمل النبى أن يلبوا دعوته وأن يسارعوا إلى الدخول فى الإِسلام، ولكنهم عموا وصموا، وأخذوا يشيعون بين الناس أن النبى صلى الله عليه وسلم قد اتبع قبلتهم وعما قريب سيتبع ملتهم، واعتبروا اتجاه المسلمين فى صلاتهم إلى بيت المقدس نوعاً من اقتباس الهدى منهم، فتأثر الرسول صلى الله عليه وسلم من موقفهم الجحودى، وانبثقت فى نفسه أمنية التحول إلى الكعبة، وأكثر من التضرع والابتهال إلى الله كى يوجهه إلى قبلة أبيه إبراهيم.
وقد أجاب الله تعالى رجاء نبيه صلى الله عليه وسلم فولاه القبلة التى يرضاها، ففرح المؤمنون لذلك لأن فى توجههم إلى البيت الحرام، تأليفاً لقلوبهم، فهو مثابتهم ومركز تجمعهم، وموطن أمنهم ومهوى أفئدتهم، وجامع وحدتهم وقد استقبلوا هذا التحويل بالسمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
أما اليهود ومن على شاكلتهم ممن فى قلوبهم مرض فقد استقبلوه بالاستهزاء والجحود، وإثارة الشبهات، لبلبلة الأفكار، وتشكيك المسلمين فى عقيدتهم.
ومما قاله المشركون فى ذلك: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قد تحير فى دينه، وبوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا.
ومما قاله المنافقون: ما بال المسلمين كانوا على قبلة ثم تركوها؟.
ومما قاله اليهود - الذين تولوا كبر التشكيك فى صحة التوجه إلى البيت الحرام - إن القبلة الأولى - وهى بيت المقدس - إن كانت على حق فقد تركتم أيها المسلمون الحق وإن كانت على باطل فعبادتكم السابقة باطلة، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً حقاً ما ترك قبلة الأنبياء قبله وتحول إلى غيرها وما فعل اليوم شيئاً وخالفه غداً.
ومقصدهم الأول من وراء هذه المقالات المرذلة، الطعن فى شريعة الإِسلام، وفى نبوة النبى (عليه الصلاة والسلام).
ثالثاً: ولكن القرآن الكريم أفسد عليهم خطتهم، وأحبط مكرهم، فأخبر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بما سيقوله هؤلاء السفهاء جميعاً قبل أن يصدر عنهم، ومهد لتحويل القبلة بما يطمئن النفوس ويثبت الإِيمان فى القلوب ويهيئ الأفئدة لتقبل هذا الأمر العظيم، فذكر الله فى الآيات السابقة على التحويل أنه إذا نسخ آية أتى بما هو خير منها أو مثلها، لأنه القادر على كل شىء، المالك للسماوات والأرض تصرفاً وتدبيراً، وهو أعلم بما يتعبد به عباده وما فيه الخير لهم.
ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك أن له المشرق والمغرب. ففى أى مكان توجه المصلى فثم وجه الله، ثم نبه - رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لن يرضى عنه اليهود ولا النصارى حتى يتبع ملتهم. إشارة إلى أن المصلحة فى التوجه إلى بيت المقدس قد انتهت وان الاستمرار على ذلك لن يكبح جماح نفوس لم تصبغ بهداية الله وتوفيقه.
ثم فصل القرآن بعد ذلك الحديث عن البيت الحرام وتعظيمه وشرفه فذكر أن الله - تعالى - قد جعله مثابة ومرجعاً للحجاج والعمار. يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأفطار وكلما ازدادوا له زيارة زاد شوقهم إليه. وجعله - أيضاً - حرماً آمناً لهم. بينما يتخطف الناس من حولهم.
وأخبر - سبحانه - أنه قد عهد فى بنائه إلى نبيين كريمين هما سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام - وأمرهما بتطهيره من كل رجس للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وقد كانت الآيات الواردة فى شأن المسجد الحرام قبيل الأمر بتحويل القبلة كفيلة بإعطاء صورة وافية لكل عاقل، بأن بيتاً له هذه القداسة جدير بأن يكون قبله للناس فى صلاتهم، ولكن اليهود ومن فى قلوبهم مرض، لم يكن إعراضهم عن الحق لشبهة فى نفوسهم ينقصها الدليل، وإنما كان إعراضهم مرجعه العناد والمكابرة، وكلاهما يعمى ويصم، فلا غرابة أن نطقوا كفراً، ولاكت ألسنتهم قبحاً وسفهاً.
إلا أن ما قالوه من شبهات حول تحويل القبلة، لم يجد آذاناً صاغية من المؤمنين، لأن الله - تعالى - قد مهد للتحويل - كما قلنا - بما يطمئن النفوس ولقن نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب على شبهاتهم قبل أن ينطقوا بها ليكون ذلك أقطع لحجتهم، كما قالوا فى الأمثال: (قبل الرمى يراش السهم).
رابعاً: تفسير الآيات الكريمة التى نزلت فى شأن تحويل القبلة إلى البيت الحرام. لقن فيها المؤمنين الإِجابة على معارضات اليهود وغيرهم، ونوه فيها بشأن الأمة الإِسلامية، وبشرها بإجابة رجاء نبيها صلى الله عليه وسلم إذ ولاه القبلة التى يرضاها، وأراحه من التطلع إلى اهتداء اليهود وغيرهم من الجاحدين. ولو جاءهم بكل آية، لأن إعراضهم عن دعوته ليس عن شبهة يزيلها الدليل، ولكنه إعراض سببه الجحود والحقد، والجاحد والحاقد لا ينفع معهما دليل أو برهان.
وقد كرر القرآن الكريم الأمر بالتوجه إلى الكعبة ثلاث مرات فى ثلاث آيات، وعلق بكل أمر فائدة جديدة تناسبه، لأن أهمية هذا الحادث تستلزم تكراراً فى الخطاب ليرسخ فى النفوس، ويستقر فى المشاعر والقلوب.
هذا، وبعد تلك المقدمة الموجزة لما اشتملت عليه آيات تحويل القبلة من مقاصد، نحب أن نتعرض لتفسيرها بالتفصيل، فنقول قال الله تعالى:
{ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ...بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }.