التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
١٤
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
١٦
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته وصادفته وكان قريباً منك. والمصدر اللقاء واللقى واللقية. والمقصود: استقبلوهم وكانوا فى مواجهتهم وقريبا منهم. ومرادهم بقولهم "آمناً" أخلصنا الإِيمان بقلوبنا لأن الإِقرار باللسان معلوم منهم.
وإذا خلوا إلى شياطينهم، أى: انفردوا مع رؤسائهم وقادتهم المشبهين الشياطين فى تمردهم وعنوهم وصدهم عن سبيل الحق. يقال: خلابه وإليه ومعه، خلوا وخلاء وخلوة: سأله أن يجتمع به فى خلوة ففعل وأخلاه معه.
أو المعنى: وإذا مضوا وذهبوا إلى شياطينهم، يقال: خلا بمعنى مضى وذهب، ومنه قوله تعالى
{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أى مضت.
وعبر عن حالهم مع المؤمنين بالملاقاة، وعن حالهم مع الشياطين بالخلوة إيذانا بأن هؤلاء المنافقين لا أنس لهم بالمؤمنين، ولا طمأنينة منهم إليهم فهم لا يجالسونهم ولا يسامرونهم، وإنما كل ما هنالك أن يلقوهم فى عرض طريق، أما شأنهم مع شياطينهم فهم إليهم يركنون، وإليهم يتسامرون ويتحادثون، لذلك هم بهم يخلون.
والمعية فى قولهم { إِنَّا مَعَكُمْ }، المراد منها موافقتهم فى دينهم، وأكدوا ما خاطبوا به شياطينهم بحرف التأكيد، إذ قالوا { إِنَّا مَعَكُمْ } ليزيلوا ما قد يجرى فى خراطرهم من أنهم فارقوا دينهم وانقلبوا إلى دين الإِسلام بقلوبهم.
ولم يؤكدوا ما خاطبوا به المؤمنين، إذ قالوا لهم { آمَنَّا } ولم يقولوا "إنا آمنا" ليوهموهم أنهم بمرتبة لا ينبغى أن يترددوا فى إيمانهم حتى يحتاجوا إلى تأكيد.
وقوله - تعالى - حكاية عنهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }. وارد مورد الجواب عما قد يعترض به عليهم شياطينهم إذا قالوا لهم: كيف تدعون أنكم معنا مع أنكم توافقون المؤمنين فى عقيدتهم وتشاركونهم فى مظاهر دينهم؟
فكان جوابهم عليهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } والاستهزاء: السخرية والاستخفاف بالغير، يقال: هزأ منه وبه - كمنع وسمع - واستهزأ به، أى: سخر.
والمعنى: إننا نظهر للمؤمنين الموافقة على دينهم استخفافاً بهم وسخرية منهم، لا أن ذلك صادر منا عن صدق وإخلاص.
ثم بين - سبحانه - موقفه منهم فقال: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }.
حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يتعجب منه، وهذا المعنى غير مستحيل على الله، فيصح إسناده إليه - تعالى - على وجه الحقيقة.
ويرى جمهور العلماء أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس كأن يظهر المستهزئ استحسان الشىء وهو فى الواقع غير حسن، أو يقر المستهزأ به على أمر غير صواب، وهذا المعنى لا يليق بجلال الله، فيجب حمل الاستهزاء المسند إليه تعالى على معنى يليق بجلاله، فيحمل على ما يلزم على الاستهزاء من الانتقام والعقوبة والجزاء المقابل لاستهزائهم، وسمى ذلك استهزاء على سبيل المشاكلة كما فى قوله تعالى:
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم.
وعبر بالمضارع فى قوله { يَسْتَهْزِىءُ } للإِيذان بأن احتقاره لهم، أو مجازاتهم على استهزائهم يتجدد ويقع المرة بعد الأخرى:
ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان غضبه عليهم فقال:{ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }.
المد: الإِمهال والمطاولة والزيادة، من المد بمعنى الإِمهال، يقال: مده فى غيه - من باب رد - أمهله وطول له، ويقال: مد الجيش وأمده إذا ألحق به ما يقويه ويكثره ويزيده، وقيل: أكثر ما يستعمل المد فى المكروه، والإِمداد فى المحبوب، والطغيان: مجاوزة الحد، ومنه طغا الماء، أى: ارتفع.
ويعمهون: يعمون عن الرشد، أو يتحيرون ويترددون بين الإِظهار والإِخفاء، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإِيمان. يقال: عمه - كفرح ومنع - عمها، إذا تردد وتحير، فهو عمه وعامه، وهم عمهون وعمه كركع والمعنى: أن الله تعالى يجازى هؤلاء المنافقين على استهزائهم وخداعهم، ويمكنهم من المعاصى أو يملى لهم ليزدادوا إثماً. حال كونهم يعمون عن الرشد، فلا يبصرون الحق حقاً ولا الباطل باطلا.
ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان غبائهم وبلادتهم فقال: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }.
الاشتراء: أخذ السلعة بالثمن. والمراد: أنهم استبدلوا ماكره الله من الضلالة بما أحبه من الهدى قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.
والمشار إليه بـ "أولئك" هم المنافقون: الموصوفون فى الآيات السابقة بالكذب والمخادعة، والإِفساد فى الأرض، ورمى المؤمنين بالسفاهة واستهزائهم بهم.
والسر فى الإِشارة اليهم والتعبير عنهم بأولئك تمييزهم وتوضيحهم بأكمل صورة وأجلى بيان. إذ من المعروف عند علماء البلاغة أن اسم الإِشارة إذا أشير به إلى أشخاص وصفوا بصفات يلاحظ فيه تلك الصفات، فهو بمنزلة إعادة ذكرها وإحضارها فى أذهان المخاطبين. فتكون تلك الصفات، وهى هنا الكذب والمخادعة وما عطف عليها، كأنها ذكرت فى هذه الآية مرة أخرى ليعرف بها علة الحكم الوارد بعد اسم الإِشارة، وهو هنا اشتراء الضلالة بالهدى. أى: اختيارها. واستبدالها به.
وعبرت الآية بالاشتراء على سبيل الاستعارة ليتحدد مقدار رغبتهم فى الضلالة، وزهدهم فى الهدى، فإن المشترى فى العادة يكون شديد الرغبة فيما يشترى، رغبة تجعله شديد الزهد فيما يبذله من ثمن. فهم راغبون فى الضلالة، زاهدون فى الهدى.
وقوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } لا يقتضى أنهم كانوا على هدى من ربهم فتركوه، بل يكفى فيه أن يجعل تمكنهم من الهدى لقيام أدلته. بمنزلة الهدى الحاصل بالفعل.
ثم بين سبحانه نتيجة أخذهم الضلالة وتركهم الهدى فقال:
{ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } أى: أنهم لم يحصلوا من اشترائهم الضلالة بالهدى على الربح، وإذا كانت التجارة الحقيقة قد يفوت صاحبها الربح، ولكنه لا يقع فى خسارة بأن يبقى له رأس ماله محفوظاً، فإن التجارة المقصودة من الآية هى استبدال الضلالة بالهدى، لا يقابل الربح فيها إلا الخسران، فإذا نفى عنها الربح فذلك يعنى أنها تجارة خاسرة.
ثم قال - تعالى -: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أى: وما كانوا مهتدين إلى سبيل الرشاد وما تتجه إليه العقول الراجحة من الدين الحق، وما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الرابحة، فهم أولا لم يربحوا فى تجارتهم بل خسروها، وهم ثانياً ذهب نور الهدى من حولهم فبقوا فى ظلمة الضلال.
وما أوجع أن يجتمع على التاجر خسارته وتورطه، وما أوجع أن يجتمع عليه أن ينقطع عن غايته، وأن يكون فى ظلمة تعوقه عن التبصر.
وبعد أن وصف الله تعالى حال المنافقين فى الآيات السابقة، ساق مثلين لتوضيح سوء تصرفهم، وشدة حيرتهم واضطرابهم. فقال تعالى:
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً...يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }.