التفاسير

< >
عرض

يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٣
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
١٥٤
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٥
ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
١٥٦
أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ
١٥٧
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الصبر: حبس النفس على احتمال المكاره، وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع.
والمعنى: يامن آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، استعينوا على إقامة دينكم والدفاع عنه، وعلى فعل الطاعات وترك المعاصى، وعلى احتمال المكاره التى تجرى بها الأقدار، استعينوا على كل ذلك بالصبر الجميل وبالصلاة المصحوبة بالخشوع والإِخلاص والتذلل للخالق - عز وجل - فإن الإِيمان الذى خالط قلوبكم يستدعى منكم القيام بالمصاعب، واحتمال المكاره، ولقاء الأذى من عدو أو سفيه، ولن تستطيعوا أن تتغلبوا على كل ذلك إلا بالصبر والصلاة.
ولقد استجاب النبى صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه الربانى، وتأسى به أصحابه فى ذلك، فقد أخرج الإِمام أحمد - بسنده - عن حذيفة بن اليمان
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى" . أى: إذا شق عليه أمر لجأ إلى الصلاة لله رب العالمين.
وافتتحت الآية الكريمة بالنداء، لأن فيه إشعاراً بخبر مهم عظيم، فإن من شأن الأخبار العظيمة التى تهول المخاطب أن يقدم قبلها ما يهئ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفجأها.
ولعل مما يشهد بأفضلية هذه الأمة على غيرها من الأمم، أن الله - تعالى - قد أمر بنى إسرائيل فى السورة نفسها بالاستعانة بالصبر والصلاة فقال: { ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } إلا أنه - سبحانه - قال لهم:
{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } ليشعرهم بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال، ولم يقل - سبحانه - للمؤمنين ذلك فى الآية التى معنا، للإِيماء إلى أنهم قد يسر لهم ما يصعب على غيرهم، وأنهم هم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك.
وقوله - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } بيان لحكمة الاستعانة بالصبر وهو الفوز والنصر. أى: إن الله مع الصابرين بمعونته ونصره، وتوفيقه وتسديده فهى معية خاصة، وإلا فهو - سبحانه - مع جميع خلقه بعلمه وقدرته.
وقال - سبحانه -: { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } ولم يقل "مع المصلين" لأن الصلاة المستوفية لأركانها وسننها وخشوعها لا تتم إلا بالصبر، فالمصلون بحق داخلون فى قوله - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }.
ولم يقل "معكم" ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم.
قال الأستاذ الإِمام: إن من سنة الله: - تعالى - أن الأعمال العظيمة لا تتم ولا ينجح صاحبها إلا بالثبات والاستمرار، وهذا إنما يكون بالصبر، فمن صبر فهو على سنة الله والله معه، لأنه - سبحانه - جعل هذا الصبر سبباً للظفر، إذ هو يولد الثبات والاستمرار الذى هو شرط النجاح، ومن لم يصبر فليس الله معه، لأنه تنكب سنته، ولن يثبت فيبلغ غايته.
ثم نهى - سبحانه - المؤمنين عن أن يقولوا للشهداء أمواتاً فقال: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فى سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }.
قال ابن عباس - رضى الله عنهما -: نزلت هذه الآية فى قتلى غزوة بدر، قتل من المسلمين فيها أربعة عشر رجلا: ست من المهاجرين وثمانية من الأنصار وكان الناس يقولون. مات فلان ومات فلان. فنهى الله - تعالى - أن يقال فيهم: إنهم ماتوا.
وقيل إن الكفار والمنافقين قالوا: إن الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمرضاة محمد من غير فائدة، فنزلت هذه الآية.
والسبيل: الطريق وسبيل الله: طريق مرضاته، وإنما قيل للجهاد سبيل الله، لأنه طريق إلى ثواب الله وإعلاء كلمته. و{ أَمْوَاتٌ } مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى: لا تقربوا هم أموات وكذلك قوله { أَحْيَاءٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى: هم أحياء.
قال الآلوسى: "والجملة معطوفة على { وَلاَ تَقُولُواْ } اضراب عنه، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون فى حيز القول ويصير المعنى بل قولوا أحياء، لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا فى شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضاً صحيحاً".
أى: لا تقولوا أيها المؤمنون لمن يقتل من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه إنهم أموات، بمعنى أنهم تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات كما يتبادر من معنى الميت، بل هم أحياء - فى عالم غير عالمكم كما قال - تعالى -
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } وقوله: { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أى: لا تحسون ولا تدركون حالهم بالمشاعر، لأنها من شئون الغيب التى لا طريق للعلم بها إلا الوحى.
قال الآلوسي ما ملخصه: ثم إن نهى المؤمنين عن أن يقولوا فى شأن الشهداء أموات، إما أن يكون دفعاً لإِيهام مساواتهم لغيرهم فى ذلك البرزخ... وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون فى شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولن يروه أبداً... ثم قال: وقد اختلف فى هذه الحياة التى يحياها أولئك الشهداء عند ربهم: فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقة بالروح والجسد ولكنها لا ندركها فى هذه النشأة واستدلوا بسياق قوله - تعالى -:
{ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون } وبأن الحياة الروحانية التى ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم. وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون ولا ينافى ذلك.. وذهب البلخى إلى نفى الحياة عنهم وقال؛ معنى { بَلْ أَحْيَاءٌ } إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء. فالآية على حد قوله - تعالى - { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } ).. وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بسبب ما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل، كما روى عن على أنه قال: "هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقى الدهر، أعيانهم مفقودة وآثارهم فى القلوب موجودة".
ثم قال: "ولا يخفى أن هذه الأقوال - ما عدا الأولين - فى غاية الضعف، بل نهاية البطلان، والمشهور ترجيح القول الأول".
والذى نراه أن الآية الكريمة قد نبهتنا إلى أن للشهداء مزية تجعلهم مفضلين عمن سواهم من كثير من الناس، وهى أنهم فى حياة سارة، ونعيم مقيم عند ربهم، وهذه الحياة الممتازة تسمو بهم عن أن يقال فيهم كما يقال فى غيرهم إنهم أموات وإن كان المعنى اللغوى للموت حاصلا لهم، ونحن نؤمن بهذه الحياة السارة لهم عند ربهم ونعتقد صحتها كما ذكرها الله - تعالى - إلا أننا نفوض كيفيتها وكنهها إليه - سبحانه - إذ لا يمكن إدراكها إلا من طريق الوحى، كما قال - تعالى -: { وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } أى: لا تشعرون بحياتهم بعد مفارقتهم لهذه الدنيا، لأنها حياة من نوع معين لا يعلمها إلا علام الغيوب.
وبعد أن طلب - سبحانه - من عباده أن يستعينوا بالصبر والصلاة على احتمال المكاره، أردف ذلك بذكر بعض المواطن التى لا يمر فيها الإِنسان بسلامة إلا إذا اعتصم بعرى الصبر فقال - تعالى - { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ }.
وقوله: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } من البلو والبلاء وهو الامتحان والاختبار، وهو جواب لقسم محذوف والتقدير: والله لنبلونكم.
وقوله: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } عطف على قوله: { ٱسْتَعِينُواْ } الخ، عطف المضمون على المضمون، والجامع أن مضمون الأول طلب الصبر، ومضمون الثانية بيان مواطنه، والمراد: ولنعاملنكم معاملة المختبر والمبتلى لأحوالكم:
والتنوين فى قوله: { بِشَيْءٍ } للتقليل. أى بقليل من كل واحد من هذه البلايا والمحن وهى الخوف وما عطف عليه.
وإنما قلل - كما قال الزمخشرى - ليؤذن أن كل بلاء وإن جل ففوقه ما يقل إليه وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم فى كل حال لا تزايلهم، وأنه - سبحانه - يبتليهم من هذه المصائب بقدر ما يمتاز به الصابرون من غير الصابرين.
و { ٱلْخَوْفِ } غم يلحق النفس لتوقع مكروه، ومن أشد ما تضطرب له النفوس من الخوف، خشيتها أن تقع تحت يد عدو لاهم له إلا إيذاؤها بما تكره.
و{ وَٱلْجُوعِ } ضد الشبع، والمراد منه القحط، وتعذر تحصيل القوت، والحاجة الملحة إلى طعام.
و{ ٱلأَمَوَالِ } جمع مال، وهو ما يملك مما له قيمة، وجرى للعرب عرف باستعماله فى النعم خاصة - وهى الإِبل والبقر والغنم -.
و{ وَٱلثَّمَرَاتِ }: جمع ثمرة وهى حمل الشجر، وقد تطلق على الشجر والنبات نفسه.
والمعنى: ولنصيبنكم بشىء من الخوف وبشىء من الجوع، وبشىء من النقص فى الأنفس والأموال والثمرات، ليظهر هل تصبرون أو لا تصبرون، فنرتب الثواب على الصبر والثبات على الطاعة، ونرتب العقاب على الجزع وعدم التسليم لأمر الله - تعالى -.
ولقد حدث للمسلمين الأولين خوف شديد بسبب تألب أعدائهم عليهم كما حصل فى غزوة الأحزاب. وحدث لهم جوع أليم بسبب هجرتهم من أوطانهم، وقلة ذات يدهم حتى لقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يشد الحجر على بطنه. وحدث لهم نقص فى أموالهم بسبب اشتغالهم بإعلاء كلمة الله. وحدث لهم نقص فى أنفسهم بسبب قتالهم لأعدائهم. ولكن كل هذه الآلام لم تزدهم إلا إيماناً وتسليماً لقضاء الله وقدره، واستمساكاً بتعاليم دينهم.
وهذا البلاء وتلك الآلام لا بد منها ليؤدى المؤمنون تكاليف العقيدة، كى تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا فى سبيلها من تكاليف، إذ العقائد الرخيصة التى لا يؤدى أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم تركها عند الصدمة الأولى، وليعلم من جاء بعدهم من المؤمنين إذا ما أصابهم مثل هذه الأمور أن ما أصابهم ليس لنقصان من درجاتهم، وحط من مراتبهم، فقد أصيب بمثل ذلك أو أكثر من هم أفضل منهم وهم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم.
قال الإِمام الرازى: وأما الحكمة فى تقديم تعريف هذا الابتلاء. أى الإِخبار به قبل وقوعه: ففيها وجوه.
أحدها: ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع وأسهل عليهم بعد الورود.
وثانيها: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن اشتد خوفهم، فيصير ذلك الخوف تعجيلا للابتلاء، فيستحقون به مزيد الثواب.
وثالثها: أن الكفار إذا شاهدوا النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه، مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع - يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل فى دلائله. ومن الملعوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع فى أعظم المحن بسبب المذهب الذى ينصره، ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب: كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه فى ذلك المذهب.
ورابعها: أنه - تعالى - أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه. فكان إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
وخامسها: أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعاً فى المال وسعة الرزق، فإذا اختبره - سبحانه - بنزول هذه المحن، فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق.
وسادسها: أن إخلاص الإِنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله - تعالى - أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه. فكانت الحكمة فى هذا الابتلاء ذلك.
ثم بعد أن بين - سبحانه - مواطن تضطرب فيها النفوس أردف ذلك يذكر عاقبة الصبر، وجزائه الأسنى، فقال: { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ. ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ }.
الخطاب فى قوله: { وَبَشِّرِ } للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة. والجملة عطف على { لَنَبْلُوَنَّكُمْ } عطف المضمون على المضمون أى: الابتلاء حاصل لكم وكذا البشارة لكن لمن صبر.
و { مُّصِيبَةٌ } اسم فاعل من الإِصابة، والمرأ بها الآلام الداخلة على النفس بسبب ما ينالها من الشدائد والمحن.
و{ رَاجِعونَ } من الرجوع بمعنى مصير الشىء إلى ما كان عليه، يقال: رجعت الدار إلى فلان إذا ملكها مرة ثانية، وهو نظير العود والمصير.
والمعنى: وبشر يا محمد بالرحمة العظيمة والإِحسان الجزيل، أولئك الصابرين الذين من صفاتهم أنهم إذا نزلت بهم مصيبة، فى أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم، أو غير ذلك، قالوا: بألسنتهم وقلوبهم على سبيل التسليم المطلق لقضاء الله والرضا بقدره { إِنَّا للَّهِ } أى: إنا لله ملكا وعبودية، والمالك يتصرف فى ملكه ويقلبه من حال إلى حال كيف يشاء، { وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } أى: وإنا إليه صائرون يوم القيامة فيجازينا على ما أمرنا به من الصبر والتسليم لقضائه عند نزول الشدائد التى ليس فى استطاعتنا دفعها.
فقولهم: { إِنَّا للَّهِ } إقرار بالعبودية والملكية لله رب العالمين. وقولهم: { وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } إقرار بصحة البعث والحساب والثواب والعقاب يوم القيامة.
وليست هذه البشارة موجهة إلى الذين يقولون بألسنتهم هذا القول مع الجزع وعدم الرضا بالقضاء والقدر، وإنما هذه البشارة موجهة إلى الذين يتلقون المصائب بالسكينة والتسليم لقضاء الله لأول حلولها، يشير إلى هذا قوله - تعالى -: { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ } فإنه يدل على أنهم يقولون ذلك وقت الإِصابة "ويصرح بهذا قوله صلى الله عليه وسلم
"الصبر عند الصدمة الأولى" .
وهذه الجملة الكريمة وهى قوله - تعالى -: { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم }.. إلخ وصف كريم لأولئك الصابرين، لأنها أفادت أن صبرهم أكمل الصبر، إذ هو صبر مقترن ببصيرة مستنيرة جعلتهم يقرون عن عقيدة صادقة أنهم ملك لله يتصرف فيهم كيف يشاء، ومن ربط نفسه بعقيدة أنه ملك لله وأن المرجع إليه، يكون بذلك قد هيأها للصبر الجميل عند كل مصيبة تفاجئه.
قال القرطبى: جعل الله هذه الكلمات وهى قوله - تعالى - { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } ملجأ لذوى المصائب، وعصمة للممتحنين، لما جمعت من المعانى المياركة، فإن قوله { إِنَّا للَّهِ } توحيد واقرار بالعبودية والملك وقوله { وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } إقرار بالهلك على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير: لم تعط هذه الكلمات نبياً قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب لما قال: يا أسفى على يوسف".
هذا، ولا يتنافى مع الصبر ما يكون من الحزن عند حصول المصيبة، فقد ورد فى الصحيحين
"أن النبى صلى الله عليه وسلم بكى عند موت ابنه إبراهيم وقال: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" .
وإنما الذى ينافيه ويؤاخذ الإِنسان عليه، الجزع المفضى إلى إنكار حكمة الله فيما نزل به من بأساء أو ضراء، أو إلى فعل ما حرمه الإِسلام من نحو النياحة وشق الجيوب، ولطم الخدود.
ثم بين - سبحانه - ما أعده للصابرين من أجر جزيل فقال: { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }.
{ أُولَـٰئِكَ } اسم إشارة أتى به - سبحانه - للتنبيه على أن المشار إليه هم الموصوفون بجميع الصفات السابقة على اسم الإِشارة، وأن الحكم الذى ورد بعد مترتب على هذه الأوصاف.
و { صَلَوَاتٌ } جمع صلاة. وصلاة الله على عباده إقباله عليهم. بالثناء والعطف والمغفرة. وجمعت مراعاة لكثرة ما يترتب عليها من أنواع الخيرات فى الدنيا والآخرة.
{ وَرَحْمَةٌ } - كما هو مذهب السلف - صفة قائمة بذانه - تعالى - لا نعرف حقيقتها وإنما نعرف أثرها الذى هو الإِحسان.
وعطف - سبحانه - الرحمة على الصلوات ليدل على أن بعد ذلك الإِقبال منه على عباده إنعاماً واسعاً، وعطاء جزيلا فى الدنيا والآخرة.
وجاءت الرحمة مفردة على أصل المصادر وهو الإِفراد، والمقام فى الآية يذهب بذهن السامع إلى كثرة الإِنعام المترتب على الصبر الجميل.
والجملة { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } استئنافية جواب عن سؤال تقديره: بماذا بشر الله الصابرين؟ فكان الجواب: أولئك عليهم صلوات... إلخ.
والمعنى: أولئك الصابرون المحتسبون الموصوفون بتلك الصفات الكريمة، عليهم مغفرة عظيمة من خالقهم، وإحسان منه - سبحانه - يشملهم فى دنياهم وآخرتهم { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } لطريق الصواب بالتسليم وقت صدمة المصيبة دون غيرهم ممن جزعوا عند صدمتها، حتى صدر عنهم ما لم يأذن به الله.
هذا، وفى فضل الصبر والصابرين وردت آيات كثيرة، وأحاديث متعددة أما الآيات فيزيد عددها فى القرآن على سبعين آية منها قوله - تعالى -
{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ } وقوله { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } وقوله: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الأحاديث فمنها ما جاء فى صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرنى فى مصيبتى واخلف لى خيراً منها إلا أجره الله فى مصيبته وأخلف له خيراً منها" . قالت: فلما توفى أبو سلمة قلت: من خير من أبى سلمة: صاحب رسول الله؟ ثم عزم الله لي فقلتها: قالت: فتزوجنى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها ما رواه الإِمام أحمد بسنده
"عن أبى سنان قال: دفنت ابنا لى. وإنى لفى القبر أخذ بيدى أبو طلحة يعنى الخولانى فأخرجنى وقال: ألا أبشرك؟ قال قلت: بلى. قال: حدثنى الضحاك بن عبد الرحمن بن عوزب عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله - تعالى -: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدى، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم. قال فماذا قال؟ قال حمدك واسترجع. قال الله - تعالى -: ابنوا له بيتاً فى الجنة وسموه بيت الحمد" .
ومنها ما رواه الشيخان عن أبى سعيد وأبى هريرةعن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التى وردت فى ثواب الاسترجاع وفى أجر الصابرين وفضلهم.
ثم تحدث - سبحانه - عن شعيرة من شعائر الحج فقال:
{ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ... }.