التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
١٨٦
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام البيضاوى فى وجه اتصال هذه الآية بما قبلها من آيات الصيام: واعلم أنه - تعالى - لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم تأكيداً له وحثاً عليه".
وروى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها ما أخرجه بن جرير وابن أبى حاتم أن أعرابياً جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: أقريب ربنا فنناجيه - أى: ندعوه سرا - أم بعيد فنناديه؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.
ومنها ما رواه ابن مردويه - بسنده - عن الحسن قال: سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
والمعنى: وإذا سألك عبادى يا محمد عن قربى وبعدى فقل لهم: إنى قريب منهم بعلمى ورحمتى وقدرتى وإجابتى لسؤالهم. قال - تعالى -:
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } وفى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أنه قال: كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ايها الناس اربعوا على أنفسكم - أى أرفقوا بها - فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم، والذى تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
فقوله - تعالى -: { فَإِنِّي قَرِيبٌ } تمثيل لكمال علمه - تعالى - بأفعال عباده وأقوالهم، واطلاعه على سائر أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم إذ القرب المكانى محال على الله - تعالى -.
وفى الآية الكريمة التفات عن خطاب المؤمنين كافة بأحكام الصيام، إلى خطاب النبى صلى الله عليه وسلم بأن يذكرهم ويعلمهم ما يجب عليهم مراعاته فى سائر عبادتهم من الإِخلاص والأدب والتوجه إلى الله وحده بالسؤال.
ولم يصدر الجواب بقل أو فقل كما وقع فى أجوبة مسائلهم الواردة فى آيات أخرى، نحو
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } بل تولى - سبحانه - جوابهم بنفسه إشعاراً بفرط قربه منهم، وحضوره مع كل سائل بحيث لا تتوقف إجابته على وجود واسطة بينه وبين السائلين من ذوى الحاجات.
والمراد بالعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الحديث عنهم، ولأن سياق الآيات بيان أحكام الصوم وفضائله وهو خاص بالمؤمنين، وقد أضيفوا إلى ضمير الجلالة لتشريفهم وتكريمهم.
وقوله - تعالى -: { أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } تقرير للقرب وتحقيق له، ووعد للداعى بالإِجابة متى صدر الدعاء من قلب سليم، ونفس صافية، وجوارح خاشعة، ولقد ساق لنا القرآن فى آيات كثيرة أمثلة لعباد الله الذين توجهوا إليه بالسؤال، فأجاب الله سؤالهم، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ } وقوله - تعالى -: { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ. فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } وقوله - تعالى -: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ } وورد فى الحديث ما يدل على أن العبد إذا دعا الله - تعالى - بما فيه خير، لم يخب عند الله دعاؤه، ولكن لا يلزم أن يعطيه - سبحانه - نفس ما طلبه، لأنه هو الأعلم بما يصلح عباده. روى الإِمام أحمد عن أبى سعيد الخدرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو الله - عز وجل - بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل إليه دعوته، وإما أن يدخرها له فى الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها" .
وقوله - تعالى - { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } توجيه منه - سبحانه - إلى ما يجعل الدعاء مرجو القبول والإِجابة.
والاستجابة: هى الإِجابة بعناية واستعداد، والسين والتاء للمبالغة.
والرشد: الاهتداء إلى الخير وحسن التصرف فى الأمر من دين أو دنيا يقال: رشد ورشد يرشد ويرشد رشداً، أى اهتدى.
والمعنى: لقد وعدتكم يا عبادى بأن أجيب دعاءكم إذا دعوتمونى، وعليكم أنتم أن تستجيبوا لأمرى، وأن تقفوا عند حدودى، وأن تثبتوا على إيمانكم بى، لعلكم بذلك تصلون إلى ما فيه رشدكم وسعادتكم فى الحياتين العاجلة والآجلة. وأمرهم - سبحانه - بالإِيمان بعد الأمر بالاستجابة، لأنه أول مراتب الدعوة، وأولى الطاعات بالاستجابة.
قال الحافظ ابن كثير: وفى ذكره - تعالى - هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد فى الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر، كما روى أبو داود الطيالسى فى مسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر جمع أهله وولده ودعا. وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبى صلى الله عليه وسلم:
"إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد" وكان عبد الله يقول إذا أفطر: اللهم إنى أسألك برحمتك التى وسعت كل شىء أن تغفر لى" وروى الإِمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه عن أبى هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإِمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول: بعزتى لأنصرنك ولو بعد حين" .
هذا والحديث عن الدعاء وعن فضله وعن آدابه وشروطه وفوائده وجوامعه وغير ذلك مما يتعلق به قد بسطناه فى غير هذا المكان فليرجع إليه من شاء.
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الدعاء، عاد القرآن إلى الحديث عن أحكام الصيام، وعن مظاهر رحمة الله بعباده فيما شرع لهم فقال - تعالى -:
{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ... }.