التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
٢
ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٤
أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة البقرة من السور التى ابتدئت ببعض حروف التهجى.
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فالسور التى بدأت بحرف واحد ثلاثة وهى سور ص، ق، ن.
والسور التى بدأت بحرفين تسعة وهى: طه، يس، طس، { وحم } فى ست سور هى: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
والسورة التى بدأت بثلاثه أحرف ثلاث عشرة سورة وهى: { ألم } فى ست سور: البقرة، وآل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة و{ الر } فى خمس سور هى: يونس، هود، يوسف، الحجر، إبراهيم و{ طسم } فى سورتين هما: الشعراء، القصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما. الرعد، { المر }، والأعراف، { المص }، وسورتان - أيضاً - بدئتا بخمسة أحرف وهما: مريم { كهيعص }، والشورى { حم عسق }.
فيكون مجموع السور التى افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم فى رأيين رئيسين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى إحدى رواياته - كما ذهب إليه الشعبى، وسفيان الثورى، وغيرهم من العلماء، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سراً، وإن سر هذا القرآن فى فواتح السور. ويروى عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وعن على - رضي الله عنه - أنه قال: " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى". وفى رواية أخرى عن الشعبى أنه قال: "سر الله فلا تطلبوه".
ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى، أنه كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس، لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها..
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين - ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور.
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى يضيق المجال عن ذكرها.
أما الرأى الثانى فيرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة، من أهمها ما يأتى:
1- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم
"من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح" وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة (ص) وسورة (يس).
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
2- وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.
3 - وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته، فمثلاً { الۤمۤ } أصلها: أنا الله أعلم.
4 - وقيل: إنها اسم الله الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال، والتى أوصلها السيوطى فى "الإِتقان" إلى أكثر من عشرين قولا.
5 - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإِنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيستمعوا حكما وحججاً قد يكون سبباً فى هدايتهم واستجابتهم للحق.
هذه خلاصة لأراء العلماء فى الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيداً لذلك فليرجع - مثلاً - إلى كتاب "الإِتقان" للسيوطى، وإلى كتاب "البرهان" للزركشى، وإلى تفسير الألوسى.
ثم قال - تعالى -: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }.
{ ذَلِكَ } اسم إشارة واللام للبعد حقيقة فى الحس، مجازاً فى الرتبة، والكاف للخطاب، والمشار إليه - على الراجح - الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم فى قوله - تعالى -
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أخبرنى عن تأليف { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } مع { الۤمۤ } قلت: إن جعلت { الۤمۤ } اسماً للسورة ففى التأليف وجوه. أن يكون { الۤمۤ } مبتدأ و{ ذَلِكَ } مبتدأ ثانياً، و{ ٱلْكِتَابُ } خبره. والجملة خبر المبتدأ الأول.
ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب فى مقابلته ناقص، وأنه الذى يستأهل أن يسمى كتاباً، كما تقول: هو الرجل، أي: الكامل فى الرجولية، الجامع لما يكون فى الرجال من مرضيات الخصال.
وإن جعلت { الۤمۤ } بمنزلة الصوت، كان "ذلك" مبتدأ خبره "الكتاب"، أى: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل... اهـ ملخصاً.
وقيل: المشار إليه { الۤمۤ } على أنه اسم للسورة والمراد المسمى.
و{ ٱلْكِتَابُ } مصدر كتب كالكتب، وأصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة. واستعمل عرفا فى ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التى يتألف منها فى الخط، تسمية للشىء باسم ما يؤول إليه.
و(الريب) فى الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة، وحقيقة الريبة، قلق النفس واضطرابها، ثم استعمل فى معنى الشك مطلقاً. وقال ابن الأثير: الريب هو الشك مع التهمة.
و(هدى). مصدر هداه هدى وهداية وهدية - بكسرها - فهدى، ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية، وضده الضلال.
و(المتقون) جمع متق، اسم فاعل من اتقى وأصله اوتقى - بوزن افتعل - من وقى الشئ وقاية، أى: صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه.
والمعنى: ذلك الكتاب الكامل، وهو القرآن الكريم، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف فى أنه منزل من عند الله، وأنه هداية وإرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل، حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها ويؤذيها.
وكانت الإِشارة بصيغة البعيد، لأنه سامى المنزلة أينما توجهت إليه، فإن نظرت إليه من ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء، وإن نظرت إليه من ناحية معانيه فهو فوق مدارك الحكماء، وإن نظرت إليه من ناحية قصصه وتاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين، وأدق محدد لتاريخ السابقين، فلا جرم أن كانت الإِشارة فى الآية باستعمال اسم الإِشارة للبعيد لإِظهار رفعة شأن هذا القرآن، وقد شاع فى كلام البلغاء تمثيل الأمر الشريف بالشىء المرفوع فى عزة المنال، لأن الشىء النفيس عزيز على أهله، فمن العادة أن يجعلوه فى مكان مرتفع بعيد عن الأيدى.
وصحت الإِشارة إلى الكتاب وهو لم ينزل كله بعد، لأن الإِشارة إلى بعضه كالإِشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإِنزال، فهو حاضر فى الأذهان، فشبه بالحاضر فى العيان.
ونفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه أساطير الأولين، لأنه لروعة حكمته، وسطوع حجته، لا يرتاب ذو عقل متدبر فى كونه وحياً سماوياً، ومصدر هداية وإصلاح.
فالجملة الكريمة تنفى الريب فى القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه، ويقبلوا على النظر فيه بروية، ومن ارتاب فى القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية، أو بصيرة نافذة، أو قلب سليم.
وقدم جملة { لاَ رَيْبَ فيهِ } على جملة { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأنه أراد أن ينفى عن ساحة كونه كتاباً هادياً غبار الريب، وغيوم الشكوك، حتى يستقر فى النفوس وصفه، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته.
وفصل جملة { لاَ رَيْبَ فيهِ } عما قبلها لكمال الاتصال، حيث كانت جملة { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } مفيدة لكماله، وجملة { لاَ رَيْبَ فيهِ } مفيدة لنفى الريب عنه.
والمراد بكونه { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } مع أنه هداية لهم ولغيرهم، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم.
قال تعالى:
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ومعنى كونه هدى لهم أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى كما قال - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْْ } ويصح أن يكون المعنى: هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية، كما أقول: هديت مهتديا، أو كتبت مكتوبا، على معنى أنى هديت شخصاً صار مهدياً بهذه الهداية، وكتبت خطاباً صار مكتوباً بهذه الكتابة، وهو أسلوب عربى صحيح. كما ورد فى حديث "من قتل قتيلا فله سلبه" .
قال صاحب الكشاف: ومحل { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } الرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فيهِ } لـ "ذلك"... والذى هو أرسخ عرقاً فى البلاعة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً، وأن يقال: إن قوله { الۤمۤ } جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها.
و{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } جملة ثانية. و{ لاَ رَيْبَ فيهِ } ثالثة. { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جئ بها متناسقة هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة: بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدى، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله. لأنه لا كمال أكمل من الحق واليقين. ولا نقص أنقص ما للباطل والشبه.
وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: فى حجة تتبختر اتضاحاً، وفى شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع - بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق - من نكتة ذات جزالة. ففى الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفى الثانية ما فى التعريف من الفخامة، وفى الثالثة ما فى تقديم الريب على الظرف، وفى الرابعة الحذف.
ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة، فقال: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي: يصدقون بما غاب عن حواسهم، كالصانع وصفاته، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب.
والإِيمان لغة التصديق والإِذعان، وهو إفعال من الأمن. وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين، كالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر... الخ، وعدى { يُؤْمِنُونَ } بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف.
والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة. ومعناه: ما لا تدركه الحواس، ولا يعلم ببداهة العقل.
قال بعض العلماء: وخص بالذكر الإِيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإِيمان، لأن الإِيمان بالغيب هو الأصل فى اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوى، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر، فقد راض نفسه على الإِعراض عن الدعوة، كما هو حال الماديين الذين يقولون: "ما يهلكنا إلا الدهر:
والإِيمان بالغيب: يستلزم التصديق به على وجه الجزم، وهو لا يحصل إلا عن دليل. ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل، فنحن لا نحتاج فى الإِيمان بالملائكه والكتب السماوية السابقة، والرسل الذين أرسلوا من قبل، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب، لا نحتاج فى الإِيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التى قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والإِيمان بالغيب دليل على اتساع العقول، وسلامة القلوب، إذ أن معنى الإِيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها، وتقشعت عنها غشاواتها، وامتد نظرها فى الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً، جعلها تسير بنظام محكم، فهذه كواكب تظهر وتغيب، وسماء مرفوعة بغير عمد، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب...
{ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر، وحكيم قدير، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم.
والإِيمان بالغيب الذى أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإِيمان فى القلوب، واستولى الصفاء على النفوس، وقد مدح النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب فى أحاديث متعددة، منها ما جاء عن خالد بن دريك،
"عن ابن محيريز قال: قلت لابن جمعة: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم أحدثك حديثاً. تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بى ولم يرونى" .
قال ابن كثير: فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً.
وأخرج ابن أبى حاتم والطبرانى وابن منده وأبو نعيم
"عن بديلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر أو العصر فى مسجد بنى حارثة، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال: أولئك قوم آمنوا بالغيب" .
تلك أول صفة نتيجة التقوى وهى الإِيمان بالغيب، أما الصفة الثانية التى مدح الله بها المتقين فهى قوله - تعالى - :
{ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ }.
الصلاة فى اللغة الدعاء، من صلى يصلى إذا دعا، واستعملها الشارع فى العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء، والإِقامة فى الأصل: الدوام والثبات، من قولك: قام الحق أى: ظهر وثبت.
ومعنى { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ }: يؤدونها فى أوقاتها المقدرة لها، مع تعديل أركانها، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها، فإن الصلاة المقامة بحق هى تلك التى يصحبها الإخلاص، واستحضار جلال الله فى الركوع والسجود، وهى التى تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس، وعفافها، وتركها لكل الشرور والآثام، كما قال - تعالى -
{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } وقدم الإِيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب، واعتداداً بشرطية الإِيمان فى صحة أعمال الجوارح.
وقدم إقامة الصلاة على الإِنفاق، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأنها تتكرر فى اليوم خمس مرات، ولأنها صلة بين العبد وربه، والإِنفاق صلته بالناس، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة.
أما الصفة الثالثة التى مدح الله بها المتقين فهى قوله - تعالى -:
{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }.
أى: ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون فى وجوه الخير، ويمدون أيديهم بالإِحسان إلى الفقير والمسكين.
والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق. والإِنفاق: إخراج المال وإنفاده وصرفه، يقال: نفق - كفرح ونصر - نفد وفنى أو قلّ. وأنفق ماله أنفده، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب، ومنه: نافق فلان، والنافقاء، والنفق. وقال "ينفقون" ولم يقل أنفقوا، ليشعر بأن الإِنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر. ولم يحدد وجوه الانفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإِحسان.
وإيراد "من" فى قوله تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } للإِشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين، وللإِشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإِسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس.
هذا، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإِنفاق فى وجوه الخير، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً فى عشرات الآيات، وذلك لأن الأمة التى يكثر فيها المنفقون لأموالهم فى وجوه الخير، لا بد أن تعز كلمتها، وتسلم من كوارث شتى، كالجهل، والفقر، والمرض.
فببذل الماء تسد حاجات البؤساء، وتشاد معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء.
قال تعالى:
{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ثم أضاف القرآن إلى صفات المتقين وصفاً رابعاً فقال:
{ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }
والمراد بقوله - تعالى - { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } القرآن الكريم، وإنما عبر عنه بلفظ الماضى - وإن كان بعضه مترقباً - تغليباً للموجود على ما لم يوجد.
والمراد بقوله - تعالى - { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }، الكتب الإِلهية السابقة التى أنزلها الله على أنبيائه كموسى وعيسى وداود. وهذا كقوله - تعالى -:
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ } والإِيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم الإِيمان برسالته، ويستوجب العمل بما تضمنته شريعته.
وإيجاب العمل بما تضمنه القرآن الذى أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم باق على إطلاقه. أما الكتب السماوية السابقة فيكفى الإِيمان بأنها كانت وحياً وهداية، وقد تضمن القرآن الكريم ما اشتملت عليه هذه الكتب من هدايات وأصبح بنزوله مهيمناً عليها، قال - تعالى -:
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } وصار من المحتم على كل عاقل أن يعمل بما جاء به القرآن من توجيهات.
وقدم الإِيمان بما أنزل عليه على الإِيمان بما أنزل على الذين من قبله - مع أن الترتيب يقتضى العكس - لأن إيمانهم بمن قبله لا قيمة له إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يقل: ويؤمنون بما أنزل من قبلك بتكرير يؤمنون، للإِشعار بأن الإِيمان به وبهم واحد، لا تغاير فيه وإن تعدد متعلقه.
ويرى بعض العلماء أن المراد من الآية الكريمة، أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتب السماوية التى نزلت قبل القرآن، نم لما نزل القرآن على النبى محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه الحق - آمنوا به أيضاً -، فصار لهم أجران، كما جاء فى الحديث الشريف، الذى ثبت فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين يوم القيامة: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بى، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها، ثم أعتقها" .
ثم وصف الله المتقين بوصف خامس فقال: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الآخرة تأنيث الآخر.
وهذا اللفظ تارة يجىء وصفاً ليوم القيامة مع ذكر الموصوف، كما فى قوله - تعالى -
{ { وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وتارة بهذا المعنى ولكن بدون ذكر الموصوف، كما فى الآية التى معنا، وكما فى قوله - تعالى - { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } وسميت آخرة لأنها تأتى بعد الدنيا التى هى الدار الأولى.
و{ يُوقِنُونَ } من الإِيقان وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، بحيث لا يطرأ عليه شك، ولا تحوم حوله شبهة. يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته، ويقال: يقنت - بالكسر - يقناً، وأيقنت، وتيقنت، واستيقنت بمعنى واحد.
والمعنى: وبالدار الآخرة وما فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب هم يوقنون إيقاناً قطعياً، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة، والأوهام الباطلة.
وفى إيراد "هم" قبل قوله "يوقنون" تعريض، بغيرهم، ممن كان اعتقادهم فى أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة أو غير بالغ مرتبة اليقين.
ولا شك أن الإِيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، له أثر عظيم فى فعل الخيرات، واجتناب المنكرات، لأن من أدرك أن هناك يوماً سيحاسب فيه على عمله، فإنه من شأنه أن يسلك الطريق القويم الذي يكسبه رضى الله يوم يلقاه.
قال أبو حيان: وذكر لفظة { هُمْ } فى قوله: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ولم يذكرها فى قوله: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإِنفاق فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ولأنه لو ذكر { هُمْ } هناك لكان فيه قلق لفظى، إذ يكون التركيب "ومما رزقناهم هم ينفقون".
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الثمار التى ترتبت على تقواهم فقال:
{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }.
المفلحون: من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية، وأصله من الفلح - بسكون اللام - وهو الشق والقطع، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث. وأستعمل منه الفلاح فى الفوز كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى مبتغاه، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت.
والمعنى: أولئك المتصفون بما تقدم من صفات كريمة، على نور من ربهم، وأولئك هم الفائزون بما طلبوا، الناجون مما منه هربوا، بسبب إيمانهم العميق، وأعمالهم الصالحة.
والآية الكريمة كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين فى المنزلة العليا من الكمال الإِنسانى، فقد وصفهم - سبحانه - بأنهم على هدى عظيم، ويدل على عظم هذا الهدى إيراده بصيغة التنكير، إن من المعلوم عند علماء البيان أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم. كما يدل - أيضاً - على عظم هذا الهدى وصفه بأنه "من ربهم" فهو الذى وفقهم إليه، ويسر لهم أسبابه.
وفى قوله - تعالى -: { عَلَىٰ هُدًى } إشعار بأنهم تمكنوا منه تمكن من استعلى على الشىء، وصار فى قرار راسخ منه.
وجملة { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } بيان لما ظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال، من سعادة فى الدنيا والآخرة.
وتعريف الخبر وهو { ٱلْمُفْلِحُونَ } مع إيراد ضمير الفصل "هم" يفيد أن الفلاح مقصور على أولئك المتقين، فمن لم يؤمن بالغيب، أو أضاع الصلاة، أو بخل بالمال الذى منحه الله إياه فلم يؤده فى وجوهه المشروعة، فإنه لا يكون من المهتدين، ولا من المفلحين الذين سعدوا فى دنياهم وآخرتهم.
قال الإِمام الرازى: "وفى تكرير" { أُوْلَـٰئِكَ } تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى، فقد ثبت لهم الاختصاص بالفلاح - أيضاً - فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين، فإن قيل: فلم جىء بالعاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله:
{ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } قلنا: قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان، لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شىء واحد، وكانت الثانية مقررة لما فى الأولى، فهى من العطف بمعزل".
وقال صاحب الكشاف بعد تفسيره لهذه الآية الكريمة "... فانظر كيف كرر الله التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهى: ذكر اسم الاشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين أولئك، ليبصرك مرتباتهم، ويرغبك فى طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمنى على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته...".
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد مدحت القرآن الكريم بما يستحقه، وأثنت على من اهتدوا بهديه، ووصفتهم بالصفات السامية، وبشرتهم بالبشارات الكريمة.
وبعد أن انتهى القرآن من بيان شأن الكتاب وأثره فى الهداية والإِرشاد، وتصوير حال المتقين الذين اهتدوا به، وما اكتسبوه بالهداية من أوصاف سامية، وما كان لهم على ذلك من خير العاقبة وحسن الجزاء، أقول بعد أن انتهى من بيان كل ذلك شرع فى بيان حال الكافرين، وما هم عليه من سوء الحال وقبيح الأوصاف فقال:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ..وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }.