التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٢٠
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } .. السائلون هم المؤمنون وسؤالهم إنما هو عن الحكم الشرعى من حيث الحل والتحريم. لا عن الحقيقة والذات فإنهم يعرفون حقيقة الخمر والميسر وذاتهما.
قال القرطبى: والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها - وكل شىء غطى شيئاً فقد خمره. ومنه "خمروا آنيتكم، فالخمر تخمر العقل، أى: تغطيه وتستره.. فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك، وقيل إنما سميت الخمر خمرا؛ لأنها تركت حتى أدركت كما يقال: قد اختمر العجين، أى: بلغ إداركه. وخمر الرأى ترك حتى يتبين فيه الوجه. وقيل: إنما سميت خمراً لأنها تخالط العقل من المخامرة وهى المخالطة ومنه قولهم: دخلت فى خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أى: اختلطت بهم. فالمعانى الثلاثة متقاربة. فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل. ثم خمرته، والأصل الستر.
ويرى كثير من العلماء أن هذه الآية هى أول آية نزلت فى الخمر. ثم نزلت الآية التى فى سورة النساء
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ثم نزلت الآية التى فى سورة المائدة { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } والدليل على ذلك ما رواه أبو داود وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال "اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا" فنزلت هذه الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ } فدعى عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا".
فنزلت الآية التى فى النساء
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة - نادى أن: لا يقربن الصلاة سكران. فدعى عمر فقرئت عليه، فقال: "اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا". فنزلت الآية التى فى المائدة، فدعى عمر فقرئت عليه، فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال عمر: "انتهينا".
وبهذا الرأى قال ابن عمر والشعبى ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
ويرى بعض العلماء أن أول آية نزلت فى الخمر هى قوله - تعالى - فى سورة النحل:
{ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } وعلى هذا الرأى سار صاحب الكشاف وتبعه بعض العلماء فقد قال: نزلت فى الخمر أربع آيات، نزل بمكة قوله - تعالى -: { وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } فكان المسلمون يشربونها وهى حلال لهم. ثم إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله، أفتنا فى الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت: { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } فشربها قوم وتركها آخرون. ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلى فقرأ: قل يأيها الكافرون أعبدما تعبدون فنزلت: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ } فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبى وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا شعرا فيه هجاء للأنصار فضرب أحد الأنصار سعداً بلحى بعير فشجه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال عمر: اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزلت { { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ } إلخ الآية" .. فقال عمر: انتهينا يا رب".
وأصحاب الرأى الأول يقولون: إن آية سورة النحل وهى قوله - تعالى -:
{ وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ليس لها علاقة بموضوع الخمر، ويفسرون السكر بأنه ما أحله الله مما لا يسكر وأنه هو الرزق الحسن وأن العطف بينهما من باب عطف التفسير.
ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يشتهونه ويحبونه من الخمر والميسر، يمثل أسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأوامر الله ونواهيه، فعندما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها فى الطرقات. بل وحطموا الأوانى التى كانت توضع فيها الخمر امتثالا وطاعة لله - تعالى -.
وهكذا نرى قوة الإِيمان التى غرسها الإِسلام فى نفوس أتباعه عن طريق تعاليمه السامية، وتربيته الحكيمة.. تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع.
هذا وجمهور العلماء على أن كلمة "خمر" تشمل كل شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم من الشعير أم من التمر أم من غير ذلك، وكلها سواء فى التحريم قل المشروب منها أو كثر سكر شاربه أو لم يسكر.
ومن أدلتهم ما وراه الإِمام مسلم عن ابن عمر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فى الدنيا ومات وهو يدمنها لم يتب منها لم يشربها فى الآخرة" .
ومن أدلتهم أيضاً أصل الاشتقاق اللغوى لكلمة خمر، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره.
وقال الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعى وسفيان الثورى وابن أبى ليلى: إن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذاً. وقد بنوا على هذا أن المحرم قليله وكثيره إنما هو الخمر من العنب. أما الأنبذة فكثيرها حرام وقليلها حلال.
وقد رجح العلماء رأى الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم.
قال ابن العربى: وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها. والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال: "حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرها البسر والتمر". أخرجه البخارى، واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم - أى أوانى الخمر - وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك كله خمر" أى وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقال الآلوسى: وعندى أن الحق الذى لا ينبغى العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأى اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام، وقليله ككثيره، ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة. وفى الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال:
"كل شراب أسكر فهو حرام" وروى أبو داود "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" وصح "ما أسكر كثيره فقليله حرام" والأحاديث متضافرة على ذلك. ولعمرى إن اجتماع الفساق فى زماننا على شرب المسكرات مما عدا "الخمر" ورغبتهم فيها، فوق اجتماعهم على شرب "الخمر" ورغبتهم فيه بكثير، وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والإِكسير - ونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون".
بعد هذه الكلمة التمهيدية عن الآية، وعن مدلول كلمة خمر ننتقل إلى معنى كلمة "الميسر" فنقول: الميسر: القمار - بكسر القاف - وهو فى الأصل مصدر ميمى من يسر، كالموعد من وعد. وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة، لأن المال يجئ للكاسب من غير جهد، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزر. ثم أصبح علما على ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه.
قال القرطبى نقلا عن الأزهرى: الميسر: الجزور الذى كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسراً؛ لأنه أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شىء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر لأنه يجزئ لحم الجزور.. ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: ياسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك.
وصفة الميسر الذى كانت تستعمله العرب أنهم كانت لهم عشرة أقداح يقال لها الأزلام أو الأقلام، فكانوا إذا أرادوا أن يقامروا أحضروا بعيرا وقسموه ثمانية وعشرين قسما وتترك ثلاثة من تلك الأقداح غفلا لا علامة عليها وكانت تسمى: السفيح، والمنيح، والوغد. ومن طلع له واحد منها لا يأخذ شيئاً من الجزور. أما السبعة الأخرى فهى الرابحة وهى الفذو له سهم واحد، والتوأم وله سهمان، والرقيب وله ثلاثة، والحلس وله أربعة، والنافس وله خمسة والمسبل وله ستة، والمعلى وله سبعة فيكون المجموع ثمانية وعشرين سهما.
تلك صورة تقريبية لقمار العرب كما أوردها بعض المفسرين.
ولا شك أنه يدخل فى حكمها من حيث الحرمة ما كان مشابها لها فى المخاطرة والرهان وأخذ الأموال بدون مقابل مشروع، أو ضياعها فيما حرمه الله.
ومعنى الآية الكريمة: يسألك أصحابك يا محمد عن حكم شرب الخمر ولعب الميسر، قل لهم على سبيل الإِرشاد والإِعلام: فى تعاطيهما { إِثْمٌ كَبِيرٌ } أى: ذنب عظيم، وضرر شديد وذلك لما فيهما من القبائح المنافية لمحاسن الشرع من الكذب، والأذى، وشيوع العداوة والبغضاء بين الناس، واستلاب أموالهم بغير حق.
وقوله: { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أى وفيهما منافع دنيوية للناس إذ الخمر تدر على المتاجرين فيها أرباحا مالية، والميسر يؤدى إلى إصابة بعض الناس للمال بدون تعب.
وأطلق - سبحانه - الإِثم وقيد المنافع بأنها للناس، للتنبيه على أن الإِثم فى الخمر والميسر ذاتى، فهما فى ذاتهما رجس كبير، وخطر وبيل، وأن ما فيهما من منافع ضئيل ولا يتجاوز بعض الناس، فهى منافع خاصة وليست عامة، ويشهد لهذا قوله - تعالى - بعد ذلك.
{ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أى أن المفاسد والأضرار التى تترتب على تعاطيهما، أعظم من المنافع التى تنشأ عن تعاطيهما، إذ تعاطيهما يؤدى إلى منفعة بعض الناس، أما مضارهما فكثيرة، من ذلك أن تعاطى الخمر يضعف الضمير، ويفسد الأخلاق، ويميت الحياء، ويفقد الرشد ويتلف المال، ويغرى بالتنازع بين الناس، ويتسبب - كما قال الأطباء الثقاة - فى كثير من الأمراض كأمراض الكبد والرئتين والقلب..إلخ.
وإن شئت المزيد من معرفة مضار الخمر فراجع ما كتبه العلماء والمتخصصون فى ذلك.
أما تعاطى الميسر فمن مضاره - كما يقول الأستاذ الإِمام محمد عبده - إفساد التربية بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة فى طرق الكسب الطبيعية، وإهمال المقامرين للزراعة والتجارة والصناعة التى هى أركان العمران، وتخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر فى ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت فى العز والغنى وانحصرت ثروتها فى رجل أضاعها عليها فى ليلة واحدة؛ فأصبحت غنية وأمست فقيرة".
إذن فالمنافع الدنيوية التى تعود إلى بعض الناس من تعاطى الخمر والميسر لا تساوى شيئاً بجانب تلك المضار الجسيمة التى تعود على أفراد الأمة فى دينهم وعقولهم وأجسامهم وأموالهم وترابطهم، وصدق الله إذ يقول:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ثم يأتى بعد ذلك السؤال الثانى الذى ورد فى هاتين الآيتين وهو قوله - تعالى -: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ }.
ومناسبة هذا السؤال لما قبله أنهم بعد أن نهوا عن إنفاق أموالهم فى الوجوه المحرمة كتعاطى الخمر والميسر، سألوا عن وجوه الإِنفاق الحلال، وعن مقدار ما ينفقون فأجيبوا بهذا الجواب الحكيم.
قال الآلوسى: أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس أن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة فى سبيل الله أتوا النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندرى ما هذه النفقة التى أمرنا بها فى أموالنا وما الذى ننفقه منها فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } وكان الرجل قبل ذلك ينفق ماله حتى لا يجد ما يتصدق ولا ما يأكل".
وأصل العفو فى اللغة الزيادة. قال - تعالى -:
{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ } أى زادوا على ما كانوا عليه من العدد. ويطلق على ما سهل وتيسر مما يكون فاضلا عن الكفاية. يقال: خذ ما عفا لك. أى ما تيسر. كما يطلق على الترك قال - تعالى - { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } أى تركه وتجاوز عنه.
والمراد به هنا: ما يفضل عن الأهل ويزيد عن الحاجة، إذ هذا القدر الذى يتيسر إخراجه ويسهل بذله، ولا يتضرر صاحبه بتركه.
والمعنى: ويسألونك ما الذى يتصدقون به من أموالهم فى وجوه البر، فقل لهم تصدقوا بما زاد عن حاجتكم، وسهل عليكم إخراجه، ولا يشق عليكم بذله.
وفى هذه الجملة الكريمة إرشاد حكيم إلى التعاون والتراحم بين أفراد المجتمع، وتوجيه إلى المنهاج الوسط الذى يأبى التبذير وينفر من التقتير، وفى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الإِرشاد والتوجيه، ومن ذلك ما أخرجه البخارى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" .
وأخرج مسلم عن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إبدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شىء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شىء فلذى قرابتك، فإن فضل عن ذى قرابتك شىء فهكذا وهكذا" .
إلى غير ذلك من الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى.
وللأستاذ الإِمام كلام جيد فى هذا المقام، فقد قال -رحمه الله - ما ملخصه: إن الأمة المؤلفة من مليون فرد إذا كانت تبذل من فضل مالها فى مصالحها العامة كإعداد القوة وتربية الناشئة.. تكون أعز وأقوى من أمة مؤلفة من مائة مليون فرد لا يبذلون شيئا فى مثل ذلك؛ لأن الواحد من الأمة الأولى يعد بأمة، إذ هو يعتبر نفسه جزءاً منها وهى كل له، بينما الأمة الثانية لا تعد بواحد لأن كل فرد من أفرادها يخذل الآخر.. وفى الحقيقة أن مثل هذا الجمع لا يسمى أمة، لأن كل واحد من أفراده يعيش وحده وإن كان فى جانبه أهل الأرض، فهو لا يتصل بمن معه ليمدهم ويستمد منهم".
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فى ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ }.
أى: مثل هذا البيان الحكيم الذى بينه الله لكم فيما سألتم عنه يبين لكم فى سائر كتابه آياته وأحكامه وحججه لكى تتفكروا وتتدبروا فيما ينفعكم فى دنياكم وآخرتكم، بأن تعملوا فى الدنيا العمل الصالح الذى يجعلكم تظفرون برضا الله فى أخراكم.
قال صاحب الكشاف: "وقوله: { فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } إما أن يتعلق بتتفكرون، فيكون المعنى: لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون سبما هو أصلح لكم كما بينت لكم أن العفو أصلح من الجهد فى النفقة وتتفكرون فى الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } فيكون المعنى: لتفكروا فى عقاب الإِثم فى الآخرة والنفع فى الدنيا حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب الأليم. وإما أن يتعلق بيبين على معنى: يبين لكم الآيات فى أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون".
أما السؤال الثالث والأخير الذى ورد فى هاتين الآيتين فهو قوله تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ }.
أخرج أبو داود والحاكم والنسائى وغيرهم عن ابن عباس قال: لما نزل قوله - تعالى -
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هي أَحْسَنُ } وقوله - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه. وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشىء من طعامه وشرابه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله - تعالى - { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم.
والمعنى: ويسألونك يا محمد عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف فى أموالهم أو عن أموالهم وكيف يكونون معهم فقل لهم: إن المطلوب هو إصلاحهم بالتهذيب والتربية الرشيدة. والمعاملة الحسنة، وإصلاح أموالهم بالمحافظة عليها وعدم إنفاقها إلا فى الوجوه المشروعة فهذا الإِصلاح المفيد لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم، وتركهم، ولذا قال - تعالى - بعد ذلك: { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أى: وإن تعاشروهم وتضموهم إليكم فاعتبروهم إخوانكم فى العقيدة الإِنسانية، وعاملوهم بمقتضى ما تفرضه الأخوة من تراحم وتعاطف ومساواة.
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها. و "إصلاح" مبتدأ وسوغ الابتداء به مع أنه نكرة وصفة بالجار والمجرور "لهم" و "خير" خبره، وقوله: { فَإِخْوَانُكُمْ } الفاء واقعة فى جواب الشرط، وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهم إخوانكم، والجملة فى محل جزم على أنها جواب الشرط.
وقوله: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ } وعد ووعيد، وترغيب فى الإِصلاح وترهيب من الإِفساد، أى: والله يعلم المفسد لشئون هؤلاء اليتامى من المصلح لها، كما أنه - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء وسيجازى كل إنسان على حسب عمله، فاحذورا الإِفساد ولا تتحروا غير الإِصلاح.
ثم قال - تعالى -: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } العنت: الشدة والمشقة والتضييق. يقال: أعنته فى كذا يعنته إعناتا، إذا أجهده وألزمه ما يشق عليه.
أى: ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم بتحريم مخالطة هؤلاء اليتامى، وبغير ذلك ما يشرع لكم، ولكنه - سبحانه - وسع عليكم وخفف فأباح لكم مخالطتهم بالتى هى أحسن، فاشكروه على ذلك.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أى: إن الله - تعالى - غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التى من جملتها إعناتكم قادر على أن يعز من أعز اليتامى ويذل من سذلهم، حكيم فى كل تصرفاته وأفعاله، فلا يضع الأشياء إلا فى مواضعها.
وقدق استدل العلماء بهذه الآية على جواز التصرف فى أموال اليتامى على وجه الإِصلاح، وعلى أن للوالى أن يخالط اليتيم بنفسه فى المصاهرة والمشاركة وغير ذلك مما تقتضيه المصلحة.
وقد وردت أحاديث متعددة فى رعاية اليتيم وإصلاح أحواله ومن ذلك ما رواه البخارى عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما" .
وروى الطبرانى عن أبى الدرداء. قال: "أتى النبى صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم أتحب أن يلين وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك" .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد اشتملتا على أفضل ألوان الإِصلاح للأفراد والجماعات فى مطاعمهم ومشاربهم ونفقتهم وعلاقتهم بغيرهم ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الأب الحانى، والقلب الرحيم، ومن شأن الأمة التى تعمل بهذا التوجيه السامى الحكيم أن تنال السعادة فى دنياها. ورضاه الله - فى أخراها.
ثم تحدثت السورة بعد ذلك فى اثنتين وعشرين آية عن بعض أحكام وآداب الزواج والمعاشرة، والإِيلاء والطلاق، والعدة، والنفقة، والرضاعة، والخطبة، والمتعة، وغير ذلك مما يتعلق بصيانة الأسرة وتقويتها، وبنائها على أفضل الدعائم، وأحكم الروابط، إذ الأسرة هى اللبنة الأساسية فى بناء المجتمع، ومن مجموعها يتكون، فإذا صلحت الوحدات والمكونات صلح البنيان، وإذا تصدعت تصدع.
ولقد ابتدأت الآيات التى معنا حديثها عن الأسرة بالحديث عن الزواج لأنه أعمق الروابط وأقواها ومنه تتأتى الذرية، لذا جعل أساس الاختيار فيه هو التدين السليم، والخلق القويم، الذى يسعد ولا يشقى، ويبنى ولا يهدم، ويحفظ ولا يضيع.. ولا يتأتى ذلك إلا باختيار المسلمة الصالحة والإِعراض عن المشركة الكافرة.
استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك فيقول:
{ وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ... }.