التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٢٤
لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٢٥
لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٢٦
وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٢٧
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

العرضة: فعلة - بضم الفاء - بمعنى مفعول كالقبضة والغرقة، وهى اسم لكل ما يعترض الشىء فيمنع من الوصول إليه، واشتقاقها من الشىء الذى يوضع فى عرض الطريق فيصير مانعاً للناس من السلوك والمرور يقال فلان عرضة دون الخير أى حاجز عنه.
وتطلق كذلك على النصبة التى تتعرض للسهام وتكون هدفا لها، ومنه قولهم: فلان عرضة للناس إذا كانوا يقعون فيه ويعرضون له بالمكروه. قال الشاعر:

دعونى أنح وجداً كنوح الحمائمولا تجعلونى عرضة للوائم

يريد اتركونى أنح من الشوق ولا تجعلونى معرضاً للوم اللوائم.
والأيمان: جمع يمين وتطلق بمعنى الحلف والقسم، واصل ذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا توثيق عهودهم بالقسم يقسمونه وضع كل واحد من المتعاهدين يمينه فى يمين صاحبه، و"تبروا" من البر وهو الأمر المستحسن شرعا.
والمعنى على الوجه الأول: لا تجعلوا الحلف بالله - أيها المؤمنون - حاجزاً ومانعاً عن البر والتقوى والإِصلاح بين الناس، وذلك أن بعض الناس كان إذا دعى إلى فعل الخير وهو لا يريد أن يفعله يقول: حلفت بالله ألا أفعله فنهاهم الله - تعالى - عن سلوك هذا الطريق.
وهذا المعنى هو الذى رجحه كثير من المفسرين لأنه هو المناسب لما يجئ بعد ذلك من قوله - تعالى -: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } ووجه المناسبة أن الله - تعالى - يكره للمؤمن أن يجعل الحلف به مانعاً من رجوعه إلى أهله؛ ولأن هناك أحاديث كثيرة تحض من حلف على ترك أمر من أمور الخير أن يكفر عن يمينه وأن يأتى الأمر الذى فيه خير، ومن هذه الأحاديث ما جاء فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إنى والله إن شاء الله، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذى هو خير وتحللتها" .
وروى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذى هو خير" .
وشبيه بهذه الآية فى النهى عن الحلف على ترك فعل الخير قوله - تعالى - فى شأن سيدنا أبى بكر عندما أقسم ألا ينفق على قريبه الذى خاض فى شأن ابنته عائشة { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوۤاْ أُوْلِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوۤاْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ } فالآية على هذا الوجه تنهى المؤمن عن المحافظة على اليمين إذا كانت هذه اليمين مانعة من فعل الخير.
واللام فى قوله: { لأَيْمَانِكُمْ } متعلق بعرضة، وقوله { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ } مفعول لأجله أى: لا تجعلوا الحلف بالله سبباً فى الامتناع عن عمل البر والتقوى والإِصلاح بين الناس.
والمعنى على أن عرضة بمعنى النصبة التى تتعرض للسهام: لا تجعلوا - أيها المؤمنون - اسم الله - تعالى - هدفا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به فى كل حق وباطل، وذلك لأجل البر والتقوى والإِصلاح بين الناس، فإن من شأن الذى يكثر الحلف أن تقل ثقة الناس به وبأيمانه، وقد ذم الله - تعالى - من يكثر الحلف بقوله
{ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } وأمر بحفظ الأيمان فقال: { وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ } قال الإِمام الرازى: والحكمة فى الأمر بتقليل الأيمان، أن من حلف فى كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك، ولا يبقى لليمين فى قلبه وقع، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة، فيختل ما هو الغرض الأصلى فى اليمين، وأيضاً كلما كان الإِنسان أكثر تعظيما لله. كان أكمل فى العبودية، ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله - تعالى - أجل وأعلا عنده من أن يستشهد به فى غرض دنيوى، وأما قوله بعد ذلك { أَن تَبَرُّواْ } فهو علة لهذا النهى. أى: إرادة أن تبروا والمعنى إنما نهيتم عن هذا - أى عن الإِكثار من الحلف - لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإِصلاح، فتكونون يا معشر المؤمنين بسبب عدم إكثاركم من الأيمان - بررة أتقياء مصلحين".
وهذا الوجه أيضاً استحسنه كثير من العلماء، ولا تنافى بينهما؛ لأن الله - تعالى - ينهانا عن أن نجعل القسم به مانعاً من فعل الخير، كما ينهانا فى الوقت نفسه عن أن نكثر من الحلف به فى عظيم الأمور وحقيرها.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى: سميع لأقوالكم وأيمانكم عند النطق بها عليم بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على أمركم به، وانتهوا عما نهاكم لتنالوا رضاه ومثوبته.
وقوله - تعالى -: { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ } استئناف بيانى، لأن الآية السابقة لما أفادت النهى عن التسرع فى الحلف، أو عن اتخاذ الأيمان حاجزاً عن عمل الخير، كانت نفوس السامعين مشوقة إلى حكم اليمين التى تجرى على الألسنة بدون قصد.
والمؤاخذة: مفاعلة من الأخذ بمعنى المحاسبة أو المعاقبة أو الإِلزام بالوفاء بها.
واللغو من الكلام: الساقط الذى لا يعتد به ولا يصدر عن فكر وروية مصدر لغا يلغو ويلغى.
والمعنى: لا يعاقبكم الله - تعالى - ولا يلزمكم بكفارة ما صدر عنكم من الأيمان اللاغية فضلا منه - سبحانه - كرماً.
واليمين اللغو هو التى لا يقصدها الحالف، بل تجرى على لسانه عادة من غير قصد، وقد ذكر العلماء صوراً لها منها - كما يقول ابن كثير:
ما رواه عطاء عن عائشة أنها قالت: "اللغو فى اليمين هو كلام الرجل فى بيته كلا والله بلى والله" وفى رواية عن الزهرى عن عروة عنها أنها قالت: "اللغو فى اليمين هو ما يكون بين القوم يتدارءون فى الأمر - أى يتناقشون ويتذاكرون فيه - فيقول هذا لا والله وبلى والله وكلا والله لا تعقد عليه قلوبهم" أى تجرى على ألسنتهم ألفاظ اليمين ولكن بدون قصد يمين: -
ومنها ما جاء عن عروة عنها أنها كانت تتأول هذه الآية يعنى قوله - تعالى -: { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ } وتقول: هو الشىء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه".
ثم بين - سبحانه - اليمين التى هى موضع المحاسبة والمعاقبة فقال: { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ }.
أى: لا يؤاخذكم الله فى اليمين التى لم تصدر عن روية ولكن يؤاخذكم أى يعاقبكم فى الآخرة بما قصدته قلوبكم وتعمدتم فيه الكذب فى اليمين، بأن يحلف أحدكم على شىء كذب ليعتقد السامع صدقه، وتلك هى اليمين الغموس - أى التى تغمس صاحبها فى النار - ويدخل فيها الأيمان التى يحلفها شهود الزور والكاذبون عند التقاضى ومن يشابههم فى تعمد الكذب.
ويرى جمهور العلماء أن هذه اليمين لا كفارة فيها وإنما كفارتها التوبة الصادقة ورد الحقوق إلى أصحابها إن ترتب على اليمين الكاذبة ضياع حق أو حكم بباطل.
ويرى الإِمام الشافعى أنه يجب فيها فوق ذلك الكفارة.
والباء فى قوله: { بِمَا } للسببية، وما مصدرية أى، لا يؤاخذكم باللغو ولكن يؤاخذكم بالكسب، أو موصولة والعائد محذوف أى ولكن يؤاخذكم بالذى كسبته قلوبكم.
وقوله: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } تذييل لتأكيد معنى عدم المؤاخذة فى اللغو. أى والله غفور حيث لم يؤاخذكم باللغو حليم حيث لم يعاجل المخطئين بالعقوبة.
وبعد بيان هذه الأحكام فى الأيمان العامة، عقب - سبحانه - ذلك ببيان حكم اليمين الخاصة فقال: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }. و{ يُؤْلُونَ }: من الإِيلاء مصدر آلى يؤالى ويؤلى إيلاء بمعنى حلف. قال الشاعر:

قليل الألايا حافظ ليمينهوإن سبقت منه الألية برت

وقد خص الإِيلاء فى الشرع بالحلف على ترك مباشرة الزوجة. وكانوا فى الجاهلية يحلفون ألا يقربوا نساءهم السنة والأكثر إضرارا بهن.
و { التربص } التلبث والانتظار والترقب. قال الشاعر:

تربص بها ريب المنون لعلهاتطلق يوما أو يموت حليلها

و { فَآءُو } معناه رجعوا. والفىء فى اللغة هو رجوع الشىء إلى ما كان عليه من قبل، ولهذا قيل لما تزيله الشمس من الظل ثم يعود فىء. وقيل لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فىء كأنه لهم فرجع إليهم.

ففاءت ولم تقض الذى أقبلت لهومن حاجة الإِنسان ما ليس قاضيا

و{ عَزَمُواْ } من العزم وهو عقد القلب على الشىء، والتصميم عليه. يقال عزم على الشىء يعزم عزما وعزيمة.. إذا عقد نيته عليه.
و{ ٱلطَّلاَقَ } هو حل عقد النكاح الذى بين الرجل والمرأة، وأصله من الانطلاق، وهو الذهاب. يقال: طلقت المرأة تطلق - من باب نصر - طلاقا، إذا أصبحت مخلاة بدون رجل بعد أن كانت فى عصمة رجل معين.
قال الفخر الرازى: كان الرجل فى الجاهلية لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها، فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات يعل والغرض منه مضارة المرأة. ثم إن أهل الإِسلام كانوا يفعلون ذلك - أيضاً - فأزال الله، تعالى - ذلك، وأمهل الزوج مدة حتى يتروى ويتأمل فإن رأى المصلحة فى ترك هذه المضارة فعلها، وإن رأى المصلحة فى المفارقة عن المرأة فارقها".
ومعنى الآيتين الكريمتين: أن الله - تعالى - جعل للذين يحلفون على ترك مباشرة أزواجهم مدة يراجعون فيها أنفسهم، وينتظرون فيها ما يستقر عليه أمرهم، وهذه المدة هى أربعة أشهر، فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك مباشرة الزوجة، ورأوا أن المصلحة فى الرجوع فإن الله - تعالى - يغفر لهم ما فرط منهم. وإن استمروا على ترك مباشرة نسائهم، وأصروا على ذلك بعد انقضائها فإن شرع الله - تعالى يحكم بالتفريق بينهما، لأن الحياة الزوجية لا تقوم على البغض والكراهية والهجران، وإنما تقوم على المحبة والمودة والرحمة وقوله: { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ } متعلق بمحذوف خبر مقدم. وتربص مبتدأ مؤخر، وقدم الخبر على المبتدأ للاهتمام بهذه التوسعة التى وسع الله بها عليهم، فهى مدة كافية لأن يراجع المرء فيها نفسه، ويعود إلى معاشرة زوجه خلالها.
وعدى فعل الإِيلاء بمن مع أن حقه أن يتعدى بعلى، لأنه تضمن هنا معنى البعد كأنه قال: للذين يؤلون متباعدين من نسائهم.
و{ مِن نِّسَآئِهِمْ } على حذف المضاف، أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه المبالغة أى، للذين يؤلون من مباشرة نسائهم.
وأضيف التربص إلى الظرف { أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } على الاتساع إذ الأصل تربصهن فى أربعة أشهر. وقوله: { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } دليل الجواب. أى فإن فاؤا إلى زوجاتهم وحنثوا فى أيمانهم التى حلفوها بالابتعاد عنهن، بأن كفروا عنها وتابوا إلى ربهم فحنثهم مغفور لهم لأنه - سبحانه - غفور لمن تاب من بعد ظلمه وأصلح، رحيم بعباده فى كل أوامره وتكاليفه.
وجواب الشرط فى قوله { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ } محذوف والتقدير وإن عزموا الطلاق فقد وجب عليهم ما اعتزموه، والطلاق منصوب على نزع الخافض لأن عزم يتعدى بعلى.
وفى قوله: { فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وعيد شديد لمن يحلف على ترك مباشرة امرأته أو يمسكها بقصد إيذائها ومضارتها.
أى فإن الله - تعالى - سميع لكل ما كان من الزوج الحالف، عليم بما يقع منه من مضار أو غيرها، وسيجزيه يوم القيامة بما يستحقه.
قال القرطبى ما ملخصه: وقد جعل الله للزوج مدة أربعة أشهر فى تأديب المرأة بالهجر، وقد آلى النبى صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهر تأديبا لهن - عندما طالبنه بزيادة النفقة - وقد قيل: الأربعة الأشهر هى التى لا تستطيع أن تصبر عنه أكثر منها، وقد روى أن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - سأل بعض النساء عن مقدار صبر المرأة عن زوجها فقلن أربعة أشهر، فجعل عمر مدة الرجل فى الغزو أربعة أشهر، فإذا مضت أر بعة أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين، وهذا - والله أعلم - يقوى اختصاص مدة الإِيلاء بأربعة أشهر".
وعلى أية حال فإن الطبائع تختلف فى مثل هذه الأمور، والأربعة الأشهر مدة كافية ليختبر الرجل نفسه وميوله، فإما أن يعود إلى معاشرة زوجه بالطريقة التى شرعها الله، وإما أن تعاد إلى الزوجة حريتها بالطلاق، ليبدأ كلاهما حياة زوجية جديدة مع شخص آخر. فذلك أكرم للزوجة وأعف وأصون، وأنفع للرجل كذلك وأشرف. وقد اختار الله هذه المدة وهو الأعلم بحكمة اختياره فعلينا أن نتقبل ما شرعه لنا طائعين خاشعين.
هذا وجمهور - العلماء على أن الطلاق لا يقع بانتهاء هذه المدة، وإنما بانتهائها يأمره الحاكم بالفيئة، فإن تقبل أمر الحاكم بالرضا أمهله مدة يمكنه الفيئة فيها، وإن لم يتقبله بالرضا أمره بالطلاق، فإن طلق فبها وإلا طلقها الحاكم منه.
وعليه فإن الفاء فى قوله تعالى: { فَإِنْ فَآءُو } لترتيب الحكم الذى يحصل بعد مدة التربص.
وقال الأحناف إن الطلاق يقع بمجرد انتهاء هذه المدة وهى الأربعة الأشهر، والرجوع إنما يكون خلالها فلا زيادة فوقها، ويكفى فى مراجعته لنفسه تلك المدة، وما دام لم يرجع إلى معاشرة امرأته خلالها فقد آثر فراقها، ولا يصح أن نعطيه أية مهلة من الوقت بعدها. وعليه تكون الفاء عندهم للتفصيل، أى تفصيل ما يحصل من الزوج فى هذه المدة.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد نهت المسلم عن اتخاذ الحلف بالله حاجزاً بينه وبين فعل الخير، وأمرته بأن يحفظ لسانه عن الإِكثار من الحلف بالله فى الأمور الصغيرة والكبيرة، وحذرته من تعمد الأيمان الكاذبة التى تؤدى إلى غضب الله - تعالى - لأن اليمين الكاذبة الفاجرة من كبائر الذنوب، وحذرته كذلك من أن يهجر زوجته بقصد إيذائها والإِضرار بها، لأن الحياة الزوجية يجب أن تقوم على المودة والرحمة، وأرشدته إلى أن أقصى مدة لهجر الزوجة بقصد تأديبها وعلاج أعوجاجها هى أربعة أشهر يراجع فيها نفسه، فإما أن يعود اليها ويكفر عن يمينه، وإما أن يقع بينهما الفراق
{ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } وبهذه الأحكام السامية يكون الإِسلام قد شرع للرجل والمرأة ما ينفعهما ويصون كرامتهما، ويحفظ لهما حريتهما وحسن استمتاعهما بالحياة.
ثم ساقت السورة فى خمس آيات أحكام الطلاق، وفصلت أحواله، وبينت مراته، وذكرت ما ينبغى أن يكون عليه من عدل وتسامح حتى لا يقع ظلم أو جور على أحد الزوجين. استمع إلى القرآن الكريم وهو يبين ذلك بأسلوبه الحكيم المؤثر فيقول:
{ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ وَلاَ يَحِلُّ... يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }.