التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٤٨
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٢٤٩
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

التابوت: "يوزن فعلوت - من التوب وهو الرجوع، وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كجبروت، والمراد به صندوق التوراة وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم. وكان عهدهم به قد طال فذكرهم بمآثره ترغيباً فيه وحملا على الانقياد لطالوت".
والسكينة: من السكون وهو ثبوت الشىء بعد التحرك: أو من السكن - بالتحريك - وهو كل شىء سكنت إليه النفس وهدأت.
والمعنى: وقال لهم نبيهم ليقنعهم بأن طالوت جدير بالملك { إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ } أى علامة ملكه وأنه من الله - تعالى - { أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ } أى أن يرد عليكم التابوت الذى سلب منكم { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أى فى إتيانه سكون لنفوسكم وطمأنينة لها أو مودع فيه ما تسكنون إليه وهو التوراة { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ } من آثار تعتزون بها، وترون فيها صلة بين ماضيكم وحاضركم وقوله { تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } حال من التابوت.
قال صاحب الكشاف: قوله: { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ } هى رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشىء من التوراة. وكان رفعه الله - تعالى - بعد موسى - عليه السلام - فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه، فكان ذلك آية لاصطفائه لطالوت. فإن قلت: من هم (آل موسى وآل هارون). قلت: الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما، ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما.
وقال ابن كثير: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدى طالوت والناس ينظرون.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { إِنَّ فى ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أى: إن فى ذلك الذى أتاكم به طالوت الآية عظيمة وعلامة ظاهرة لكم تدل على أحقية طالوت بالملك والقيادة إن كنتم مؤمنين بآيات الله وبالحق الذى جاء به أنبياؤه.
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد حكى لنا أن هؤلاء القوم من بنى إسرائيل قد جاءهم نبيهم بأنصع الحجج، وأوضح الأدلة، وأثبت البراهين التى تؤيده فيما يدعوهم إليه.
ثم بين - سبحانه - ما دار بين طالوت وجنوده فقال: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ }.
{ فَصَلَ } بمعنى الفصل. قال الزمخشرى: "فصل عن موضع كذا: إذا انفصل عنه وجاوزه. وأصله فصل نفسه. ثم كثر: حذف المفعول حتى صار فى حكم غير المتعدى كانفصل. وقيل: فصل عن البلد فصولا. ويجوز أن يكون فصله فصلا، وفصل فصولا كوقف وصد ونحوهما والمعنى انفصل عن بلده."
و (النهر) بالفتح والسكون -: المجرى الواسع الذى يجرى فيه الماء مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها.
أى: فلما انفصل بهم عن المكان الذى كانوا يقيمون فيه، وتوجهوا معه لقتال جالوت وجنوده، قال لهم { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } أى مختبركم وممتحنكم بنهر، وكان طالوت قد سار بهم فى أرض قفرة فأصابهم عطش شديد. وفى هذا الابتلاء اختبار لعزيمتهم، وامتحان لصبرهم على المتاعب حتى يتميز من يصير على الحرب ممن لا يصبر، ومن شأن القواد الأقوياء العقلاء أنهم يختبرون جنودهم قبل اقتحام المعارك حتى يكونوا على بينة من أمرهم. ثم بين لهم موضع الاختبار فقال. { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ }.
{ يَطْعَمْهُ } أى يذقه من طعم الشىء يطعمه إذا ذاقه مأكولا أو مشروباً.
{ غُرْفَةً } - بالضم - اسم للشىء المغترف وجمعه غراف. وأما الغرفة - بالفتح - فهى اسم للمرة الواحدة من الغرف وقيل: هما لغتان بمعنى واحد.
أى قال لهم طالوت: من شرب من هذا النهر فليس من شيعتى، فعليه أن يتركنى ولا يصاحبنى فى خوض هذه المعركة لأنه ثبت ضعفه وخوره، ومن لم يذقه أصلا فإنه من شيعتى وحزبى الذى سيكون معى فى هذه المعركة الخطيرة. ثم أباح لهم أن يغترفوا من النهر غرفة يخففون بها من عطشهم فقال: { إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } فإنه لا يخرج بذل عن كونه منى.
وفى هذه الجملة الكريمة قدم - سبحانه - جواب الشرط على الاستثناء من الشرط فقد قال { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } والتأليف المعهود للناس أن يقال: (ومن لم يطعمه إلا من اغترف بيده فإنه منى) ولكن الآية الكريمة جاءت بتقديم الجواب على الاستثناء لحكمة بليغة، وهى المسارعة إلى بيان الحكم، وإثبات أن أساس الصلة التى تربطهم بنبيهم أن يمتثلوا أمره وألا يشربوا من النهر، ثم رخص لهم بعد ذلك فى الاغتراف باليد غرفة واحدة.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى فقال: فإن قلت: مم استثنى قوله { إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ } قلت: من قوله: { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } والجملة الثانية فى حكم المتأخرة إلا أنها قدمت للعناية.. ومعناه: الرخصة فى اغتراف الغرفة باليد دون الكروع".
ثم ختم - سبحانه - ما كان من بنى إسرائيل نتيجة لهذا الامتحان فقال: { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }.
أى: فشربوا من النهر حتى امتلأت بطونهم مخالفين بذلك أمر قائدهم فى وقت تعظم فيه المخالفة لأنه وقت إقدام على الحرب، إلا عدداً قليلا منهم فإنهم لم يشربوا إلا كما رخص لهم قائدهم. وعلى هذا التفسير - الذى قال به جمهور المفسرين - يكون جميع الذين مع طالوت قد شربوا من النهر إلا أن كثيراً منهم قد شربوا حتى امتلأت بطونهم مخالفين أمر قائدهم، وقلة منهم شربت غرفة واحدة وهى التى رخص لهم قائدهم فى شربها.
وبعض المفسرين يقسم اتباع طالوت ثلاثة أقسام:
قسم شرب كثيراً مخالفاً أمر طالوت.
وقسم شرب غرفة واحدة بيده كما رخص له قائده.
وقسم لم يشرب أصلا لا قليلاً ولا كثيراً مؤثراً العزيمة على الرخصة وهذا القسم هو الذى اعتمد عليه طالوت اعتماداً كبيراً فى تناوله لأعدائه.
وممن ذكر هذا التقسيم من المفسرين الإِمام القرطبى فقد قال: "قال ابن عباس: شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وبقى بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً، وأخذ بعضهم الغرفة، فأما من شرب فلم يرو بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله وكان أجلد ممن أخذ الغرفة".
ثم بين - سبحانه - ما كان من أتباع طالوت بعد اجتيازهم للنهر معه فقال: { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِه }.
أى: فلما جاوز طالوت ومن معه النهر وتخطوه، وشاهدوا كثرة جند جالوت، قال بعض الذين مع طالوت لبعض بقلق ووجل: لا قدرة لنا اليوم على محاربة أعدائنا ومقاومتهم فهم أكثر منا عَدداً، وأوفر عُددا.
والضمير { هُوَ } فى قوله: { هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } مؤكد للضمير المستكن فى جاوز. والقائلون، هذا القول هم بعض المؤمنين الذين عبروا معه النهر، ولم يقولوا ذلك هروباً أو نكوصاً عن القتال، وإنما قالوه كمظهر من مظاهر الوجل الذى يعترى بعض النفوس عند الاستعداد للقتال، لأن الذين عصوا الله وخالفوا طالوت بشربهم من النهر جبنوا عن لقاء العدو ولم يسيروا معه لقتالهم. أما المؤمنون الصادقون الذين اتصلت قلوبهم بالله، والذين أذعنوا أنه لا نصر إلا منه ولا اعتماد إلا عليه، فقد حكى القرآن موقفهم المشرف فقال: { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }.
أى: قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله يوم القيامة فيحاسبهم على أعمالهم. قالوا مشجعين لإِخوانهم الذين تهيبوا قتال أعدائهم: كم من جماعة قليلة بإيمانها وصبرها تغلبت بإذن الله وتيسيره على جماعة كثيرة بسبب كفرها وجبنها وتفككها، والله - تعالى - بعونه وتأييده مع الصابرين.
وعلى هذا التفسير يكون المراد بلقاء الله الحشر إليه بعد الموت، ومجازاة الناس على ما قدموا من عمل، ويكون المراد بالظن اليقين لأن كل مؤمن متيقن بأن البعث حق.
ويجوز أن يكون المراد بلقاء الله قربهم من رضاه يوم القيامة، وإثابتهم على جهادهم بالجنة، وعليه يكون الظن على معناه الحقيقى وهو الاعتقاد الراجح، لأن خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون سوى علام الغيوب.
و { كَم } فى قولهم { كَم مِّن فِئَةٍ } خبرية للتكثير، وفى هذا التعبير الذى حكاه القرآن عنهم دليل على قوة إيمانهم وصفاء نفوسهم وثقتهم فى نصر الله ثقة لا تحد، لأنهم أتوا بصيغة التكثير حتى لكأنما أن القاعدة العامة هى انتصار الفئة القليلة على الفئة الكثيرة الكافرة.
وفى تعليقهم النصر على إذن الله للإِشعار بأنهم لم يعتمدوا على قوتهم وثباتهم وشجاعتهم فحسب وإنما جعلوا اعتمادهم الأكبر على تأييد الله لهم. وهذا شأن العقلاء يبذلون أقصى جهدهم فى بلوغ غايتهم مستعينين على ذلك بتأييد الله وتوفيقه.
ورحم الله الإِمام القرطبى الذى عاصر دول الإِسلام فى الأندلس وهى تسير فى طريق الضعف والتدهور فقد قال فى ختام تفسيره لهذه الآية: قلت: هكذا يجب علينا أن نفعل؟ لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة، منعت من ذلك حتى انكسر العدد الكبير منا أمام اليسير من العدو وكما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا! وفى البخارى: وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم. وفى البخارى - أيضاً - أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة!! قال - تعالى -: { ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } وقال: { وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا } وقال: { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } وقال: { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } وقال: { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } فهذه أسباب النصر وشروطه وهى معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا".
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله المؤمنون الصادقون عندما برزوا للقاء أعدائهم فقال:
{ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ...وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }.