التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الإِشارة بتلك فى قوله: { تِلْكَ ٱلرُّسُل } إلى جماعة الرسل الذين تقدم ذكرهم فى السورة والذين أرسلهم الله - تعالى - لهداية البشر، وأمرنا - سبحانه - بالإِيمان بهم.
أى أولئك الرسل الذين أرسلناهم لهداية الناس { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } أى جعلنا لبعضهم مناقب وخصائص ومزايا لم تتوافر للبعض الآخر.
و{ تِلْكَ } مبتدأ و{ ٱلرُّسُلُ } عطف بيان لتلك. وجملة { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } هى الخبر. وكانت الإِشارة باللفظ الدال على البعيد، لبيان سمو مكانة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأنهم هم المصطفون الأخيار.
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر التفضيل فقال: { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } أى منهم من فضله الله بتكليمه إياه كموسى - عليه السلام - فقد وردت آيات صريحه فى ذلك، منها قوله - تعالى -:
{ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } وقوله - تعالى -: { قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } وقوله - تعالى - { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ثم قال - سبحانه -: { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } أى: ومنهم من رفعه الله على غيره من الرسل مراتب سامية ومنازل عالية.
قيل كإبراهيم الذى اتخذه الله خليلا، وإدريس الذى رفعه الله مكاناً علياً، وداود الذى آتاه الله النبوة والملك.
والذى عليه المحققون من العلماء والمفسرين أن المقصود بقوله - تعالى - { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو صاحب الدرجات الرفيعة والمعجزة الخالدة الباقية إلى يوم القيامة والرسالة العامة الناسخة لكل الرسالات قبلها.
وقد صرح صاحب الكشاف بذلك فقال: قوله { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } أى ومنهم من رفعه الله على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم فى الفضل أفضل منهم درجات كثيرة. الظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتى ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. لو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفاً على سائر ما أوتى الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفى هذا الإِبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذى لا يشتبه، والمتميز الذى لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم، يريد به الذى تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال فيكون أفخم من التصريح، وسئل الخطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسى أو يفخم أمره.
ثم قال - تعالى -: { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }.
{ ٱلْبَيِّنَاتِ }: هى المعجزات الظاهرة البينة. وروح القدس: هو جبريل - عليه السلام - والروح هنا بمعنى الملك الخاص. القدس أصل معناه الطهارة، وهو يطلق على الطهارة المعنوية وعلى الخلوص والنزاهة. فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة. قيل القدس اسم الله كالقدوس فإضافة روح إضافة للتشريف أى روح من ملائكة الله.
والمعنى: وأعطينا عيسى بن مريم الآيات الباهرات، والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وإخبار قومه بما يأكلونه ويدخرونه فى بيتهم، وفضلا عن هذا فقد قويناه بجبريل - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام - قد عاش حياته محاربا من أعدائه الرومان ومن قومه الذين أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل ولم يؤذن له بالقتال ليدافع عن نفسه بل تولى الله - تعالى - الدفاع عنه بجنده الذين من بينهم جبريل - عليه السلام -.
قال الزمخشرى: "فإن قلت لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات. لما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر فى باب التفضيل. هذا دليل بين على أن من زيد تفضيلا بالآيات منها فقد فضل على غيره. ولما كا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذى أوتى منها ما لم يؤت أحد فى كثرتها وعظمها كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع".
وقال الإِمام القرطبى ما ملخصه: هذه الآية نثبت التفاضل بين الأنبياء وهناك أحاديث تقول:
"لا تخيرونى على موسى" و "لا تخيروا بين الأنبياء" و "لا تفضلوا بين الأنبياء" أى لا تقولوا فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان فكيف الجمع؟ فالجواب أن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل أو أن قوله هذا من باب الهضم والتواضع. أو المراد النهى عن الخوض فى ذلك لأن الخوض فى ذلك ذريعة إلى الجدال والجدال قد يؤدى إلى أن يذكر بعضهم بما لا ينبغى أن يذكر به، وقد يؤدى إلى قلة احترامهم. ثم قال. وأحسن من هذا القول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التى هى خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل فى زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات، وأما النبوة فى نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخرى زائدة عليها، ولذلك فهم رسل، وأولو عزم، ومنهم من كلمه الله.. فالقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل، وأعطى من الوسائل. وبذلك نكون قد جمعنا بين الآية والأحاديث من غير النسخ.
ثم قال - تعالى -: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ }.
أى: ولو شاء الله - تعالى - ألا يقتتل الذين جاؤا بعد كل رسول من الرسول وبعد أن جاءهم الرسل بالبينات الدالة على الحق، لو شاء الله ذلك لفعل، ولكن الله - تعالى - لم يشأ ذلك، لأنه خلق الناس مختلفين فى تقبلهم للحق، فترتب على هذا الاختلاف أن آمن بالحق الذى جاءت به الرسل من فتح له قلبه، واتجه إليه اختياره، وأن كفر به من آثر الضلالة على الهداية واستحب العمى على الهدى، وترتب عليه - أيضاً أن تقاتل الناس وتحاربوا.
ومفعول المشيئة محذوف دل عليه جواب الشرط أى لو شاء الله ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا.
وقدم - سبحانه - المسبب وهو الاقتتال على السبب وهو الاختلاف كما يشهد له قوله: { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ... } للتنبيه على سوء مغبة الاختلاف، وللتحذير من الوقوع فيه، لأن وقوعهم فيه سيؤدى إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، وللإِشارة إلى أنه - سبحانه - قادر على إزالة الاقتتال فى ذاته حتى مع وجود أسبابه، لأنه - تعالى - هو الخالق للأسباب والمسببات.
وفى قوله: { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } إشارة إلى ما جبلت عليه بعض النفوس من العناد الذى يؤدى إلى التنازع والاختلاف والتقاتل حتى بعد ظهور الحق، وانكشاف وجه الصواب، لأن هذه النفوس قد آثرت الهوى على الرشاد، واتخذت طريق الغى طريقاً لها. وفى قوله: { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ... } إشارة إلى أنه - سبحانه - لم يشأ أن يزيل القتال الذى حدث بين المقاتلين، لأن هذا القتال قد نشأ بينهم بسبب اختلافهم، وسوء اختيارهم، وعدم استجابتهم للهدايات والتوجيهات والبينات التى جاءتهم بها الرسل - عليهم السلام -.
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد } أى: لو شاء الله عدم اقتتالهم لأى سبب من الأسباب لما اقتتلوا، ولكنه - سبحانه - يفعل ما يريد حسب ما تقتضيه حكمته، وترتضيه مشيئته، فهو الكبير المتعال الذى كل شىء عنده بمقدار فالآية الكريمة تبين أن الرسل - عليهم السلام - يتفاضلون فيما بينهم، وتنهى الناس فى كل زمان ومكان عن الاختلاف والتنازع لأنهما يؤديان إلى أوخم العواقب، وأسوأ النتائج.
ثم وجه القرآن نداء إلى المؤمنين أمرهم فيه ببذل أموالهم فى سبيل الدفاع عن الحق، حتى يكونوا أهلا لرضا الله ومثوبته.
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ... }.