التفاسير

< >
عرض

قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ
٢٦٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦٤
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

المعنى: { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } بأن تقول للسائل كلاما جميلا طيبا تجبر به خاطره، ويحفظ له كرامته "ومغفرة" لما وقع منه من إلحاف فى السؤال، وستر لحاله وصفح عنه، { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } أى خير من صدقة يتبعها المتصدق أذى للمتصدق عليه.
لأن الكلمة الطيبة للسائل، والعفو عنه فيما صدر منه، كل ذلك يؤدى إلى رفع الدرجات عند الله، وإلى تهذيب النفوس، وتأليف القلوب وحفظ كرامة أولئك الذين مدوا أيديهم بالسؤال. أما الصدقة التى يتبعها الأذى فإن إيتاءها بتلك الطريقة يؤدى إلى ذهاب ثوابها، وإلى زيادة الآلام عند السائلين ولا سيما الذين يحرصون على حفظ كرامتهم، وعلى صيانة ماء وجوههم، فإن ألم الحرمان عند بعض الناس أقل أثرا فى نفوسهم من آلام الصدقة المصحوبة بالأذى، لأن ألم الحرمان يخففه الصبر الذى وراءه الفرج، أما آلام الصدقة المصحوبة بالأذى لهم فإنها تصيب النفوس الكريمة بالجراح التى من العسير التئامها وشفاؤها.
قال القرطبى: روى مسلم فى صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق" . فعلى المسئول أن يتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب ليكون مشكورا إن أعطى ومعذوراً إن منع. وقد قال بعض الحكماء: الق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره".
وقوله: { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لوصفها وللعطف عليها. وقوله: { وَمَغْفِرَةٌ } عطف عليه وسوغ الابتداء بها العطف أو الصفة المقدرة إذ التقدير ومغفرة للسائل أو من الله وقوله: { خَيْرٌ } خبر عنهما وقوله { يَتْبَعُهَآ أَذًى } فى محل جر صفة لصدقة.
ثم ختم الله - تعالى - الآية بقوله: { وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيم } أى والله - تعالى - غنى عن إنفاق المنفقين وصدقات المتصدقين. وإنما أمرهم بهما لمصلحة تعود عليهم. أو غنى عن الصدقة المصحوبة بالأذى فلا يقبلها. { حَلِيم } فلا يعجل بالعقوبة على مستحقها، فهو - سبحانه - يمهل ولا يهمل.
والجملة الكريمة تذييل لما قبله مشتملة على الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب.
وقوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } نداء منه - سبحانه - للمؤمنين يكرر فيه نهيهم عن المن والأذى، لأنهما يؤديان إلى ذهاب الأجر من الله - تعالى - وإلى عدم الشكر من الناس ولذا جاء فى الحديث الشريف:
"إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويحق الأجر" .
ثم أكد - سبحانه - هذا النهى عن المن والأذى بذكر مثلين فقال فى أولهما: { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }.
والمعنى: يا من آمنتم بالله - تعالى - لا تبطلوا صدقاتكم بأن تحبطوا أجرها، وتمحقوا ثمارها، بسبب المن والأذى، فيكون مثلكم فى هذا الإِبطال لصدقاتكم بسبب ما ارتكبتم من آثام، كمثل المنافق الذى ينفق ماله من أجل أن يرى الناس منه ذلك ولا يبغى به رضاء الله ولا ثواب الآخرة، لأنه كفر بالله، وكفر بحساب الآخرة.
وفى هذا التشبيه تنفير شديد من المن والأذى لأنه - سبحانه - شبه حال المتصدق المتصف بهما فى إبطال عمله بسببهما بحال هذا المنافق المرائى الذى لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
وقوله: { كَٱلَّذِي } الكاف فى محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أى: لا تبطلوها إبطالا كابطال الذى ينفق ماله رئاء الناس... أو فى محل نصب على الحال من فاعل { تُبْطِلُواْ } أى لا تبطلوها مشابهين الذى ينفق ماله رئاء الناس.
وقوله: { رِئَآءَ } منصوب على أنه مفعول لأجله أى: كالذى ينفق ماله من أجل رئاء الناس.
وأما المثال الثانى فقال - سبحانه -: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ }.
{ صَفْوَانٍ } اسم جنس جمعى واحد صفوانه كشجر وشجرة وهو الحجر الكبير الأملس، مأخوذ من الصفاء وهو خلوص الشىء مما يشوبه. يقال: يوم صفوان أى صافى الشمس. وقيل هو مفرد كحجر. و { الوابل } المطر الشديد. يقال: وبلت السماء تبل وبلا ووبولا. اشتد مطرها, و{ الصلد } هو الشىء الأجرد النقى من التراب الذى كان عليه. ومنه رأس أصلد إذا كان لا ينبت شعراً، والأصلد الأجرد الذى لا ينبت شيئاً مأخوذ من صلد يصلد صلدا فهو صلد.
والمعنى: يأيها المؤمنون لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل المنافق الذى ينفق ماله من أجل الرياء لا من أجل رضا الله، وإن مثل هذا المنافق فى انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياء وحباً للظهور كمثل حجر أملس لا ينبت شيئاً ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب، فانكشف حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد لا يصلح لإِنبات أى شىء عليه.
فالتشبيه فى الجملة الكريمة بين الذى ينفق ماله رياء وبين الحجر الكبير الأملس الذى عليه قد رقيق من التراب ستر حاله، ثم ينزل المطر فيزيل التراب وتنكشف حقيقته ويراه الرائى عارياً من أى شىء يستره. وكذلك المنافق المرائى فى إنفاقه يتظاهر بمظهر السخاء أمام الناس ثم لا يلبث أن ينكشف أمره لأن ثوب الرياء يشف دائماً عما تحته، وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه.
ومن المفسرين من يرى أن التشبيه فى الجملة الكريمة بين المنفق الذى يبطل صدقته بالمن والأذى وبين الحجر الأملس، وأن الضمير فى قوله: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } يعود إلى هذا المبطل لصدقته بالمن والأذى. فيكون المعنى: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل الحجر الأملس الذى عليه تراب كان يرجى أن يكون منبتاً للزرع فنزل المطر فأزال التراب فبطل إنتاجه، فالمن والأذى يبطلان الصدقات ويزيلان أثرها النافع، كما يزيل المطر التراب الذى يؤمل منه الإِنبات من فوق الحجر الأملس.
والذى نراه أن عودة الضمير فى قوله: { فَمَثَلُهُ } على الذى ينفق ماله رثاء الناس أظهر لأنه أقرب مذكور، ولأن التشبيه فى قوله: { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } قد جاء بلفظ المفرد وهو المناسب للذى ينفق ماله رئاء الناس لأنه مفرد مثله، بخلاف قوله: { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } فإن الضمير فيه بلفظ الجمع، فمن الأولى أن يعود الضمير فى قوله: { فَمَثَلُهُ } إلى المرائى لتوافقهما فى الأفراد.
ثم قال - تعالى -: { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أى أن الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى، والذين يتصدقون رياء ومفاخرة لا يقدرون على تحصيل شىء من ثواب ما عملوا لأن ما صاحب أعمالهم من رياء ومن أذى محق بركتها، وأذهب ثمرتها، وأزال ثوابها.
أو المعنى: أن أولئك المنانين والمرائين ليس عندهم قدرة على شىء من المال الذى بين أيديهم وإنما هذا المال ملك لله وهو - سبحانه - الذى أنعم به عليهم، فعليهم أن يشكروه على هذه النعمة، وأن ينفقوه بدون من أو أذى أو مراءاة، حتى يظفروا بحسن المثوبة منه - سبحانه -.
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } أى لا يهديهم إلى ما ينفعهم لأنهم آثروا الكفر على الإِيمان.
والجملة الكريمة تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفيها إشارة إلى أن الإِنفاق المصحوب بالمن والأذى والرياء ليس من صفات المؤمنين وإنما هو من صفات الكافرين، فعلى المؤمنين أن يجتنبوا هذه الصفات التى لا تليق بهم.
والذى ينظر فى هذه الآيات الكريمة يرى أن الله - تعالى - قد حذر المنفقين من المن والأذى فى ثلاث آيات متواليات، كما حذرهم من الرياء، وساق أكثر من تشبيه لتقبيح الصدقات التى لا تكون خالصة لوجه الله فلماذا كل هذا التشديد فى النهى؟
والجواب عن ذلك: أن المن والأذى فى الإِنفاق كثيراً ما يحصلان بسبب استعلاء كاذب، أو رغبة فى إذلال المحتاج وإظهاره بمظهر الضعيف: وكلا الأمرين لا يليق بالنفس المؤمنة المخلصة، ولا يتلاقى مطلقاً مع الحكم التى من أجلها شرعت الصدقات بل إنه ليتنافر معها تننافراً تاماً لأن الصدقات شرعها الله لتهذيب النفوس وتطهير القلوب ولتربط بين الأغنياء والفقراء برباط المحبة والمودة والإِخاء، فإذا ما صاحبها المن والأذى أثمرت نقيض ما شرعت له، لأنها تثير فى نفس المعطى بسبب ذلك الكبر والخيلاء وغير ذلك من الصفات الذميمة، وتثير فى نفس الآخذ شعوراً بالحقد والانتقام ممن أعطاه ثم آذاه وبذلك تنقطع الروابط، ويتمزق المجتمع، وتتحول المحبة إلى عداوة.
ولقد تحدث الإِمام الرازى عن الآثار السيئة للمن والأذى فقال ما ملخصه:
وإنما كان المن مذموماً لوجوه:
الأول: أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة، فإذا أضاف المعطى إلى ذلك إظهار الإِنعام زاد ذلك فى انكسار قلبه فيكون فى حكم المضرة بعد المنفعة، وفى حكم المسىء إليه بعد أن أحسن إليه.
والثانى: أن إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة فى صدقته إذا اشتهر من طريق ذلك.
الثالث: أن المعطى يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله - تعالى - عليه - وأن يعتقد أن لله عليه نعما عظيمة حيث وفقه لهذا العمل ومتى كان الأمر كذلك امتنع عن أن يجعل ما ينفقه منه على الغير.
الرابع: أن المعطى فى الحقيقة هو الله، ومتى اعتقد العبد ذلك استنار قلبه، أما إذا اعتقد غير ذلك فإنه يكون فى درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول، وعن الآثار إلى المؤثر... وأما الأذى فيتناول كل ذلك وغيره مما يسئ إلى الفقير بأن يقول له: فرج الله عنى منك، وأنت أبدا تأتى بما يؤلم. إلخ.
هذا، وقد ساق الإِمام ابن كثير عدداً من الأحاديث الشريفة التى نهت عن المن والأذى ومن ذلك ما جاء فى صحيح مسلم عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وروى النسائى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا منّان" .
وبعد أن بين القرآن سوء عاقبة الذين يراءون فى صدقتهم، ويفسدون ثمارها بالمن والأذى، أتبع ذلك ببيان حسن عاقبة الذين ينفقون أموالهم ابتغاء رضا الله، فقال - تعالى:
{ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ... }.