التفاسير

< >
عرض

للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٨٤
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ما دام الأمر كذلك فعليكم - أيها المؤمنون - أن تبذلوا نهاية جهدكم فى العمل الصالح الذى بين أيديكم إنما هو عارية مستردة، وأن المالك الحقيقى له إنما هو الله رب العالمين، فأنفقوا من هذا المال - الذى هو أمانة بين أيديكم - فى وجوه الخير واجمعوه من طريق حلال، وكونوا من القوم العقلاء الصالحين الذين لم تشغلهم دنياهم عن أخراهم، بل كانوا كما قالوا: { رَبَّنَآ آتِنَا فى ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وفى ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } وقوله - سبحانه -: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ } بيان لشمول علم الله - تعالى - لما أظهره الإِنسان أو أخفاه من أقوال وأعمال، وأنه سيحاسبه على ذلك بما يستحقه من خير أو شر.
والجملة الكريمة صريحة فى أن الله - تعالى - يحاسب العباد على نياتهم وما تكسبه قلوبهم سواء أأخفوه أم أظهروه.
وقد بين المحققون من العلماء أن هذه المحاسبة إنما تكون على ما يعزم عليه الإِنسان وينويه ويصر على فعله، سواء أنفذ ما اعتزم عليه أم حالت دونه حوائل خارجة عن إرادته: كمن عزم على السرقة واتخذ الوسائل لذلك ولكن لم يستطع التنفيذ لأسباب لم يتمكن معها من السرقة التى أصر عليها.
أما الخواطر النفسية التى تجول فى النفس، وتعرض للإِنسان دون أن يعزم على تنفيذها، فإنها ليست موضع مؤاخذة، بل إن التغلب عليها، وكفها بعد مكافحتها يجعله أهلاً للثواب.
ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"قال الله - تعالى -: إذا هم عبدى بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشر" .
وروى الجماعة فى كتبهم عن أبى هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تجاوز لى عن أمتى ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم" .
قال الفخر الرازى: الخواطر الحاصلة فى القلب على قسمين: فمنها ما يوطن الإِنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله فى الوجود، ومنها مالا يكون كذلك، بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإِنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس.
فالقسم الأول يكون مؤاخذاً به.
والثانى لا يكون مؤاخذا به، ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } وقال الآلوسى: المؤاخذة على تصميم العزم على إيقاع المعصية فى الأعيان وهو من الكيفيات النفسانية التى تلحق بالملكات، وليس كذلك سائر ما يحدث فى النفس - أى من خواطر لا تصميم ولا عزم معها - قال بعضهم:

مراتب القصد خمس هاجس ذكروافخاطر فحديث النفس فاستمعا
يليه هم فعزم كلها رفعتسوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

وقوله - تعالى -: { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } بيان لنتيجة المحابة التى تكون من الخالق - عز وجل - لعباده.
أى: أنه - سبحانه - بمقتضى علمه الشامل، وإرادته النافذة، يحاسب عباده على ما أسروه وما أعلنوه من أقوال وأعمال، فيغفر بفضله لمن يشاء أو يغفر له، ويعذب بعدله من يشاء أن يعذبه، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه.
وقوله: { فيغفر } ويعذب، قرأه عاصم وابن عامر ويعقوب وأبو جعفر برفع الراء والباء على الاستئناف أى فهو يغفر. وقرأ الباقون بإسكانهما عطفاً على جواب الشرط وهو قوله: { يُحَاسِبْكُمْ }.
وقوله: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته - سبحانه - على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما سبق ذكره من المحاسبة لعباده، وإثابة من يشاء إثابته وتعذيب من يشاء تعذيبه، فهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير.
ثم ختم - سبحانه - سورة البقرة بآيتين كريمتين فى أولاهما أن رسالة النبى صلى الله عليه وسلم امتداد للرسالات السماوية السابقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها، وبين فى الثانية أنه - سبحانه - لم يكلف الناس إلا بما فى قدرتهم، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخلاص الدعاء. قال - تعالى -:
{ آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ... }.