التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَٰيَٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٥٨
فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
٥٩
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

القرية: هى البلدة المشتملة على مساكن، والمراد بها بيت المقدس على الراجح.
والرغد: الواسع من العيش الهنىء، الذى لا يتعب صاحبه، يقال: أرغد فلان: أصاب واسعاً من العيش الهنىء.
الحطة: من حط بمعنى وضع، وهى مصدر مراد به طلب حط الذنوب.
قال صاحب الكشاف: (حطة) فعله من الحط كالجلسة. وهى خبر مبتدأ محذوف، أى مسألتنا حطة، والأصل فيها النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات..).
والمعنى: اذكروا يا بنى إسرائيل - لتتعظوا وتعتبروا - وقت أن أمرنا أسلافكم بدخول بيت المقدس بعد خروجهم من التية، وأبحنالهم أن يأكلوا من خيراتها أكلا هنيئاً ذا سعة وقلنا لهم: ادخلوا من بابها راكعين شكراً لله على ما أنعم به عليكم من نعمة فتح الأرض المقدسة متوسلين إليه - سبحانه - بأن يحط عنكم ذنوبكم، فإن فعلتم ذلك العمل اليسير وقلتم هذا القول القليل غفرنا لكم ذنوبكم وكفرنا عنكم سيئاتكم، وزدنا المحسن منهم خيراً جزاء إحسانه، ولكنهم جحدوا نعم الله وخالفوا أوامره، فبدلوا بالقول الذى أمرهم الله به قولا آخر أتوابه به من عند أنفسهم على وجه العناد والاستهزاء، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون.
قال الإِمام ابن كثير -رحمه الله -: (وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع. بن نون - عليه السلام - وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب (باب البلد) سجداً أى شكراً الله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال).
وقوله تعالى: { فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها. حيث أذن لهم فى التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أى مكان شاءوا.
وقوله تعالى: { وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم نحو خالقهم من الشكر والخضوع، وتوجيههم إلى ما يعينهم على بلوغ غاياتهم. بأيسر الطرق وأسهل السبل، فكل ما كلفوا به أن يدخلوا من باب المدينة التى فتحها الله لهم خاضعين مخبتين وأن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم آثامهم، ويمحو سيئاتهم.
وقوله تعالى: { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } بيان للثمرة التى تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم، وإغراء لهم على الامتثال والشكر، - لو كانوا يعقلون - لأن غاية ما يتمناه العقلاء غفران الذنوب.
قال الإِمام ابن جرير: يعنى بقوله تعالى: { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها. وأصل الغفر: التغطية والستر، فكل ساتر شيئاً فهو غافر.. والخطايا: جمع خطية - بغير همز - كالمطايا جمع مطية..
وقوله تعالى: { وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } وعد بالزيادة من خيرى الدنيا والآخرة لمن أسلم لله وهو محسن، أى: من كان منكم محسناً زيد فى إحسانه ومن كان مخطئاً نغفر له خطيئاته.
وقد أمرهم - سبحانه - أن يدخلوا باب المدينة التى فتحوها خاضعين وأن يلتمسوا منه مغفرة خطاياهم، لأن تغلبهم على أعدائهم، ودخولهم الأرض المقدسة التى كتبها الله لهم، نعمة من أجل النعم، وهى تستدعى منهم أن يشكروا الله عليها بالقول والفعل لكى يزيدهم من فضله، فشأن الأخيار أن يقابلوا نعم الله بالشكر.
ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يظهر أقصى درجات الخضوع لله تعالى عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب، فعندما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العليا، وإنه لخاضع لربه، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكراً لله على نعمة الفتح، وبعد دخوله مكة اغتسل وصلى ثمانى ركعات سماها بعض الفقها صلاة الفتح.
ومن هنا استحب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثمانى ركعات عند دخولها شكراً لله - تعالى - وقد فعل ذلك سعد بن أبى وقاص عندما دخل إيوان كسرى، فقد ثبت أنه صلى بداخله ثمانى ركعات.
ولكن، ماذا كان من بنى إسرائيل بعد أن أتم الله لهم نعمة الفتح؟
إنهم لم يفعلوا ما أمروا بفعله، ولم يقولوا ما كلفوا بقوله، بل خالفوا ما أمروا به من قول وفعل، ولذا قال تعالى: { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ }.
أخرج البخارى عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"قيل لبنى إسرائيل: ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة فبدلوا ودخلوا يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة فى شعيرة" .
قال الإِمام ابن كثير: (وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق، أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا الباب سجداً، فدخلوا يزحفون على أستاهم رافعين رؤسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة، أى احطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزءوا وقالوا: حنطة فى شعيرة، وهذا فى غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة، ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وخروجهم عن طاعته).
فقوله تعالى: { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ } بيان للسبب الذى من أجله نزل عليهم العذاب، وتوبيخ لهم على مخالفتهم أوامر الله - تعالى -، لأن تبديل الشىء معناه تغييره وإزالته عما كان عليه بإعطائه صورة تخالف التى كان عليها.
والفعل (بدل) يقتضى بدلا ومبدلا منه، إلا أن مقام الإِيجاز فى الآية استدعى الاكتفاء بذكر البدل - وهو القول الذى لم يقل لهم - دون ذكر المبدل منه - وهو القول الذى قيل لهم - والتقدير: فاختار الذين ظلموا بالقول الذى أمرهم الله به، قولا آخر اخترعوه من عند أنفسهم على وجه المخالفة والعصيان.
قال صاحب الكشاف: { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ } أى: وضعوا مكان { حِطَّةٌ } قولا غيرها، يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر الله، وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه. وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل، بمعنى ما أمروا به لم يؤاخذوا به كما لو قالوا مكان حطة: نستغفرك ونتوب إليك. أو اللهم أعف عنا وما أشبه ذلك".
والعبرة التى تؤخذ من هذه الجملة الكريمة، أن من أمره الله - تعالى - بقول أو يفعل، فتركه وأتى بآخر لم يأذن به الله، ودخل فى زمرة الظالمين، وعرض نفسه لسوء المصير.
وقوله تعالى: { فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } تصريح بأن ما أصابهم من عذاب كان نتيجة عصيانهم وتمردهم وجحودهم لنعم الله - تعالى - والرجز فى لغة العرب: هو العذاب سواء أكان بالأمراض المختلفة أو بغيرها.
وفى النص على أن الرجز قد أناهم من جهة السماء إشعار بأنه عذاب لم يمكن دفعه وأنه لم يكن له سبب أرضى من عدوى أو نحوها، بل رمتهم به الملائكة من جهة السماء. فأصيب به الذين ظلموا دون غيرهم، ولم يقل القرآن "فأنزلنا عليهم" بالإِضمار، وإنما قال { فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } بالإِظهار، تأكيداً لوصفهم بأقبح النعوت وهو الظلم، وإشعاراً بأن ما نزل عليهم كان سبيه بغيهم وظلمهم.
وقد تضمنت الآيتان الكريمتان أن بنى إسرائيل مكنوا من النعمة فنفروا منها، وفتحت لهم أبواب الخير فأبوا دخولها، وأرشدوا إلى القول الذى يكفر سيئاتهم فخالفوا ما أرشدوا إليه مخالفة لا تقبل التأويل، فكانت نتيجة جحودهم ومخالفتهم لأمر الله حرمانهم من تلك النعمة التى حين، ومعاقبتهم لظلمهم بالعذاب الأليم، وفى هذا التذكير امتنان عليهم ببذل النعمة، لأن عدم قبولهم لها لا يمنع كونها نعمة، وفيه إثارة لحسرة اليهود المعاصرين للعهد النبوى على ما ضاع من أسلافهم بسبب مخالفتهم وتمردهم وفيه أيضاً تحذير لهم من سلوك طريق آبائهم حتى لا يصيبهم ما أصاب أسلافهم من عذاب أليم.
عاشراً: نعمة إغاثتهم بالماء بعد أن اشتد بهم العطش.
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بنعمة من أجل نعمه عليهم، وهى إغاثتهم فى التيه بالماء بعد أن اشتد بهم العطش، فقال تعالى:
{ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ... }.