التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
٨٨
-البقرة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

ففى هاتين الآيتين تذكير لبنى إسرائيل بضرب من النعم التى أمدهم الله بها ثم قابلوها بالكفر والإِجرام.
والمراد بالكتاب الذى أعطاه الله لموسى التوراة، فقد أنزلها عليه لهدايتهم ولكنهم حرفوها وبدلوها وخالفوا أوامره وأولوها تأويلا سقيما.
ومعنى { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } أردفنا وأرسلنا من بعد موسى رسلا كثيرين متتابعين، لإِرشاد بنى إسرائيل، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
يقال: قفا أثره يقفوه قفواً وقفواً، إذا تبعه. وقفى على أثره بفلان إذا أتبعه إياه. وقفيته زيداً وبه: أتبعته إياه. واشتقاقه من: قفوته إذا أتبعت قفاه، والقفا مؤخر العنق، ثم أطلق على كل تابع ولو بعد الزمن بينه وبين متبوعه.
والرسل: جمع رسول بمعنى مرسل، وقد أرسل الله - تعالى - رسلا بعد موسى - عليه السلام -: منهم: داود، وسليمان، وإلياس، واليسع، ويونس، وزكريا، ويحيى - عليهم الصلاة والسلام -.
فمن مظاهر نعم الله على بنى إسرائيل، أنه لم يكتف بإنزال الكتب لهدايتهم، وإنما أرسل فيهم بجانب ذلك رسلا متعددين، لكى يبشروهم وينذروهم، ولكن بنى إسرائيل قابلوا نعم الله بالجحود والكفران، فقد حرفوا كتب الله، وقتلوا بعض أنبيائه.
والمراد بالبينات فى قوله: { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ } الحجج والبراهين والآيات الدالة على صدقه وصحة نبوته، فتشمل كل معجزة أعطاها الله لعيسى كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، والإِخبار ببعض المغيبات، وغير ذلك من المعجزات التى أيد الله بها عيسى - عليه السلام -.
وخص القرآن عيسى بالذكر لكونه صاحب كتاب هو الإِنجيل، ولأن شرعه نسخ أحكاما من شريعة موسى - عليه السلام -.
وفى إضافة عيسى إلى أمه إبطال لما يزعمه اليهود من أن له أباً من البشر.
وقوله: { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } أى: قويناه مأخوذ من الأَيْدِ وهو القوة.
وروح القدس هو جبريل - عليه السلام -، قال - تعالى -:
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ... } والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أى: الروح المقدس. ووصف بالقدس لطهارته وبركته. وسمى روحاً لمشابهته الروح الحقيقى فى أن كلا منهما مادة لحياة البشر. فجبريل من حيث ما يحمل من الرسالة الإِلهية تحيا به القلوب. والروح تحيا به الأجسام.
أى: أننا أعطينا عيسى بن مريم الحجج الدالة على صدقه فى نبوته وقويناه على ذلك كله بوحينا الذى أوحيناه إليه عن طريق جبريل - عليه السلام -.
ثم وبخ الله اليهود على أفعالهم القبيحة فقال: { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }.
أى: أفكلما جاءكم يا بنى إسرائيل رسول بما لا تحبه أنفسكم الشريرة استكبرتم عن اتباعه والإِيمان به وأقبلتم على هؤلاء الرسل ففريقاً منهم كذبتم، وفريقاً آخر منهم تقتلونه غير مكتفين بالتكذيب:
وتهوى: من هوى إذا أحب "والهوى يكون فى الحق ويكون فى الباطل كما فى هذه الآية.
واستكبرتم: تكبرتم، والتكبر ينشأ عن الاعجاب بالنفس الذى هو أثر الجهل بها. وهو من الصفات التى متى تمكنت فى النفس أوردتها المهالك، وساقتها إلى سوء المصير.
وقدم تكذيبهم للرسل على قتلهم إياهم، لأن التكذيب أول ما يصدر عنهم من الشر.
وعبر فى جانب القتل بالفعل المضارع فقال: { تَقْتُلُونَ } ولم يقل قتلتم كما قال كذبتم، لأن الفعل المضارع كما هو المألوف فى أساليب البلاغة. يستعمل فى الأفعال الماضيه التى بلغت من الفظاعة مبلغاً عظيماً. ووجهه أن المتكلم يعمد بذلك الفعل القبيح كقتل الأنبياء، ويعبر عنه بالفعل المضارع الذى يدل بحسب وضعه على الفعل الواقع فى الحال. فكأنه أحضر صورة قتل الأنبياء أمام السامع، وجعله ينظر إليها بعينه، فيكون إنكاره لها أبلغ، واستفظاعه لها أعظم.
ثم حكى القرآن بعض الدعاوى الباطلة التى كان يدعيها اليهود فى العصر النبوى ورد عليها بما يدحضها فقال:
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أى: قال اليهود الذين كانوا فى العهد النبوى: قلوبنا يا محمد مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها. ومقصدهم من ذلك، إقناطه صلى الله عليه وسلم من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد.
والغلف: جمع أغلف، وهو الذى جعل له غلاف، ومنه قيل للقلب الذى لا يعى ولا يفهم، قلب أغلف، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف.
قال ابن كثير: وقرأ ابن عباس - بضم اللام - وهو جمع غلاف. أى: قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك.
وقد رد الله - تعالى - على كذبهم هذا بما يدحضه ويفضحه فقال:
{ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } أى: أن قلوبهم ليست غلفاً بحيث لا تصل إليها دعوة الحق بل هى متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق، ولكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء واستحبابهم العمى على الهدى.
والفاء فى قوله: { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها و{ مَّا } فى قوله { فَقَلِيلاً مَّا } لتأكيد معنى الفلة.
والمعنى أن الله لعنهم وكان هذا اللعن سبباً لقلة إيمانهم فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلا، وقلة الإِيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإِيمان به. وقد وصفهم الله - تعالى - فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى نوع آخر من رذائل اليهود، ويتجلى هذا النوع فى جحودهم الحق عن معرفة وعناد، وكراهتهم الخير لغيرهم يدافع الأنانية والحسد، وتحولهم إلى أناس يتميزون من الغيظ إذا ما رأوا نعمة تساق لغير أبناء ملتهم.
استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول:
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ...وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }.