التفاسير

< >
عرض

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ
١٧
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ
١٨
قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ
١٩
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ
٢٠
قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلأُولَىٰ
٢١
وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ آيَةً أُخْرَىٰ
٢٢
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ
٢٣
ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
٢٤
قَالَ رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي
٢٥
وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي
٢٦
وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي
٢٧
يَفْقَهُواْ قَوْلِي
٢٨
وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي
٢٩
هَارُونَ أَخِي
٣٠
ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي
٣١
وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي
٣٢
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً
٣٣
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً
٣٤
إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً
٣٥
-طه

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

الاستفهام فى قوله - تعالى -: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } للتقرير، لأن الله - تعالى - عالم بما فى يمين موسى، فالمقصود من هذا السؤال اعتراف موسى وإقراره بأن ما في يده إنما هى عصا فيزداد بعد ذلك يقينه بقدرة الله - تعالى - عندما يرى العصا التى بيمينه قد انقلبت حية تسعى.
قال صاحب الكشاف: إنما سأله - سبحانه - ليريه عظم ما يخترعه - عز وعلا - فى الخشبة اليابسة من قلبها حية نضاضة - أى تحرك لسانه فى فمها -، وليقرر فى نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه، والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة. ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد - أى قطعة من حديد - ويقول لك: ما هى؟ فتقول: زبرة حديد. ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك: هى تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة، وأنيق السرد...
والآية الكريمة: شروع فى بيان ما كلف الله - تعالى - به عبده موسى - عليه السلام - من الأمور المتعلقة بالخلق، إثر حكاية ما أمر - سبحانه - به موسى من إخلاص العبادة له، والإيمان بالساعة وما فيها من حساب وثواب وعقاب.
والمعنى: وأى شىء بيدك اليمنى يا موسى؟ فأجاب موسى بقوله - كما حكى القرآن عنه { قَالَ هِيَ عَصَايَ } أى: الشىء الذى بيمينى هو عصاى.. ونسبها إلى نفسه لزيادة التحقق والتثبت من أنها خاصة به وكائنة بيده اليمنى.
ثم بين وظيفتها فقال: { أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أى: أعتمد عليها لتساعدنى فى حال السير { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي } أى: وأضرب بها الشجر اليابس ليسقط، ورقة فترعاه أغنامى. يقال هش فلان الشجرة بالعصا - من باب رد - فهو يهشها هشا، إذا ضربها بعصاه أو بما يشبهها ليتساقط ورقها. ومفعول أهش محذوف. أى: وأهش بها الشجر والورق.
{ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } والمآرب: جمع مأربة - بتثليث الراء - بمعنى حاجة. تقول: لا أرَب لى في هذا الشىء، أى: لا حاجة لى فيه.
أى: ولى فى هذه العصا حاجات أخرى، ومنافع غير التى ذكرتها.
وقد كان يكفى موسى - عليه السلام - فى الجواب أن يقول: هى عصاى، ولكنه أضاف إلى ذلك أتوكأ عليها وأهش بها على غنمى .. لأن المقام يستدعى البسط والإطالة فى الكلام، إذ هو مقام حديث العبد مع خالقه، والحبيب مع حبيبه.
وأجمل فى قوله: { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } إما حياء من الله - تعالى - لطول الكلام فى الجواب، وإما رجاء أن يسأل عن هذه المآرب المجملة، فيجيب عنها بالتفصيل تلذذا فى الخطاب.
قال القرطبى: وفى هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل، لأنه لما قال: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } ذكر معانى أربعة وهى: إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا، والتوكؤ، والهش، والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه معظمها.
وفى الحديث: سئل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر فقال:
"هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت: "ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر" .
وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لقوله { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } وقد تكلف بعضهم لذكر شىء من تلك المآرب التى أبهمت، فقيل: كانت تضىء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظلله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة.
والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها ثعبانا، ولما فر منها هاربا، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية.
وقوله - سبحانه -: { قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ } جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله - تعالى - لموسى بعد ذلك؟.
فكان الجواب: قال - سبحانه - لموسى: اطرح يا موسى هذه العصا التى بيمينك لترى ما يكون بعد ذلك. { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ }.
أى: فامتثل موسى أمر ربه، فألقاها على الأرض، ونظر إليها فإذا هى قد تحولت بقدرة الله - تعالى - إلى "حية" - أى ثعبان عظيم - "تسعى"، أى: تمشى على الأرض بسرعة وخفة حركة ووصفها - سبحانه - هنا بأنها { حَيَّةٌ تَسْعَىٰ }، ووصفها فى سورة الشعراء بأنها
{ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } ووصفها فى سورة النمل بأنها { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } ولا تنافى بين هذه الأوصاف، لأن الحية اسم جنس يطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والثعبان: هو العظيم منها، والجان: هو الحية الصغيرة الجسم، السريعة الحركة.
وقد صرحت بعض الآيات أن موسى - عليه السلام - عندما رأى عصاه قد تحولت إلى ذلك، ولى مدبرا ولم يعقب. قال - تعالى:
{ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّىٰ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ.. } ولكن الله - تعالى - ثبت فؤاده، وطمأن نفسه: { قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } أى: خذ هذه الحية التى تحولت عصاك إليها ولا تخف منها، كما هو شأن فى الطبائع البشرية، فإنا { سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ } أى: سنعيد هذه الحية إلى هيئتها الأولى التى كانت عليها قبل أن تصير حية تسعى، وهى أن نعيدها بقدرتنا التى لا يعجزها شىء إلى عصا كما كانت من قبل.
فالجملة الكريمة مسوقة لتعليل وجوب الامتثال للأمر وعدم الخوف، أى: خذها ولا تخف منها، فإن هذه الحية سنرجعها عصا كما كانت من قبل.
وقوله - تعالى - { سِيَرتَهَا } فِعلة من السَّير، وهى الحالة والهيئة التى يكون عليها الإنسان، وهو منصوب بنزع الخافض. أى: سنعيدها إلى هيئتها وحالتها الأولى.
قالوا: ومن الحكم التى من أجلها حول الله - تعالى - العصا إلى حية تسعى: توطين قلب موسى - عليه السلام - على ذلك، حتى لا يضطرب إذا ما تحولت إلى ثعبان عظيم عندما يلقيها أمام فرعون وقومه.
فقد جرت عادة الإنسان أن يقل اضطرابه من الشىء العجيب الغريب بعد رؤيته له لأول مرة.
ثم وجه - سبحانه - أمرا آخر إلى عبده موسى فقال: { وَٱضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ آيَةً أُخْرَىٰ }.
والضم: الجمع. يقال: ضم فلان أصابعه إذا جمعها. والجناح، يطلق على العضد وعلى الجنب، وعلى الإبط. واصله جناح الطائر وسمى بذلك لأنه يجنحه، أى: يميله عند الطيران، ثم توسع فيه فأطلق على العضد وغيره.
والمراد باليد هنا: كف يده اليمنى.
والسوء: الردىء والقبيح من كل شىء، وكنى به هنا عن البرص لشدة قبحه.
والمعنى: واضمم - يا موسى - يدك اليمنى إلى عضد يدك اليسرى بأن تجعلها تحته عند الإبط. ثم أخرجها فإنها تخرج { بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } أى: تخرج منيرة مشرقة واضحة البياض دون أن يعلق بها أى سوء من برص أو مرض أو غيرهما، وإنما يكون بياضها بياضا مشرقا بقدرة الله - تعالى وإرادته.
قال الحسن البصرى: أخرجها - والله - كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقى ربه - تعالى -.
وقوله: { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ... } جواب الأمر وهو قوله: { وَٱضْمُمْ يَدَكَ }.
وقوله: { مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } احتراس لدفع توهم أن يكون بياضها بسبب مرض أو أذى، وهو متعلق بتخرج.
وقوله: { آيَةً أُخْرَىٰ } أى: معجزة أخرى غير معجزة العصا التى سبق أن منحناها لك.
كما قال - تعالى -: { وَٱضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ ٱلرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ }.
وقوله: { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ }، تعليل لمحذوف، أى: فعلنا ما فعلنا من إعطائك معجزة العصا ومعجزة اليد، لنريك بهاتين المعجزتين بعض معجزاتنا الكبرى، الدالة على عظيم قدرتنا، وانفرادنا بالربوبية والأولهية.
ثم صرح - سبحانه - بالمقصود من إعطاء موسى هاتين المعجزتين العظيمتين فقال: { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } أى: اذهب يا موسى ومعك هاتان المعجزتان، فادعه إلى عبادتى وحدى، ومره فليحسن إلى بنى إسرائيل ولا يعذبهم، وانهه عن التجبر والظلم، فإنه قد طغى وبغى وتجاوز حدود الحق والعدل، وزعم الناس أنه ربهم الأعلى.
وهنا التمس موسى - عليه السلام - العون من خالقه، لكى يتسنى له أداء ما كلفه به فقال: { رَبِّ ٱشْرَحْ لِي صَدْرِي } أى: أسألك يا إلهى أن توسع صدرى بنور الإيمان والنبوة، وأن تجعله يتقبل تكاليفك بسرور وارتياح.
{ وَيَسِّرْ لِيۤ أَمْرِي } أى: وسهل لى ما أمرتنى به، فإنك إن لم تحطنى بهذا التيسير، فلا طاقة لى بحمل أعباء هذه الرسالة.
قال صاحب الكشاف: "لما امره بالذهاب إلى فرعون الطاغى - لعنه الله - عرف أنه كلف أمرا عظيما، وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال مالا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره، ويفسح قلبه، ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى يرد عليه من الشدائد التى يذهب معها صبر الصابر.. وأن يسهل عليه فى الجملة أمره الذى هو خلافة الله فى أرضه، وما يصحبها من مزاولة معاظم الشئون، ومقاساة جلائل الخطوب..
وقوله: { وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي } دعاء ثالث تضرع به إلى خالقه - تعالى - أى: وأسألك يا رب أن تحل عقدة من لسانى حتى يفهم الناس قولى لهم، وحديثى معهم، فهما يتأتى منه المقصود، فمن للتبعيض، أى: واحلل عقده كائنة من عقده.
وقد روى أنه كان بلسانه حبسة، والأرجح أن هذا هو الذى عناه، ويؤيده قوله - تعالى - فى آية أخرى:
{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } قال ابن كثير: "ذلك لما كان أصابه من اللثغ، حين عرض عليه - فرعون - التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه .. وما سأل أن يزول ذلك بالكلية، بل حيث يزول العى، ويحصل لهم فَهْم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بقدر الحاجة، ولهذا بقيت بقية.
قال الحسن البصرى: سأل موسى ربه أن يحل عقدة واحدة من لسانه، ولو سأل أكثر من ذلك لأعطى.
وقوله - سبحانه -: { وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي } دعاء آخر تضرع به إلى ربه فى أمر خارجى عنه، بعد أن دعاه فى أمر يتعلق بصدره ولسانه.
وقوله: { وَزِيراً } من الموازرة وهى المعاونة. يقال: وازرت فلانا موازرة، إذا أعنته على أمره، أو من الوزر - بفتح الواو والزاى - وهو الملجأ الذى يعتصم به الإنسان لينجو من الهلاك.
أى: وأسألك - يا إلهى - أن تجعل لى "وزيرا" أى: معينا وظهيرا من أهلى فى إبلاغ رسالتك، وهذا الوزير المعين هو أخى هارون، الذى أسألك أن تقوى به ظهرى، وأن تجعله شريكا لى فى تبليغ رسالتك، حتى نؤديها على الوجه الأكمل، وكأن موسى - عليه السلام - قد علم من نفسه حدة الطبع، وسرعة الانفعال، فالتجأ إلى ربه لكى يعينه بأخيه هارون، ليقويه ويتشاور معه فى الأمر الجليل الذى هو مقدم عليه، وهو تبليغ رسالة الله إلى فرعون الذى طغى وبغى وقال لقومه أنا ربكم الأعلى.
قال ابن عباس: نبىء هارون ساعتئذ حين بنىء موسى.
وقوله: { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } تعليل للدعوات الصالحات التى تضرع بها موسى إلى ربه - تعالى -.
أى: أجب - يا إلهى - دعائى بأن تشرح صدرى.. وتشد بأخى هارون أزرى، كى نسبحك تسبيحا كثيرا، ونذكرك ذكرا كثيرا، إنك - سبحانك - كنت وما زلت بنا بصيرا، لا يخفى عليك شىء من أمرنا أو من أمر خلقك، فأنت المطلع على حالنا وعلى ضعفنا، وأنت العليم بحاجتنا إليك وإلى عونك ورعايتك.
بهذه الدعوات الخاشعات ابتهل موسى إلى ربه، وأطال الابتهال فى بسط حاجته، وكشف ضعفه.. فماذا كانت النتيجة؟
لقد كانت النتيجة أن أجاب الله له دعاءه، وحقق له مطالبه، وذكره ببعض مننه عليه فقال - تعالى -: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ... }.