التفاسير

< >
عرض

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ
٣٦
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ
٣٧
إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ
٣٨
أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ
٣٩
إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ
٤٠
وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
٤١
-طه

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - سبحانه -: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } حكاية لما رد الله - تعالى - به على نبيه موسى - عليه السلام - بعد أن تضرع إليه بتلك الدعوات النافعات.
والسؤال هنا بمعنى المسئول، كالأكل بمعنى المأكول.
قال الآلوسى: "والإيتاء: عبارة عن تعلق إرادته - تعالى - بوقوع تلك المطالب وحصولها له - عليه السلام - ألبتة، وتقديره - تعالى - إياها حتما، فكلها حاصلة له - عليه السلام - وإن كان وقوع بعضها بالفعل مرتبا بعد، كتيسير الأمر، وشد الأزر...
أى: قال الله - تعالى - لموسى بعد أن ابتهل إليه - سبحانه - بما ابتهل: لقد أجبنا دعاءك يا موسى، وأعطيناك ما سألتنا إياه، فطب نفسا وقر عينا.
وقوله - تعالى -: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } تذكير منه - سبحانه - لموسى، بجانب من النعم التى أنعم بها عليه، حتى يزداد ثباتا وثقة بوعد الله - تعالى - ولذا صدرت الجملة بالقسم.
أى: وبعزتى وجلالى لقد مننا عليك، وأحسنا إليك { مَرَّةً أُخْرَىٰ } قبل ذلك، ومنحناك من رعايتنا قبل أن تلتمس منا أن نشرح لك صدرك، وأن نيسر لك أمرك...
ثم فصل - سبحانه - هذه المنن التى امتن بها على عبده موسى، فذكر ثمانية منها: أما أول هذا المنن فتتمثل فى قوله - تعالى -: { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ }.
و { إِذْ } ظرف لقوله { مَنَنَّا } والإيحاء: الإعلام فى خفاء.. وإيحاء الله - تعالى - إلى أم موسى كان عن طريق الإلهام أو المنام أو غيرهما.
قال صاحب الكشاف: "الوحى إلى أم موسى: إما أن يكون على لسان نبى فى وقتها، كقوله - تعالى:
{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم. أو يريها ذلك فى المنام فتتنبه عليه أو يلهمها كقوله - تعالى -: { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } أى: أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه، ولا إلى العلم به، إلا بالوحى.
والمعنى: ولقد مننا عليك يا موسى مرة أخرى، وقت أن أوحينا إلى أمك بما أوحينا من أمر عظيم الشأن، يتعلق بنجاتك من بطش فرعون.
فالتعبير بالموصول فى قوله: { مَا يُوحَىٰ } للتعظيم والتهويل، كما فى قوله - تعالى -
{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } ثم وضح - سبحانه - ما أوحاه إلى أم موسى فقال: { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ.. }.
و { أَنِ } فى قوله { أَنِ ٱقْذِفِيهِ } مفسرة، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه.
والمراد بالقذف هنا: الوضع، والمراد به فى قوله { فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ } الإلقاء فى البحر وهو نيل مصر.
والتابوت: الصندوق الذى يوضع فيه الشىء.
والمعنى: لقد كان من رعايتنا لك يا موسى أن أوحينا إلى أمك عندما خافت عليك القتل: أن ضعى ابنك فى التابوت، ثم بعد ذلك اقذفيه بالتابوت فى البحر، وبأمرنا وقدرتنا يلقى اليم بالتابوت على شاطىء البحر وساحله، وفى هذه الحالة يأخذه عدو لى وعدو له، وهو فرعون الذى طغى وقال لقومه أنا ربكم الأعلى.
والضمائر كلها تعود إلى موسى - عليه السلام - وقيل إن الضمير فى قوله { فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ }.
وفى قوله { فَلْيُلْقِهِ } يعود إلى التابوت، والأول أرجح، لأن تفريق الضمائر هنا لا داعى له، بل الذى يقتضيه بلاغة القرآن الكريم، عودة الضمائر إلى موسى - عليه السلام -.
قال بعض العلماء: وصيغة الأمر فى قوله { فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ } فيها وجهان معروفان عند العلماء:
أحدهما: أن صيغة الأمر معناها الخبر: قال أبو حيان فى البحر: وقوله { فَلْيُلْقِهِ } أمر معناه الخبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها.
الثانى: أن صيغة الأمر فى قوله { فَلْيُلْقِهِ } أريد بها الأمر الكونى القدرى كقوله:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل، لأن الله - تعالى - أمره بذلك كونا وقدرا...
وقوله { يَأْخُذْهُ } مجزوم فى جواب الطلب وهو قوله { فَلْيُلْقِهِ... } إذ أنه على الوجه الأول يكون الطلب باعتبار لفظه وصيغته.
وقوله - سبحانه - { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } بيان للمنة الثانية.
قال الآلوسى: وكلمة "منى" متعلقة بمحذوف وقع صفة لمحذوف، مؤكدة لما فى تنكيرها من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. أى: وألقيت عليك محبة عظيمة كائنة منى - لا من غيرى - قد زرعتها فى القلوب، فكل من رآك أحبك.
ولقد كان من آثار هذه المحبة: عطف امرأة فرعون عليه، وطلبها منه عدم قتله، وطلبها منه كذلك أن يتخذه ولدا.
وكان من آثار هذه المحبة أن يعيش موسى فى صغره معززا مكرما فى بيت فرعون مع أنه فى المستقبل سيكون عدوا له.
وهكذا رعاية الله - تعالى - ومحبته لموسى جعلته يعيش بين قوة الشر والطغيان آمنا مطمئنا.
قال ابن عباس: أحب الله - تعالى - موسى، وحببه إلى خلقه.
وقوله - تعالى -: { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } بيان للمنة الثالثة...
أى: أوحيت إلى أمك بما أوحيت من أجل مصلحتك ومنفعتك وألقيت عليك محبة منى، ليحبك الناس، ولتصنع على عينى. أى: ولتربى وأنت محاط بالحنو والشفقة تحت رعايتى وعنايتى وعينى، كما يراعى الإنسان بعينه من يحبه ويهتم بأمره.
وهذا ما حدث لموسى فعلا، فقد عاش فى طفولته تحت عين فرعون، وهو عدو الله - تعالى - ومع ذلك لم تستطع عين فرعون أن تمتد بسوء إلى موسى، لأن عين الله - تعالى - كانت ترعاه وتحميه من بطش فرعون وشيعته.
فالجملة الكريمة فيها من الرفق بموسى - عليه السلام - ومن الرعاية له، ما يعجز القلم عن وصفه.
وكيف يستطيع القلم وصف حال إنسان قال الله فى شأنه: { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ }.
قال صاحب الكشاف: أى: ولتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الرجل الشىء بعينه إذا اعتنى به، وتقول للصانع؛ اصنع هذا على عينى إنى أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادى وبغيتى.
وقوله: { وَلِتُصْنَعَ } معطوف على علة مضمرة مثل: ليتعطف عليك.. أو حذف معلله أى: ولتصنع على عينى فعلت ذلك.
ثم بين - سبحانه - المنة الرابعة على موسى فقال: { إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ... }.
وكان ذلك بعد أن التقط آل فرعون موسى من فوق الشاطىء، وبعد أن امتنع عن الرضاعة من أى امرأة سوى أمه.
أى: وكان من مظاهر إلقاء محبتى عليك، ورعايتى لك، أن أختك بعد أن أمرتها أمك بمعرفة خبرك، سارت فى طرقات مصر فأبصرتك فى بيت فرعون وأنت تمتنع عن الرضاعة من أى امرأة، فقالت أختك لفرعون وامرأته { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ }.
أى: ألا تريدون أن أرشدكم إلى امرأة يقبل هذا الطفل الرضاعة منها، وتحفظه وترعاه، والفاء فى قوله: { فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ } هى الفصيحة. أى: التى تفصح عن كلام مقدر.
والمعنى: بعد أن قالت أختك لفرعون وامرأته: هل أدلكم على من يكفله. أجابوها بقولهم: دلينا عليها، فجاءت بأمك فرجعناك إليها كى تسر برجوعك، ويمتلىء قلبها فرحا بلقائها بك بعد أن ألقتك فى اليم، ولا تحزن بسبب فراقك عنها.
ثم حكى - سبحانه - المنة الخامسة فقال: { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ } وكان ذلك عندما استنصر به رجل من قومه على رجل من أعدائه.
أى: وقتلت نفسا هى نفس القبطى، عندما استعان بك عليه الإسرائيلى فنجيناك من الغم الذى نزل بك بسبب هذا القتل.
قال الآلوسى: وقد حل له هذا الغم من وجهين: خوف عقاب الله - تعالى - حيث لم يقع القتل بأمره - سبحانه - وخوف القصاص، وقد نجاه الله من ذلك بالمغفرة حين قال:
{ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَٱغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ } وبالمهاجرة إلى مدين.
والغم فى الأصل: ستر الشىء، ومنه الغمام لستره ضوء الشمس. ويقال: لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود...
وقوله - عز وجل -: { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } بيان للمنة السادسة التى امتن الله - تعالى - بها على موسى - عليه السلام -.
والفتون: جمع فَتْن كالظنون جمع ظن. والفتن: الاختبار والابتلاء تقول: فتنت الذهب بالنار، أى: أدخلته فيها لتعلم جودته من رداءته.
والمعنى: واختبرناك وابتليناك - يا موسى - بألوان من الفتن والمحن.
ونظم - سبحانه - هذا الفتن والاختبار فى سلك المنن، باعتبار أن الله - تعالى - ابتلاه بالفتن ثم نجاه منها، ونجاه من شرورها.
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية حديثا طويلا سماه بحديث الفتون، ذكر فيه قصة مولد موسى، وإلقائه فى اليم، وتربيته فى بيت فرعون، وقتله القبطى، وهروبه إلى مدين، وعودته منها إلى مصر. وتكليف الله - تعالى - له بالذهاب إلى فرعون، ودعوته إلى عبادة الله وحده..الخ.
وقوله - تعالى -: { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ } أى: فلبثت عشر سنين فى قرية أهل مدين، تعمل كأجير عند الرجل الصالح. ثم جئت بعد ذلك إلى المكان الذى ناديتك فيه { عَلَىٰ قَدَرٍ } أى على وفق الوقت الذى قدرناه لمجيئك، وحددناه لتكليمك واستنبائك، دون أن تتقدم أو تتأخر، لأن كل شىء عندنا محدد ومقدر بوقت لا يتخلف عنه.
قال - تعالى -:
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وقال - سبحانه -: { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وقال - عز وجل -: { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } ثم حكى - سبحانه - المنة الثامنة: فقال: { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } أى: وجعلتك محل صنيعتى وإحسانى، حيث اخترتك واصطفيتك لحمل رسالتى وتبليغها إلى فرعون وقومه، وإلى قومك بنى إسرائيل.
فالآية الكريمة تكريم عظيم لموسى - عليه السلام - اختاره الله - تعالى - واجتباه من بين خلقه لحمل رسالته إلى فرعون وبنى إسرائيل.
هذه ثمانى منن ساقها الله - تعالى - هنا مجملة، وقد ساقها - سبحانه - فى سورة القصص بصورة أكثر تفصيلا، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي ٱليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيۤ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ وَقَالَتِ ٱمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } وبعد أن ذكر - سبحانه - بعض المنن التى امتن بها على نبيه موسى - عليه السلام - أتبع ذلك بذكر بعض التوجيهات التى أمره بفعلها، حيث كلفه بتبليغ الدعوة إلى فرعون، فقال - تعالى -: { ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ... }.