الوسيط في تفسير القرآن الكريم
فقوله - تعالى -: { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ... } حكاية لما وجهه موسى - عليه السلام - من نصح وإنذار. قيل: كان عددهم اثنين وسبعين، وقيل: أكثر من ذلك.
قال الجمل: قوله { فَيُسْحِتَكُم } قرأ الأخوان وحفص عن عاصم فيسحتكم - بضم الياء وكسر الحاء -. وقرأ الباقون بفتحهما. فقراءة الأخوين من أسحت الرباعى، وهى لغة نجد وتميم، وقراءة الباقين من سحت الثلاثى - وبابه قطع - وهى لغة الحجازيين.
وأصل هذه المادة. الدلالة على الاستقصاء، والنفاد، ومنه سحت الحالق الشعر، أى: استقصاء فلم يترك منه شيئا، ويستعمل فى الإهلاك والإذهاب، ونصبه بإضمار أن فى جواب النهى.
أى: قال موسى - عليه السلام - للسحرة الذين التقى بهم وجها لوجه بعد أن حشدهم فرعون أمامه، فقال لهم: الويل والهلاك لكم، لا تفتروا على الله - تعالى - كذبا، بأن تقفوا فى وجهى، وتزعموا أن معجزاتى هى نوع من السحر. فإنكم لو فعلتم ذلك أهلككم الله - تعالى - وأبادكم بعذاب عظيم من عنده.
وجملة { وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } معترضة لتقرير وتأكيد ما قبلها.
أى: وقد خاب وخسر كل من قال على الله - تعالى - قولا باطلا لا حقيقة له، وفرعون أول المبطلين المفترين الخاسرين، فاحذروا أن تسيروا فى ركابه، أو أن تطيعوا له أمرا.
ويبدو أن هذه النصيحة الصادقة المخلصة كان لها أثرها الطيب فى نفوس بعض السحرة، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك { فَتَنَازَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } والنجوى: المسارة فى الحديث.
أى: وبعد أن سمع السحرة من موسى نصيحته لهم وتهديده إياهم بالاستئصال والهلاك. إذا ما استمروا فى ضلالهم، اختلفوا فيما بينهم، { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } أى: وبالغوا فى إخفاء ما يسارون به عن موسى وأخيه - عليهما السلام -.
فمنهم من قال - كما روى عن قتادة -: إن كان ما جاءنا به موسى سحرا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر.
ومنهم من قال بعد أن سمع كلام موسى: ما هذا بقول ساحر.
ومنهم من أخذ فى حض زملائه المترددين على منازلة موسى - عليه السلام -، لأنه جاء هو وأخوه لتغيير عقائد الناس ولاكتساب الجاه والسلطان، ولسلب المنافع التى تأتى لهم أى للسحرة عن طريق السحر..
ويبدو أن هذا الفريق الأخير هو الذى استطاع أن ينتصر على غيره من السحرة فى النهاية، بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك: { قَالُوۤاْ إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ }.
فهاتان الآيتان تشيران إلى خوف السحرة من موسى وهارون، وإلى أنهم بذلوا أقصى جهدهم فى تجميع صفوفهم، وفى تشجيع بعضهم لبعض، حتى لا يستلب موسى - عليه السلام - منهم جاههم وسلطانهم ومنافعهم...
أى: قال السحرة بعضهم لبعض بطريق التناجى والإسرار، ما استقر عليه رأيهم، من أن موسى وهارون ساحران { يُرِيدَانِ } عن طريق سحرهما أن يخرجا السحرة من أرضهم مصر: ليستوليا هما وأتباعهما عليهما.
ويريدان كذلك أن يذهبا بطريقتكم المثلى. أى بمذهبكم ودينكم الذى هو أمثل المذاهب وأفضلها، وبملككم الذى أنتم فيه، وبعيشكم الذى تنعمون به.
فالمثلى: مؤنث أمثل بمعنى أشرف وأفضل. وإنما أنث باعتبار التعبير بالطريقة. هذا، وهناك قراءات فى قوله تعالى: { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } ذكرها الإمام القرطبى.
فقال ما ملخصه: قوله - تعالى -: { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } قرأ أبو عمرو: { إِنْ هَـٰذَينِ لَسَاحِرَانِ } ورويت - هذه القراءة - عن عثمان وعائشة وغيرهما من الصحابة...
وقرأ الزهرى والخليل ابن أحمد وعاصم فى رواية حفص عنه { إِنْ هَـٰذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتخفيف { إِنْ }... وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراف، ويكون معناها: ما هذان إلا ساحران.
وقرأ المدنيون والكوفيون: { إِنَّ هَـٰذَانِ } بتشديد إن { لَسَاحِرَانِ } فوافقوا المصحف وخالفوا الإِعراب.
فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة من الأئمة..
والعلماء فى قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال: الأول أنها لغة بنى الحارث بن كعب وزبيد وخثعم..، يجعلون رفع المثنى ونصبه وخفضه بالألف.. وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية.
والفاء فى قوله - تعالى : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ... } فصيحة، أى: إذا كان الأمر كذلك من أن موسى وهارون قد حضرا ليخرجاكم من أرضكم بسحرهما.. { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } أى: فأحكموا سحركم واعزموا عليه ولا تجعلوه متفرقا.
يقال: أجمع فلان رأيه وأزمعه، إذا عزم عليه وأحكمه واستعد لتنفيذه وقوله { ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً } أى: ثم ائتوا جميعا مصطفين، حتى يكون أمركم أكثر هيبة فى النفوس، وأعظم وقعا على القلوب، وأدعى إلى الترابط والثبات وقوله { وَقَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ } تذييل مؤكد لما قبله.
أى: وقد أفلح وفاز بالمطلوب فى يوم النزال من طلب العلو، وسعى من أجله، واستطاع أن يتغلب على خصمه، لأننا إذا تغلبنا على موسى كانت لنا الجوائز العظمى، وإذا تغلب علينا خسرنا خسارة ليس هناك ما هو أشد منها.
وحانت ساعة المبارزة والمنازلة. فتقدم السحرة نحو موسى - عليه السلام - وقالوا له - كما حكى القرآن عنهم -: { ... يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ }.
والإلقاء فى الأصل: طرح الشىء، ومفعول "تلقى" محذوف للعلم به، والمراد به العصا.
أى؛ قال السحرة لموسى على سبيل التخيير الذى يبدو فيه التحدى والتلويح بالقوة: يا موسى إما أن تلقى أنت عصاك قبلنا، وإما أن تتركنا لنلقى حبالنا وعصينا قبلك.
قال الآلوسى: خيروه - عليه السلام - وقدموه على أنفسهم إظهارا للثقة بأمرهم. وقيل. مراعاة للأدب معه - عليه السلام -. و "أن" مع ما فى حيزها منصوب بفعل مضمر. أى، إما تختار إلقاءك أو تختار كوننا أول من ألقى. أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
أى: "الأمر إما إلقاؤك أو كوننا أول من ألقى...".
ثم حكى القرآن بعد ذلك أن موسى - عليه السلام - ترك فرصة البدء لهم، واستبقى لنفسه الجولة الأخيرة، فقال - تعالى -: { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ }. والتخيل: هو إبداء أمر لا حقيقة له، ومنه الخيال، وهو الطيف الطارق فى النوم.
أى: قال موسى - عليه السلام - للسحرة فى الرد على تخييرهم له، ابدأوا أنتم بإلقاء ما معكم من حبال وعصى.
والفاء فى قوله: { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ... } فصيحة وهى معطوفة على كلام محذوف، وإذا هى الفجائية.
أى: قال لهم موسى بل ألقوا أنتم أولا، فامتثلوا أمره وألقوا ما معهم، فإذا حبالهم وعصيهم التى طرحوها، جعلت موسى - لشدة اهتزازها واضطرابها - يخيل إليه من شدة سحرهم، أن هذه الحبال والعصى حيات تسعى على بطونها.
قال ابن كثير: وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد، بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وإنما كانت حيلة، وكانوا جمًّا غفيرا، وجمعا كبيرا - أى السحرة - فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادى ملآن حيات، يركب بعضها بعضا...
ويبدو أن فعل السحرة هذا، قد أثر فى موسى - عليه السلام - بدليل قوله - تعالى -: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ }.
والإِيجاس: الإِخفاء والإِضمار، والخيفة: الخوف. أى: فأخفى موسى - عليه السلام - فى نفسه شيئا من الخوف، حين رأى حبال السحرة وعصيهم كأنها حيات تسعى على بطونها، وخوفه هذا حدث له بمقتضى الطبيعة البشرية عندما رأى هذا الأمر الهائل من السحر، وبمقتضى أن يؤثر هذا السحر فى نفوس الناس فيصرفهم عما سيفعله.
وهنا ثبته الله - تعالى - وقواه، وأوحى إليه - سبحانه - بقوله: { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ }.
أى: قلنا له عندما أوجس فى نفسه خيفة من فعل السحرة: لا تخف يا موسى مما فعلوه، إنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة والظفر. أنت الأعلى لأن معك الحق ومعهم الباطل.
وقد أكد الله - تعالى - هذه البشارة لموسى بجملة من المؤكدات أحدها: إن المؤكدة، وثانيها: تكرير الضمير وثالثها: التعبير بالعلو المفيد للاستعلاء عليهم.
وقوله - سبحانه -: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ... } زيادة فى تشجيعه وتثبيته.
وتلقف من اللقف بمعنى الأخذ للشىء بسرعة وخفى، يقال: لقف فلان يلقَفُه لقْفا ولقَفَاناً، إذا تناوله بسرعة وحذق باليد أو الفم.
وفى هذه الكلمات ثلاث قراءات سبعية، أحدها: "تَلَقَّفْ" بتاء مفتوحة مخففة، بعدها لام مفتوحة، ثم قاف مشددة وفاء ساكنة، وأصل الفعل تلقف، فحذفت إحداهما تخفيفا، وهو مجزوم فى جواب الأمر وهو { وَأَلْقِ }.
وثانيها: { تَلَقَّفُ } كالقراءة السابقة مع ضم الفاء، على أن الفعل خبر لمبتدأ محذوف. أى: وألق ما فى يمينك فهى تلقف ما صنعوا.
وثالثها: { تَلْقَفْ } بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف المخففة وجزم الفعل كالقراءة الأولى.
والمراد بما في يمينه عصاه، كما جاء ذلك صريحا فى آيات أخرى منها قوله - تعالى -: { فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } وعبر عنها بقوله: { مَا فِي يَمِينِكَ } على سبيل التهويل من شأنها، أو لتذكيره بما شاهده منها بعد أن قال الله - تعالى - له قبل ذلك { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ.... قَالَ أَلْقِهَا يٰمُوسَىٰ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ... } والمعنى: وألق يا موسى ما فى يمينك تبتلع كل ما صنعه السحرة من تمويه وتزوير وتخييل، جعل الناس يتوهمون أن حبالهم وعصيهم تسعى.
قال ابن كثير: وذلك أنها صارت تنينا هائلا - أى حية عظيمة - ذا عيون وقوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصى حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته وابتعلته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهارا نهارا .. فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وبطل ما كانوا يعملون.
وقوله: { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } تعليل لقوله { تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ } و { مَا } موصولة وهى اسم إن، و { كَيْدُ } خبرها، والعائد محذوف.
والتقدير: وألق يا موسى عصاك تلقف ما صنعوه، فإن الذى صنعوه إنما هو كيد من جنس كيد السحرة وصنعهم وتمويههم.
{ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ } أى ولا يفوز هذا الجنس من الناس { حَيْثُ أَتَىٰ } أى: حيث كان فحيث ظرف مكان أريد به التعميم.
أى: أن الساحر لا يفلح ولا يفوز أينما كان، وحيثما أقبل، وأنَّى اتجه، لأنه يصنع للناس التخييل والتمويه والتزوير والتزييف للحقائق.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: لم وحد ساحر ولم يجمع؟ قلت: لأن القصد فى هذا الكلام إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العدد، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد.
ثم كانت بعد ذلك المفاجأة الكبرى فقد آمن السحرة حين رأوا ما رأوا بعد أن ألقى موسى ما فى يمينه، قال - تعالى -: { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ }.
قال الآلوسى: "والفاء فى قوله { فَأُلْقِيَ... } فصيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح".
أى: فزال الخوف، وألقى موسى ما في يمينه، وصارت حية، وتلقفت حبالهم وعصيهم، وعلم السحرة أن ذلك معجزة، فخروا سجدا لله على وجوههم قائلين آمنا برب هارون وموسى...
والحق أن التعبير بقوله - تعالى -: { فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً.. } يدل على قوة البرهان الذى عاينوه، حتى لكأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التى عاينوها، وأطلق - سبحانه - عليهم اسم السحرة فى حال سجودهم له - تعالى - وإيمانهم به، نظرا إلى حالهم الماضية.
وهكذا النفوس النقية عندما يتبين لها الحق، لا تلبث أن تفىء إليه، وتستجيب لأهله. قال الكرخى: خروا ساجدين لله لأنهم كانوا فى أعلى طبقات السحر، فلما رأوا ما فعله موسى خارجا عن صناعتهم، عرفوا أنه ليس من السحر البتة.
وقال صاحب الكشاف: "ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود. ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود. فما أعظم الفرق بين الإلقاءين".
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما توعد فرعون به السحرة، وموقفهم من هذا الوعيد فقال - تعالى -: { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ.... }.