التفاسير

< >
عرض

قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ
٧١
قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ
٧٢
إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
٧٣
إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ
٧٤
وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ
٧٥
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ
٧٦
-طه

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: قال فرعون للسحرة بعد أن شاهدهم وقد خروا لله - تعالى - ساجدين: { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } أى: هل آمنتم لموسى وصدقتموه فى دعوته وانقدتم له، قبل أن أعطيكم الإذن بذلك. فالاستفهام للتقريع والتهديد.
{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ } أى: أن موسى الذى انقدتم له لهو كبيركم وشيخكم الذى علمكم فنون السحر، فأنتم تواطأتم معه. وآمنتم به لأنكم من أتباعه.
وغرضه من هذا القول صرف الناس عن التأسى بهم، وعن الإِيمان بالحق الذى آمن به السحرة والظهور أمام قومه بمظهر الثبات والتماسك بعد أن استبد به وبهم الخوف والهلع، من هول ما رأوه.
ثم أضاف إلى قوله هذا تهديدا أشد فقال: { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ }.
أى: فوالله لأقطعن أيديكم اليمنى - مثلا - مع أرجلكم اليسرى، ولأصلبنكم على جذوع النخل، لتكونوا عبرة لغيركم ممن تسول له نفسه أن يفعل فعلكم.
فالمراد من قوله "من خلاف" أى: من الجهة المخالفة أو من الجانب بأن يقطع اليد اليمنى ومعها الرجل اليسرى، لأن ذلك أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة إذ قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شىء كامل صحيح، بخلاف قطعهما من جهتين مختلفتين فإنه إفساد للجانبين.
واختار أن يصلبهم فى جذوع النخل، لأن هذه الجذوع أخشن من غيرها والتصليب عليها أشق من التصليب على غيرها، وأظهر للرائى لعلوها عن سواها. فهو لطغيانه وفجوره اختار أقسى ألوان العذاب ليصبها على هؤلاء المؤمنين.
قال الجمل: قوله: { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } يحتمل أن يكون حقيقة. وفى التفسير أنه نقر جذوع النخل حتى جوفها ووضعهم فيها فماتوا جوعا وعطشا.
ويحتمل أن يكون مجازا وله وجهان: أحدهما: أنه وضع حرفا مكان آخر، والأصل على جذوع النخل، والثانى: أنه شبه تمكنهم بتمكن من حواه الجذع واشتمل عليه.
وقال الكرخى "فى" بمعنى "على" مجازا، من حيث إنه شبه تمكن المصلوب بالجذع، بتمكن المظروف فى الظرف وهذا هو المشهور.
وقوله: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } تهديد فوق تهديد، ووعيد إثر وعيد.
أى: والله لتعلمن أيها السحرة أينا أشد تعذيبا لكم، وأبقى فى إنزال الهلاك بكم، أنا أم موسى وربه.
وكأنه بهذا التهديد يريد أن يهون من كل عذاب سوى عذابه لهم، ومن كل عقاب غير عقابه إياهم.
وهذا التهديد التى حكاه الله - تعالى - هنا، قد جاء ما يشبهه فى آيات أخرى منها قوله - تعالى -:
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } ثم حكى - سبحانه - أن السحرة بعد أن استقر الإيمان فى قلوبهم، قد قابلوا تهديد فرعون لهم بالاستخفاف وعدم الاكتراث فقال: { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ .. }.
أى: قال السحرة فى ردهم على تهديد فرعون لهم: لن نختارك يا فرعون ولن نرضى بأن نكون من حزبك، ولن نقدم سلامتنا من عذابك.. على ما ظهر لنا من المعجزات التى جاءنا بها موسى، والتى على رأسها عصاه التى ألقاها فإذا هى تبتلع حبالنا وعصينا.
وجملة "والذى فطرنا" الواو فيها للعطف على "ما" فى قوله { مَا جَآءَنَا }.
أى: لن نختارك يا فرعون على الذى جاءنا من البينات على يد موسى، ولا على الذى فطرنا أى؛ خلقنا وأوجدنا فى هذه الحياة.
ويصح أن تكون هذه الواو للقسم، والموصول مقسم به، وجواب القسم محذوف دل عليه ما قبله، والمعنى: وحق الذى فطرنا لن نؤثرك يا فرعون على ما جاءنا من البينات.
وقوله: { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } تصريح منهم بأن تهديده لهم لا وزن له عندهم، ورد منهم على قوله: { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ }.
أى: لن نقدم طاعتك على طاعة خالقنا بعد أن ظهر لنا الحق، فافعل ما أنت فاعله، ونفذ ما تريد تنفيذه فى جوارحنا، فهى وحدها التى تملكها، أما قلوبنا فقد استقر الإيمان فيها، ولا تملك شيئا من صرفها عما آمنت به.
قال بعض العلماء: واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به، أو لم يفعله بهم؟.
فقال قوم: قتلهم وصلبهم، وقوم أنكروا ذلك، وأظهرهما عندى: أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله - تعالى - لأن الله قال لموسى وهارون:
{ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ } وقوله: { إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } تعليل لعدم مبالاتهم بتهديده لهم.
أى: افعل يا فرعون ما أنت فاعله بأجسامنا، فإن فعلك هذا إنما يتعلق بحياتنا فى هذه الحياة الدنيا، وهى سريعة الزوال، وعذابها أهون من عذاب الآخرة.
{ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا } وخالقنا ومالك أمرنا { لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } السالفة، التى اقترفناها بسبب الكفر والإشراك به - سبحانه -.
{ وَ } ليغفر لنا { مَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ٱلسِّحْرِ } لكى نعارض به موسى - عليه السلام - معارضة من هو على الباطل لمن هو على الحق، وقد كنا لا نملك أن نعصيك.
وخصوا السحر بالذكر مع دخوله فى خطاياهم، للإشعار بشدة نفورهم منه، وبكثرة كراهيتهم له بعد أن هداهم الله إلى الإيمان.
وقوله: { وَٱللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } تذييل قصدوا به الرد على قول فرعون لهم: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ }.
أى: والله - تعالى - خير ثوابا منك يا فرعون، وأبقى جزاء وعطاء، فإن ثوابه - سبحانه - لا نقص معه، وعطاءه أبقى من كل عطاء.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً... } يصح أن يكون كلاما مستأنفا ساقه الله - تعالى - لبيان سوء عاقبة المجرمين، وحسن عاقبة المؤمنين.
ويصح أن يكون من بقية كلام السحرة فى ردهم على فرعون.
والمعنى: { إِنَّهُ } أى الحال والشأن { مَن يَأْتِ رَبَّهُ } يوم القيامة فى حال كونه { مُجْرِماً }.
أى: مرتكبا لجريمة الكفر والشرك بالله - تعالى - { فَإِنَّ لَهُ } أى: لهذا المجرم { جَهَنَّمَ } يعذب فيها عذابا شديدا من مظاهره أنه { لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فيستريح { وَلاَ يَحْيَىٰ } حياة فيها راحة.
كما قال - تعالى -:
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين فقال: { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً } به إيمانا حقا، و { قَدْ عَمِلَ } الأعمال { ٱلصَّالِحَاتِ } بجانب إيمانه. { فَأُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بتلك الصفات { لَهُمُ } بسبب إيمانهم وعملهم الصالح { ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ } أى: المنازل الرفيعة، والمكانة السامية.
وقوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } يدل على الدرجات العلى.
أى: لهم جنات باقية دائمة تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَا } خلودا أبديا.
{ وَذٰلِكَ } العطاء الجزيل الباقى جزاء من تزكى، أى من تطهر وتجرد من دنس الكفر والمعاصى.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد صورت لنا بأسلوبها البليغ المؤثر، تلك المحاورات الطويلة التى دارت بين موسى وفرعون والسحرة.. والتى انتهت بانتصار الحق واندحار الباطل.
ثم ساق - سبحانه - جانبا من النعم التى أنعم بها على بنى إسرائيل، وحذرهم من جحودها، فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ... }.