التفاسير

< >
عرض

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ
٩٥
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي
٩٦
قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً
٩٧
إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً
٩٨
-طه

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: قال موسى - عليه السلام - للسامرى: { مَا خَطْبُكَ } أى: ما شأنك، وما الأمر العظيم الذى جعلك تفعل ما فعلت؟ مصدر خطب يخطب - كقعد يقعد - ومنه قولهم: هذا خطب يسير أو جلل، وجمعه خطوب. وخصه بعضهم بما له خطر من الأمور، وأصله: الأمر العظيم الذى يكثر فيه التخاطب والتشاور، ويخطب الخطيب الناس من أجله.
وقد رد السامرى على موسى بقوله: { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أى: علمت ما لم يعلمه القوم، وفطنت لما لم يفطنوا له، ورأيت ما لم يروه.
قال الزجاج: يقال: بصر بالشىء يبصر - ككرم وفرح - إذا علمه، وأبصره إذا نظر إليه.
وقيل: هما بمعنى واحد.
{ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا } روى أن السامرى رأى جبريل - عليه السلام - حين جاء إلى موسى ليذهب به إلى الميقات لأخذ التوراة عن الله - عز وجل - ولم ير جبريل أحد غير السامرى من قوم موسى، ورأى الفرس كلما وضعت حافرها على شىء اخضرت، فعلم أن للتراب الذى تضع عليه الفرس حافرها شأنا، فأخذ منه حفنة وألقاها فى الحلى المذاب فصار عجلا جسدا له خوار.
والمعنى قال السامرى لموسى: علمت ما لم يعلمه غيرى فأخذت حفنة من تراب أثر حافر فرس الرسول وهو جبريل - عليه السلام - فألقيت هذه الحفنة فى الحلى المذاب، فصار عجلا جسدا له خوار.
{ وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أى: ومثل هذا الفعل سولته لى نفسى، أى زينته وحسنته لى نفسى، لأجعل بنى إسرائيل يتركون عبادة إلهك يا موسى، ويعبدون العجل الذى صنعته لهم.
وعلى هذا التفسير الذى سار عليه كثير من المفسرين، يكون المراد بالرسول: جبريل - عليه السلام - ويكون المراد بأثره: التراب الذى أخذه من موضع حافر فرسه.
هذا، وقد نقل الفخر الرازى عن أبى مسلم الأصفهانى رأيا آخر فى تفسير الآية فقال ما ملخصه: ليس فى القرآن ما يدل على ما ذكره المفسرون، فهنا وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالرسول: موسى - عليه السلام - وبأثره: سنته ورسمه الذى أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقص أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير: أن موسى لما أقبل على السامرى بالتوبيخ وبسؤاله عن الأمر الذى دعاه إلى إضلال القوم بعبادة العجل، رد عليه بقوله: بصرت بما لم يبصروا به، أى: عرفت أن الذى أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أى: أخذت شيئا من علمك ودينك فنبذته، أى: طرحته...
وعلى هذا التفسير الذى ذهب إليه أبو مسلم يكون المراد بالرسول: موسى - عليه السلام - ويكون المراد بأثره: دينه وسنته وعلمه.
ويكون المعنى الإجمالى للآية: أن السامرى قال لموسى - عليه السلام - كنت قد أخذت جانبا من دينك وعلمك، ثم تبين لى أنك على ضلال فنبذت ما أخذته عنك وسولت لى نفسى أن أصنع للناس عجلا لكى يعبدوه لأن عبادته أراها هى الحق.
وقد رجح الإمام الرازى فى تفسيره ما ذهب إليه أبو مسلم فقال: واعلم أن هذا القول الذى قاله أبو مسلم ليس فيه إلا مخالفة للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه.
1 - أن جبريل ليس مشهورا باسم الرسول، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه.
2 - أنه لا بد فيه من الإضمار، وهو قبضته من أثر حافر فرس الرسول، والإضمار خلاف الأصل.
3 - أنه لا بد من التعسف فى بيان أن السامرى كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذى ذكروه أن جبريل هو الذى رباه بعيد...
وقد رد الإمام الآلوسى على الإمام الفخر الرازى - رحمهما الله - فقال ما ملخصه:
1 - عهد فى القرآن الكريم إطلاق الرسول على جبريل، كما فى قوله - تعالى -:
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وعدم جريان ذكره فيما تقدم لا يمنع أن يكون معهودا، ويجوز أن يكون إطلاق الرسول عليه كان شائعا فى بنى إسرائيل.
2 - تقدير المضاف فى الكلام أكثر من أن يحصى، وقد عهد ذلك فى كتاب الله غير مرة.
3 - رؤية السامرى دون غيره لجبريل، كان ابتلاء من الله - تعالى - ليقضى الله أمرا كان مفعولا، ومعرفته تأثير ذلك الأثر دون غيره كانت بسبب ما ألقى فى روعه من أنه لا يلقيه على شىء فيقول له كن كذا إلا كان - كما فى خبر ابن عباس - أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء - كما فى بعض الآثار -...
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه أبو مسلم، أقرب إلى ما يفيده ظاهر القرآن الكريم، إذا ما استبعدنا تلك الروايات التى ذكرها المفسرون فى شأن السامرى وفى شأن رؤيته لجبريل.
ولا نرى حرجا فى استبعادها، لأنها عارية عن السند الصحيح إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - أو إلى أصحابه، ويغلب على ظننا أنها من الإسرائيليات التى نرد العلم فيها إلى الله - تعالى -.
و قوله - سبحانه -: { قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } حكاية لما قاله موسى - عليه السلام - للسامرى.
والمساس: مصدر ماسّ - بالتشديد - كقتال من قاتل، وهو منفى بلا التى لنفى الجنس.
والمعنى: قال موسى للسامرى: ما دمت قد فعلت ذلك فاذهب، فإن لك فى مدة حياتك، أن تعاقب بالنبذ من الناس، وأن تقول لهم إذا ما اقترب أحد منك: { لاَ مِسَاسَ } أى لا أمَسُّ أحدا ولا يَمسُّنى أحد، ولا أخالط أحداً ولا يخالطنى أحد.
قال صاحب الكشاف: عوقب فى الدنيا بعقوبة لا شىء أطم منها وأوحش وذلك أنه مُنِع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمه ومبايعته ومواجهته، وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا. وإذا اتفق أن يماس أحدا - رجلا أو امرأة - حم الماس والممسوس - أى أصيبا بمرض الحمى - فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لا مساس. وعادى فى الناس أوحش من القاتل اللاجىء إلى الحرم، ومن الوحش النافر فى البرية...
وقال الآلوسى ما ملخصه: والسر فى عقوبته على جنايته بما ذكر. أنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه، فكان ما فعله سببا لبعدهم عنه وتحقيره. وقيل: عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل، حيث نبذ فنبذ، فإن ذلك التحامى عنه أشبه شىء بالنبذ...
قالوا: وهذه الآية الكريمة أصل فى نفى أهل البدع والمعاصى وهجرانهم وعدم مخالطتهم.
ثم بين - سبحانه - عقوبة السامرى فى الآخرة، بعد بيان عقوبته فى الدنيا فقال: { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ }.
وقوله: { تُخْلَفَهُ } قرأها الجمهور بضم التاء وفتح اللام. أى: وإن لك موعدا فى الآخرة لن يخلفك الله - تعالى - إياه. بل سينجزه لك، فيعاقبك يومئذ العقاب الأليم الذى تستحقه بسبب ضلالك وإضلالك، كما عاقبك فى الدنيا بعقوبة الطرد والنفور من الناس.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر { لَّن تُخِلَفَهُ } بضم التاء وكسر اللام أى: وإن لك موعدا فى الآخرة لن تستطيع التخلف عنه، أو المهرب منه، بل ستأتيه وأنت صاغر..
ثم بين - سبحانه - ما فعله موسى - عليه السلام - بالعجل الذى صنعه السامرى لإِضلال الناس. فقال { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً }.
أى: وقال موسى - أيضا - للسامرى: وانظر إلى معبودك العجل الذى أقمت على عبادته أنت وأتباعك فى غيبتى عنكم.
{ لَّنُحَرِّقَنَّهُ } بالنار أمام أعينكم، والجملة جواب لقسم محذوف، أى: والله لنحرقنه { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً } أى: لم لَنُذرِينَّه فى البحر تذرية، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.
يقال: نسف الطعام ينسفه نسفا، إذا فرقه وذراه بحيث لا يبقى منه شىء.
وقد نفذ موسى - عليه السلام - ذلك حتى يظهر للأغبياء الجاهلين الذين عبدوا العجل، أنه لا يستحق ذلك. وإنما يستحق الذبح والتذرية، وأن عبادتهم له إنما هى دليل واضح على انطماس بصائرهم، وشدة جهلهم.
وقوله - تعالى -: { إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً }. استئناف مسوق لإِحقاق الحق وإبطال الباطل: أى: إنما المستحق للعبادة والتعظيم هو الله - تعالى - وحده، الذى وسع علمه كل شىء. ولا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد قصت علينا بأسلوب بليغ حكيم، جوانب من رعاية الله - تعالى - لنبيه موسى - عليه السلام - ورحمته به، كما قصت علينا تلك المحاورات التى تمت بين موسى وفرعون، وبين موسى والسحرة كما حدثتنا عن جانب من النعم التى أنعم الله - تعالى - بها على بنى إسرائيل، وكيف أنهم قابلوها بالجحود والكنود وبإيذاء نبيهم موسى - عليه السلام -.
ثم أشار - سبحانه - بعد ذلك إلى العبرة من قصص الأولين، وإلى التنويه بشأن القرآن الكريم، وإلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه، فقال - تعالى -: { كَذٰلِكَ نَقُصُّ... }.