التفاسير

< >
عرض

ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ
١
مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
٢
لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
٣
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٤
بَلْ قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ
٥
مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
٦
-الأنبياء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - سبحانه -: { ٱقْتَرَبَ } من القرب الذى هو ضد البعد.
والمعنى: قرب الزمن الذى يحاسب فيه الناس على أعمالهم فى الدنيا، والحال أن الكافرين منهم فى غفلة تامة عن هذا الحساب، وفى إعراض مستمر عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح.
قال الإمام ابن كثير: هذا تنبيه من الله - عز وجل - على اقتراب الساعة ودنوها، وأن الناس فى غفلة عنها، أى لا يعملون لها، ولا يستعدون من أجلها.
قال - تعالى -:
{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ... } وقال: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } وعبر سبحانه - بالقرب مع أنه قد مضى على نزول هذه الآية وأمثالها أكثر من أربعة عشر قرنا، لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله وترقبه، قريب الوقوع، ولأن ذلك الوقت وإن كان كبيرا فى عرف الناس، إلا أنه عند الله - تعالى - قليل، كما قال - سبحانه -: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وقال - تعالى -: { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } وقال - تعالى -: { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ.. } بلفظ العموم، مع أن ما بعده من ألفاظ الغفلة والإِعراض يشعر بأن المراد بهم الكافرون، للتنبيه على أن الحساب سيشمل الجميع، إلا أنه بالنسبة للكافرين سيكون حسابا عسيرا.
قال صاحب الكشاف: وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون فى عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسىء. وإذا قرعت لهم العصا، ونبهوا عن سنة الغفلة، وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا.
وفى التعبير عن اقتراب يوم القيامة باقتراب الحساب، زيادة فى الترهيب والتخويف، وفىالحض على الاستعداد لهذااليوم، لأنه يوم يحاسب فيه الناس على أعمالهم فى الدنيا حسابا دقيقا، ولن تملك فيه نفس لنفس شيئا، وإنما يجازى فيه كل إنسان بحسب عمله.
وقوله - سبحانه -: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } بيان لمواقف هؤلاء الغافلين اللاهين ممن يذكرهم بأهوال ذلك اليوم.
والمراد بالذكر: ما ينزل من آيات القرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم -.
والمراد بالمحدث: الحديث العهد بالنزول على النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو صفة لذكر.
أى: أن هؤلاء الغافلين المعرضين عن الاستعداد ليوم الحساب، لا يصل إلى أسماعهم شىء من القرآن الكريم، الذى أنزله الله - تعالى - على قلب نبيه - صلى الله عليه وسلم - آية فآية، أو سورة بعد سورة فى أوقات متقاربة، إلا استمعوا إلى هذا القرآن المحدث تنزيله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم يلعبون، دون أن يحرك منهم عاطفة نحو الإِيمان به، فهم لانطماس بصيرتهم، وقسوة قلوبهم، وجحود نفوسهم للحق، لا يتعظون ولا يعتبرون.
وقوله: { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ.. } يشعر بأن ما نزل من قرآن قد وصل إليهم دون أن يتعبوا أنفسهم فى الحصول عليه، بل أتاهم وهم فى أماكنهم بدون سعى إليه.
وقوله { ذِكْرٍ } فاعل و { مِّن } مزيدة للتأكيد.
وقوله { مِّن رَّبِّهِمْ } متعلق بمحذوف صفة لذكر، و { مِّن } لابتداء الغاية أى: ما يأتيهم من ذكر كائن من ربهم وخالقهم ورازقهم، فى حال من الأحوال، إلا استمعوه وهم هازلون مستهترون.
وقوله: { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } حال أخرى من أحوالهم الغريبة التى تدل على نهاية طغيانهم وفجورهم، لأنهم بجانب استماعهم إلى ما ينزل من القرآن بلعب وغفلة، تستقبله قلوبهم - التى هى محل التدبر والتفكر - بلهو واستخفاف.
ثم حكى - سبحانه - لونا من ألوان مكرهم وخبثهم فقال: { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } والنجوى: المسارة بالحديث، وإخفاؤه عن الناس.
أى: بعد أن استمعوا إلى القرآن بإعراض ولهو واستهتار، اختلى بعضهم ببعض، وبالغوا فى إخفاء ما يضمرونه من سوء نحو النبى - صلى الله عليه وسلم - ونحو ما جاء به من عند الله - تعالى -، وحاولوا أن يظهروا ذلك فيما بينهم فحسب، مبالغة منهم فى المرك السيىء الذى حاق بهم.
وقوله - سبحانه -: { هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } بيان لما قالوه فى تناجيهم من سوء.
والاستفهام للنفى والإِنكار.
أى: أنهم قالوا فى تناجيهم: ما هذا الذى يدعى النبوة، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بشر مثلكم، ولا يمكن أن يكون رسولا، وما جاءنا به إنما هو السحر بعينه، فكيف تذهبون إليه، وتقبلون منه ما يدعيه، والحال أنكم تعاينون بأبصاركم سحره.
وما حملهم على هذا القول الباطل إلا توهمهم أن الرسول لا يكون من البشر، وأن كل ما يظهر على يد مدعى النبوة من البشر من خوارق، إنما هو من قبيل السحر.
قال الآلوسى: وأرادوا بقولهم: "ما هذا إلا بشر مثلكم" أى: من جنسكم، وما أتى به سحر، تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإِذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر. قالوا ذلك بناء على ما ارتكز فى اعتقادهم الزائع أن الرسول لا يكون إلا ملكا، وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر. وعنوا بالسحر. هنا القرآن الكريم، ففى ذلك إنكار لحقيته على أبلغ وجه، قاتلهم الله - تعالى -: أنَّى يؤفكون. وإنما أسروا ذلك، لأنه كان على طريق توثيق العهد، وترتيب مبادئ الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد فى هدم أمر النبوة. وإطفاء نور الدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
هذا، ودعوى المشركين أن الرسول لا يكون بشرا، قد حكاها القرآن فى كثير من آياته، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } وقد رد الله - تعالى - عليهم هذه الدعوى الكاذبة فى تكثير من آيات كتابه - أيضا، ومن ذلك قوله عز وجل -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ... } }.
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما لقنه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من الرد عليهم، فقال: { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ ٱلْقَوْلَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }.
أى: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الرد على ما تناجوا به سرا: ربى الذى أرسلنى لإِخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان. يعلم ما تقولونه سواء كان سرا أم جهرا، وسواء أكان القائل موجودا فى السماء أم فى الأرض، وهو وحده السميع لجميع ما يسمع، العليم بكل شىء فى هذا الكون.
وما دام الأمر كذلك فأنا سأمضى فى طريقى مبلغا رسالته - سبحانه -، أما أنتم فسترون سوء عاقبتكم إذا ما سرتم فى طريق الكفر والعناد.
وفى قراءة سبعية بلفظ (قل) على الأمر للنبى - صلى الله عليه وسلم -.
أى: قل لهم - أيها الرسول الكريم - ربى يعلم القول فى السماء والأرض وهو السميع العليم.
وقوله - تعالى -: { بَلْ قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } إضراب من جهته - تعالى -، وانتقال من حكاية قولهم السابق { هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ... } إلى حكاية أقوال أخرى باطلة قالوها فى شأنه - صلى الله عليه وسلم - وفى شأن ما جاء به.
أى: أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بما قالوه قبل ذلك فى شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أنه بشر وما وجاء به سحر، بل أضافوا إلى ذلك أن القرآن أضغاث أحلام. أى: أخلاط كأخلاط الأحلام، وأنه أباطيل لا حقيقة لها.
والأضغاث: جمع ضغث. واصله ما جمع من أنواع شتى من النبات ثم حزم فى حزمة واحدة.
والأحلام: جمع حلم - بضم الحاء وسكون اللام - وهو ما يراه النائم مما ليس بحسن.
وقد استعير هذا التركيب لما يراه النائم من وساوس وأحلام خلال نومه { بَلِ ٱفْتَرَاهُ } أى: اختلق هذا القرآن من عند نفسه.
{ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } أى: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاعر - فى زعمهم - وما أتى به هو نوع من الشعر التخييلى الذى لا حقيقة له.
ثم أضافوا إلى هذا التخبط واضطراب قولهم: { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ }.
ومرادهم بالآية هنا: آية كونية، والجملة جواب لشرط محذوف يفصح عنه السياق، والتقدير: إن لم يكن كما قلنا فى شأنه من أنه شاعر بل كان رسولا حقا فليأتنا بخارق يدل على صدقه كناقة صالح، وعصا موسى، وإحياء عيسى للأموات.. فإن المرسلين السابقين فعلوا ذلك.
وكأنهم - لانطماس بصائرهم وشدة جهالاتهم - لا يعتبرون القرآن الذى هو آية الآيات - لا يعتبرونه آية ومعجزة تدل على صدقه - صلى الله عليه وسلم -.
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد صورت تخبط هؤلاء المشركين تصويراً حكيما، شأنهم فى ذلك شأن الحائر المضطرب الذى لا يستطيع الثبات على قرار، بل هو لتمحله وتعلله ينتقل من دعوى باطلة إلى أخرى أشد منها بطلانا.
وقد نفى القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل هذه الدعاوى الباطلة، ومن ذلك قوله - تعالى -:
{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } وقوله - سبحانه - { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله ورحمته بهؤلاء الذين ارسل إليهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقال: { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }.
أى: أن هؤلاء الجاهلين من قومك - أيها الرسول الكريم - قد طلبوا منك آية كونية كالتى جاء بها موسى وعيسى وصالح.. وهذه الخوارق عندما جاء بها هؤلاء الرسل ولم يؤمن بها أقوامهم أهلكنا هؤلاء الأقوام، وفقا لسنتنا التى لا تتخلف فى إهلاك من يكذبون بآياتنا، ولو أنا أعطيناك هذه الخوارق ولم يؤمن بها قومك لأهلكناهم كما أهلكنا السابقين، لذا اقتضت حكمتنا ورحمتنا أن نمنع عنهم ما طلبوه، لأنهم بشر كالسابقين. وما دام السابقون لم يؤمنوا بهذه الخوراق فهؤلاء ايضاً لن يؤمنوا بها.
فالاستفهام فى قوله: { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } للإنكار: أى: أن هؤلاء الكافرين من أمتك - أيها الرسول الكريم - لن يؤمنوا بهذه الخوارق التى طلبوها متى جاءتهم لأنهم لا يقلون عتوا وعنادا عن السابقين الذين لم يؤمنوا بها فأهلكهم الله.
وصدق الله إذ يقول:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يكون جميع الرسل من البشر وأن يعيشوا الحياة التى تقتضيها الطبيعة البشرية، وأن يؤيدهم الله - تعالى - بالمعجزات الدالة على صدقهم، فقال - تعالى -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا.... }.