التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ
٢٦
لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
٢٧
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
٢٨
وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
-الأنبياء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الآلوسى ما ملخصه: "قوله - تعالى - { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً }، حكاية لجناية فريق من المشركين لإظهار بطلانها، وبيان تنزهه - سبحانه - عن ذلك، إثر بيان تنزهه - جل وعلا - عن الشركاء على الإِطلاق، وهم حى من خزاعة قالوا: الملائكة بنات الله، ونقل الواحدى أن قريشا وبعض العرب قالوا ذلك.
والآية مشنعة على كل من نسب إلى الله - تعالى - ذلك كاليهود والنصارى..".
أى: وقال المشركون الذين انطمست بصائرهم عن معرفة الحق "اتخذ الرحمن ولداً سبحانه".
أى: تنزه وتقدس الله - تعالى - عن ذلك جل وعلا عما يقولونه علوا كبيرا.
وقوله: { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } إضراب عما قالوه، وإبطال له، وثناء على ملائكته الذين زعم فريق من المشركين أنهم بنات الله.
وعباد: جمع عبد. والعبودية لله - تعالى - معناها: إظهار التذلل له - سبحانه -، والخضوع لذاته.
ومكرم: اسم مفعول من أكرم، وإكرام الله - تعالى - لعبده معناه: إحسانه إليه وإنعامه عليه.
أى: لقد كذب هؤلاء المشركون فى زعمهم أن الملائكة بنات الله، والحق أن الملائكة هم عباد مخلوقون له - تعالى - ومقربون إليه ومكرمون عنده.
وقوله: { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ } أى: لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به، ولا يقولون شيئا بدون إذنه، كما هو شأن العبيد الطائعين لسيدهم.
وأصل الكلام: لا يسبق قولهم قوله - عز وجل - إلا أنه - سبحانه - أسند السبق إليهم، تنزيلا لسبق قولهم لقوله، منزلة سبقهم إياه، للإِشعار بمزيد طاعتهم وتنزيههم عن كل قول بغير إذنه - تعالى -.
وقوله: { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } بيان لتبعيتهم له - تعالى - فى الأعمال إثر بيان تبعيتهم له - سبحانه - فى الأقوال.
أى: وهم بأمره وحده يعملون لا بأمر أحد سواه، ولا بأمر أنفسهم، كما قال - تعالى - فى آية أخرى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر علمه الشامل، وحكمه النافذ، فقال { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.. } أى: يعلم - سبحانه - أحوالهم كلها صغيرها وكبيرها، متقدمها ومتأخرها، { وَلاَ يَشْفَعُونَ } لأحد من خلقه إلا لمن ارتضى الله - تعالى - شفاعتهم له.
{ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } أى: وهم لخوفهم من الله ومن عقابه حذرون وجلون.
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف الملائكة فى هذه الآيات بجملة من الصفات الكريمة التى تدل على طاعتهم المطلقة لله - تعالى - وعلى إكرامه - سبحانه - لهم.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أنهم مع كرامتهم عند الله - تعالى - لو ادعى أحد منهم - على سبيل الفرض - أنه إله، لعاقبه الله عقاباً شديدا، فقال - تعالى -: { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ }.
أى: ومن يقل من الملائكة - على سبيل الفرض والتقدير - { إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ } أى: من دون الله - عز وجل - "فذلك" الذى ادعى هذا الادعاء الكاذب "نجزيه جهنم" أى: نجعل جزاءه الإِلقاء فى جهنم كسائر المجرمين الكاذبين، ولا يغنى عنه ما سبق له من طاعة وتكريم { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } أى: مثل هذا الجزاء الرادع الفظيع نجزى كل ظالم يضع الأمور فى غير موضعها، إذ أن حقوق الله - تعالى - لا يجوز لأحد - كائنا من كان - أن ينسبها لنفسه، سواء أكان ملكا مقربا، أم نبيا مرسلا.
وبعد أن ساق - سبحانه - ألوانا من الأدلة الكونية الشاهدة بوحدانيته، ومن الأدلة النقلية النافية للشركاء، ومن الأدلة الوجدانية التى تهيج القلوب نحو الحق.. أتبع ذلك بتحريض الكافرين على التدبر فى ملكوت السماوات والأرض، لعل هذا التدبر يهديهم إلى الإِيمان. فقال - تعالى -: { أَوَلَمْ يَرَ... }.