التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ
٣٠
وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٣١
وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
٣٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٣٣
-الأنبياء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله { رَتْقاً } مصدر رتقه رتقا: إذا سده. يقال: رتق فلان الفتق رتقا، إذا ضمه وسده، وهو ضد الفتق الذى هو بمعنى الشق والفصل.
وللعلماء فى معنى هذه الآية أقوال أشهرها: أن معنى { كَانَتَا رَتْقاً } أن السماء كانت صماء لا ينزل منها مطر، وأن الأرض كانت لا يخرج منها نبات، ففتق الله - تعالى - السماء بأن جعل المطر ينزل منها، وفتق الأرض بأن جعل النبات يخرج منها.
وهذا التفسير منسوب إلى ابن عباس، فقد سئل عن ذلك فقال: كانت السماوات رتقا لا تمطر، وكانت الأرض رتقا لا تنبت، فلما خلق - سبحانه - للأرض أهلا، فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات.
ومنهم من يرى أن المعنى: كانت السماوات والأرض متلاصقتين كالشىء الواحد، ففتقهما الله - تعالى - بأن فصل بينهما، فرفع السماء إلى مكانها، وأبقى الأرض فى مقرها، وفصل بينهما بالهواء.
قال قتادة قوله { كَانَتَا رَتْقاً } يعنى أنهما كانا شيئا واحداً ففصل الله بينهما بالهواء.
ومنهم من يرى أن معنى "كانتا رتقا" أن السماوات السبع كانت متلاصقة بعضها ببعض ففتقها الله - تعالى - بأن جعلها سبع سماوات منفصلة، والأرضون كانت كذلك رتقا، ففصل الله - تعالى - بينها وجعلها سبعا.
قال مجاهد: كانت السماوات طبقة واحدة مؤتلفة، ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرضين كانت طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا".
وقد رجح بعض العلماء المعنى الأول فقال ما ملخصه: كونهما "كانتا رتقا" بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر، والأرض لا تنبت، ففتق - سبحانه - السماء بالمطر والأرض بالنبات، هو الراجح وتدل عليه قرائن من كتاب الله - تعالى - منها:
أن قوله - تعالى -: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ.. } يدل على أنهم رأوا ذلك لأن الأظهر فى رأى أنها بصرية، والذى يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر، والأرض لا نبات فيها. فيشاهدون بأبصارهم نزول المطر من السماء، وخروج النبات من الأرض.
ومنها: أنه - سبحانه - أتبع ذلك بقوله: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله. أى: وجعلنا من الماء الذى أنزلناه بفتقنا السماء، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض، كل شىء حى.
ومنها: أن هذا المعنى جاء موضحا فى آيات أخرى، كقوله - تعالى -:
{ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } والمراد بالرجع: نزول المطر من السماء تارة بعد أخرى، والمراد بالصدع: انشقاق الأرض عن النبات. واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية والفخر الرازى.
فإن قيل: هذا الوجه مرجوح، لأن المطر لا ينزل من السماوات، بل من سماء واحدة وهى سماء الدنيا؟
قلنا: إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة فيها سماء كما يقال: ثوب أخلاق - أى: قطع -.
والآية الكريمة مسوقة لتجهيل المشركين وتوبيخهم على كفرهم، مع أنهم يشاهدون بأعينهم ما يدل دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، ويعلمون أن من كان كذلك، لا يصح أن تترك عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه، مما لا يضر ولا ينفع.
والمعنى: أو لم يشاهد الذين كفروا بأبصارهم، ويعلموا بعقولهم، أن السماوات والأرض كانتا رتقا، بحيث لا ينزل من السماء مطر، و لا يخرج من الأرض نبات، ففتق الله - تعالى - السماء بالمطر، والأرض بالنبات.
إنهم بلا شك يشاهدون ذلك، ويعقلونه بأفكارهم. ولكنهم لاستيلاء الجحود والعناد عليهم، يعبدون من دونه - سبحانه - مالا ينفع من عَبَده، ولا يضر من عصاه.
وقال - سبحانه -: { كَانَتَا } بالتثنية، باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء، ونوع الأرض، كما فى قوله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ.. } وقوله - تعالى -: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .. } تأكيد لمضمون ما سبق، وتقرير لوحدانيته ونفاذ قدرته - سبحانه - والجعل بمعنى الخلق. و { مِنَ } ابتدائية.
أى: وخلقنا من الماء بقدرتنا النافذة، كل شىء متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان، أو كل شىء نام فيدخل النبات، ويراد من الحياة ما يشمل النمو.
وهذا العام مخصوص بما سوى الملائكة والجن مما هو حى، لأن الملائكة - كما جاء فى بعض الأخبار - خلقوا من النور، والجن مخلوقون من النار.
قال - تعالى -
{ خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } قال القرطبى: وفى قوله - تعالى -: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ثلاث تأويلات: أحدها: أنه خلق كل شىء من الماء. قاله قتادة. الثانى: حفظ حياة كل شىء بالماء: الثالث: وجعلنا من ماء الصلب - أى: النطفة - كل شىء حى...
وقوله: { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } إنكار لعدم إيمانهم مع وضوح كل ما يدعو إلى الإِيمان الحق، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه هذا الإِنكار.
أى: أيشاهدون بأعينهم ما يدل على وحدانية الله وقدرته. ومع ذلك لا يؤمنون؟ إن أمرهم هذا لمن أعجب العجب، وأغرب الغرائب!!.
ثم ساق - سبحانه - أدلة أخرى على وحدانيته وقدرته فقال: { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ.. }.
الوراسى: جمع راسية، من رسا الشىء إذا ثبت ورسخ، والمراد بها الجبال الثابتة الراسخة فى الأرض.
أى: وجعلنا فى الأرض جبالا ثوابت، كراهة أن { تَمِيدَ بِهِمْ } أى: أن تضطرب وتتحرك بهم الأرض. يقال: ماد الشىء يميد ميدا - من باب باع - إذا تحرك واهتز.
{ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }، والفجاج. جمع فج وهو الطريق الواسع.
والسبل: جمع سبيل وهو الطريق. وهو بدل من { فِجَاجاً }.
أى: وجعلنا فى الأرض طرقا واسعة، ومنافذ متعددة، لعلهم بذلك يهتدون ويتوصلون إلى الأماكن التى يريدون الوصول إليها. ويعلمون أن الذى وهبهم كل هذه النعم، هو الله - تعالى - الذى يجب أن يخلصوا له العبادة والطاعة.
{ وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } أى: وجعلنا السماء سقفا للأرض كما يكون السقف للبيت، وجعلناه محفوظا من السقوط ومن التشقق، ومن كل شيطان رجيم. وهم - أى المشركون - عن آياتها الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا وعلمنا. معرضون ذاهلون، لا يتعظون ولا يتذكرون.
ومن الآيات الدالة على حفظ السماء من السقوط، قوله - تعالى -:
{ ... وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ومن الآيات الدالة على حفظها من التشقق والتفطر قوله - سبحانه -: { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } وعلى حفظها من الشياطين قوله - تعالى -: { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } ومن الآيات الدالة على إعراض هؤلاء المشركين عن العبر والعظات قوله - سبحانه -: { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته بقوله - تعالى - { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }.
أى: وهو وحده - سبحانه - الذى خلق بقدرته الليل والنهار بهذا النظام البديع، وخلق الشمس والقمر بهذا الإِحكام العجيب "كل" أى: كل واحد من الشمس والقمر يسير فى فلكه وطريقه المقدر له بسرعة وانتظام، كالسابح فى الماء.
وقوله: { يَسْبَحُونَ } من السبح وهو المر السريع فى الماء أو الهواء.
وجاء يسبحون بضمير العقلاء. لكون السباحة المسندة إليهما من فعل العقلاء، كما فى قوله - تعالى -:
{ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } هذا والمتأمل فى هذه الآيات يراها قد ساقت جملة من الأدلة على وحدانية الله - تعالى - وعلى كمال قدرته.
ثم بين - سبحانه - أن مصير البشر جميعا إلى الفناء، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن من طبيعة الإِنسان تعجل الأمور قبل أوانها، وأن المشركين لو علموا المصير السىء الذى ينتظرهم يوم القيامة، لما قالوا ما قالوه من باطل، ولما فعلوا ما فعلوه من قبائح، قال - تعالى -: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ... }.