التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٩
قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ
٦٠
قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ
٦١
قَالُوۤاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَا يٰإِبْرَاهِيمُ
٦٢
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ
٦٣
فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٦٤
ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ
٦٥
-الأنبياء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: وحين رجع القوم من عيدهم ورأوا ما حل بأصنامهم "قالوا" على سبيل التفجع والإِنكار: "من فعل هذا" الفعل الشنيع "بآلهتنا" التى نعظمها "إنه" أى هذا الفاعل "لمن الظالمين" لهذه الآلهة. لإِقدامه على إهانتها وهى الجديرة بالتعظيم - فى زعمهم -، ولمن الظالمين لنفسه حيث سيعرضها للعقوبة منا.
{ قَالُواْ } أى: بعضهم وهم الذين سمعوا من إبراهيم قوله:
{ وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } . { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } والمراد بالذكر هنا: الذكر بالسوء والذم.
أى: سمعنا فتى يذكرهم بالنقص والذم والتهديد بالكيد، وهذا الفتى يقال له إبراهيم، ولعله هو الذى فعل بهم ما فعل.
وهنا تشاوروا فيما بينهم وقالوا. إذا كان الأمر كذلك: { فَأْتُواْ بِهِ } وأحضروه { عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ } أى: أمام أعينهم ليتمكنوا من رؤيته على أتم وجه { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } مساءلتنا له. ومواجهتنا إياه بالعقوبة التى يستحقها على فعله هذا، أو يشهدون عليه بأنه هو الذى حطم الأصنام.
قال ابن كثير: وكان هذا هو المقصود الأكبر لإِبراهيم، أن يتبين فى هذا المحفل العظيم، كثرة جهلهم، وقلة عقلهم، فى عبادة هذه الأصنام، التى لا تدفع عن نفسها ضرا، ولا تملك لها نصرا..".
وجاءوا بإبراهيم - عليه السلام - وقالوا له على سبيل الاستنكار والتهديد: "أأنت فعلت هذا" التكسير والتحطيم "بآلهتنا" التى نعبدها "يا إبراهيم"؟
وهنا يرد عليهم إبراهيم - عليه السلام - بتهكم ظاهر، واستهزاء واضح فيقول: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } يعنى الذى تركه بدون تحطيم، فإن كنتم لم تصدقوا قولى { فَاسْأَلُوهُمْ } عمن فعل بهم ذلك { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } أى: إن كانوا ممن يتمكن من النطق أجابوكم وأخبروكم عمن فعل بهم ما فعل.
فأنت ترى أن إبراهيم - عليه السلام - لم يقصد بقوله هذا الإِخبار بأن كبير الأصنام هو الذى حطمها، أو سؤالهم للأصنام عمن حطمها، وإنما الذى يقصده هو الاستهزاء بهم، والسخرية بأفكارهم، فكأنه يقول لهم: إن هذه التماثيل التى تعبدونها من دون الله. لا تدرى إن كنت أنا الذى حطمتها أم هذا الصنم الكبير، وأنتم تعرفون أنى قد بقيت قريبا منها بعد أن وليتم عنها مدبرين، وإذا كان الأمر كذلك فانظروا من الذى حطمها إن كانت لكم عقول تعقل؟
قال صاحب الكشاف: هذا - أى قول إبراهيم لهم: بل فعله كبيرهم هذا - من معاريض الكلام، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الخاصة من علماء المعانى.
والقول فيه أن قصد إبراهيم - عليه السلام - لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه، وإثباته لها على أسلوب تعريضى، يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم.
وهذا كما لو قال لك صاحبك، وقد كتبت كتابا بخط رشيق - وأنت شهير بحسن الخط -: أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمى لا يحسن الخط، ولا يقدر إلى على خربشة فاسدة - أى كتابة رديئة - فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب، تقرير أن هذه الكتابة لك. مع الاستهزاء به...
وهذا التفسير للآية الكريمة من أن إبراهيم - عليه السلام - قد قال لقومه ما قال على سبيل الاستهزاء بهم، هو الذى تطمئن إليه قلوبنا، وقد تركنا أقوالا أخرى للمفسرين فى معنى الآية، نظرا لضعف هذه الأقوال بالنسبة لهذا القول.
وقوله - سبحانه -: { فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ } بيان للأثر الذى أحدثه رد إبراهيم - عليه السلام-.
أى: أنهم بعد أن قال لهم إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ }، أخذوا فى التفكر والتدبر، فرجعوا إلى أنفسهم باللوم، وقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون، حيث عبدتم مالا يستطيع الدفاع عن نفسه أو حيث تركتم آلهتكم بدون حراسة.
ولكن هذا الأثر، وهذا اللوم لأنفسهم، لم يلبث إلا قليلا حتى تبدد، بسبب استيلاء العناد والجحود عليهم، فقد صور القرآن حالهم بعد ذلك فقال: { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ }.
وقوله: { نُكِسُواْ } فعل مبنى للمجهول من النكس، وهو قلب الشىء من حال إلى حال، وأصله: قلب الشىء بحيث يصير أعلاه أسفله.
أى: ثم انقلبوا من لومهم لأنفسهم لعبادتهم لما لا يقدر على دفع الأذى عنه، إلى التصميم على كفرهم وضلالهم، فقالوا لإِبراهيم على سبيل التهديد: لقد علمت أن هذه الأصنام لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها؟ إن أمرك هذا لنا لهو دليل على أنك تسخر بعقولنا، ونحن لن نقبل ذلك، وسننزل بك العقاب الذى تستحقه.
وقد شبه القرآن الكريم عودتهم إلى باطلهم وعنادهم، بعد رجوعهم إلى أنفسهم باللوم، شبه ذلك بالانتكاس، لأنهم بمجرد أى خطرت لهم الفكرة السليمة، أطفأوها بالتصميم على الكفر والضلال، فكان مثلهم كمثل من انتكس على رأسه بعد أن كان ماشيا على قدميه، فياله من تصوير بديع لحالة من يعود إلى الظلام، بعد أن يتبين له النور.
والجملة الكريمة { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } جواب لقسم محذوف، معمول لقول محذوف، والتقدير: ثم نكسوا على رءوسهم قائلين: والله لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
ولم يملك إبراهيم إزاء انتكاسهم على رءوسهم، إلا أن يوبخهم بعنف وضيق، - وهو الحليم الأواه المنيب - وقد قابلوا تأنيبه لهم بتوعده بالعذاب الشديد، ولكن الله - تعالى - نجاه من مكرهم، قال - تعالى -: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ... }.