التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ
٦٦
أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٦٧
قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
٦٨
قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ
٦٩
وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ
٧٠
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ
٧١
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ
٧٢
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ
٧٣
-الأنبياء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: قال إبراهيم لقومه بعد أن ضاق بهم ذرعا: أتتركون عبادة الله الذى خلقكم، وتعبدون غيره أصناما لا تنفعكم بشىء من النفع، ولا تضركم بشىء من الضر، ثم يضيف إلى هذا التبكيت لهم، الضجر منهم، فيقول: { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }.
و "أف" اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر. وأصله صوت المتضجر من استقذار الشىء. واللام فى قوله { لَّكُمْ } لبيان المتضجر لأجله.
أى: سحقا وقبحا لكم، ولما تعبدونه من أصنام متجاوزين بها عبادة الله - تعالى - عن جهل وسخف وطغيان.
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ما أنتم فيه من ضلال واضح، فترجعون عنه إلى عبادة الواحد القهار.
وعندما وصل إبراهيم فى توبيخهم وتبكيتهم إلى هذا الحد أخذتهم العزة بالإِثم، شأنهم فى ذلك شأن كل طاغية جهول، يلجأ إلى القوة الغاشمة بعد أن تبطل حجته، فقالوا فيما بينهم: { حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }.
أى: قال بعضهم لبعض بعد أن عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة، وبعد أن رأوا إبراهيم قد أفحمهم بمنطقة الحكيم: { حَرِّقُوهُ } أى: بالنار، فإنها أشد العقوبات.
قيل: إن الذى اقترح عليهم ذلك هو رئيسهم: نمروذ بن كنعان. وقيل: هو رجل من الفرس اسمه: هينون.
وقوله: { وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ.. } بيان لسبب تحريقه بالنار.
أى: حرقوه بالنار من أجل الانتصار لآلهتكم التى حطمها فى غيبتكم { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ }.
أى: إن كنتم بحق تريدون أن تنصروا آلهتكم نصرا يرضيها، فاحرقوه بالنار.
قال صاحب الكشاف: أجمعوا رأيهم - لما غلبوا - بإهلاكه، وهكذا المبطل إذا قرعت شبهته بالحجة وافتضح. لم يكن أحد أبغض إليه من المحق ولم يبق له مفزع إلا مناصبته العداء، كما فعلت قريش برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عجزوا عن المعارضة.
والذى أشار بإحراقه: نمروذ، وعن ابن عمر: رجل من أعراب العجم. واختاروا المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه، ولذلك جاء: "لا يعذب بالنار إلا خالقها".
وقوله تعالى: { قُلْنَا يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ.. } مسبوق بكلام محذوف يفهم من سياق القصة.
والتقدير: وأحضر قوم إبراهيم الحطب، وأضرموا نيرانا عظيمة، وألقوا بإبراهيم فيها، فلما فعلوا ذلك، قلنا: يا نار كونى - بقدرتنا وأمرنا - ذات برد، وذات سلام على إبراهيم، فكانت كما أمرها الله - تعالى -، وصدق - سبحانه - إذ يقول:
{ بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وتحولت النار إلى برد وسلام على إبراهيم، وأراد الكافرون به كيدا، أى إحراقا بالنار "فجعلناهم" بإرادتنا وقدرتنا "الأخسرين" حيث لم يصلوا إلى ما يريدون، ولم يحققوا النصر لآلهتهم، بل رد الله - تعالى - كيدهم فى نحورهم.
وقال - سبحانه - { فَجَعَلْنَاهُمُ ٱلأَخْسَرِينَ } بالإِطلاق لتشمل خسارتهم كل خسارة سواء أكانت دنيوية أم أخروية.
وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات آثارا منها: أن إبراهيم - عليه السلام - حين جىء به إلى النار، قالت الملائكة: يا ربنا ما فى الأرض أحد يعبدك سوى إبراهيم، وأنه الآن يحرق فأذن لنا فى نصرته!!
فقال - سبحانه -: إن استغاث بأحد منكم فلينصره، وإن لم يدع غيرى فأنا أعلم به، وأنا وليه، فخلوا بينى وبينه، فهو خليلى ليس لى خليل غيره.
فأتى جبريل - عليه السلام - إلى إبراهيم، فقال له: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم!!
فقال له جبريل: فلم لا تسأله؟ فقال إبراهيم - عليه السلام -: حسبى من سؤالى علمه بحالى..
ثم بين - سبحانه - نعما أخرى أنعم بها على إبراهيم فقال: { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ }.
والضمير فى قوله: { وَنَجَّيْنَاهُ } يعود إلى إبراهيم. و "لوطا" هو ابن أخيه، وقيل: ابن عمه.
والمراد بالأرض التى باركنا فيها: أرض الشام على الصحيح وعدَّى { نَجَّيْنَاهُ } بإلى، لتضمينه معنى أخرجناه.
أى: وأخرجناه ولوطا إلى الأرض التى باركنا فيها، بأن جعلناها مهبطا للوحى، ومبعثا للرسل لمدة طويلة، وبأن جعلناها كذلك عامرة بالخيرات وبالأموال وبالثمرات للأجيال المتعاقبة.
والآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط - عليهما السلام - من أرض العراق التى كانا يقيمان فيها، إلى أرض الشام، فرارا بدينهما، بعد أن أراد قوم إبراهيم أن يحرقوه بالنار، فأبطل الله - تعالى - كيدهم ومكرهم، ونجاه من شرهم.
وقد أشار - سبحانه - إلى ذلك فى آيات أخرى منها قوله - تعالى -:
{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ... } وقوله - تعالى - { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً... } بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم الله - سبحانه - بها على إبراهيم.
والنافلة: الزيادة على الأصل. ولذا سميت صلاة السنن نافلة، لأنها زيادة على الصلوات المفروضة. وإسحاق هو ابن إبراهيم. ويعقوب هو ابن إسحاق.
فلفظ "نافلة" حال من يعقوب أى: ووهبنا لإبراهيم يعقوب حال كونه زيادة على إسحاق. { وَكُلاًّ } من المذكورين وهم إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب.
{ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } أى: جعلناهم أفراداً صالحين، لأن وفقناهم لما نحبه ونرضاه، وشرفناهم بالنبوة والرسالة.
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أى: وجعلنا هؤلاء المذكورين، أئمة فى الخير، يهدون ويرشدون غيرهم إلى الدين الحق بسبب أمرنا لهم بذلك، وتكليفهم بتبليغ وحينا إلى الناس.
قال صاحب الكشاف: قوله - سبحانه -: { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } فيه أن من صلح ليكون قدوة فى دين الله، فالهداية محتومة عليه، مأمور بها من جهة الله ليس له أن يخل بها، ويتثاقل عنها، وأول ذلك أن يهتدى بنفسه، لأن الانتفاع بهداه أعم، والنفوس إلى الاقتداء بالمهدى أميل".
وقوله: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ ٱلْخَيْرَاتِ } أى: وأوحينا إليهم أن يفعلوا الطاعات، وأن يأمروا الناس بفعلها، وأوحينا إليهم كذلك { وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَـاةِ } أى: أن يقيموا الصلاة وأن يؤدوا الزكاة وأن يأمروا غيرهم بذلك.
وعطف إقام الصلاة وإيتاء الزكاة على فعل الخيرات من باب عطف الخاص على العام. للاهتمام به إذ الصلاة أفضل العبادات البدنية والزكاة أفضل العبادات المالية { وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } لا لغيرنا، فهم لم يخطر ببالهم عبادة أحد سوانا، لأنهم من المصطفين الأخيار.
هذا، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة التى وردت فى قصة إبراهيم مع قومه. يراها قد حكت لنا غيرة إبراهيم - عليه السلام - على دين الله - تعالى - وقوة حجته فى الدفاع عن الحق، ومجاهدته بما يعتقده بدون خوف من قومه، وجمعه فى دعوته بين القول والعمل.
كما يراها قد بينت لنا أن من يدافع عن دين الله - تعالى - يدافع الله - سبحانه - عنه، وينصره على أعدائه، ويرد كيدهم فى نحورهم.
كما يراها - أيضا - قد أشارت إلى أن من هاجر من أرض إلى أخرى من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى - رزقه الله نظير ذلك الخير والبركة، والذرية الصالحة التى تهدى غيرها إلى الطريق المستقيم.
ثم ساق - سبحانه - جانبا من قصة لوط - عليه السلام - مع قومه فقال - تعالى -: { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ... }.