التفاسير

< >
عرض

وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٨
-الأنبياء

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمراد بذى النون: يونس بن متى - عليه السلام -، والنون: الحوت. وجمعه نينان وأنوان. وسمى بذلك لابتلاع الحوت له.
قال - تعالى -:
{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ.. } وملخص قصة يونس " أن الله - تعالى - ارسله إلى أهل نينوى بالعراق فى حوالى القرن الثامن قبل الميلاد، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله - عز وجل - فاستعصوا عليه، فضاق بهم ذرعا، وتركهم وهو غضبان ليذهب إلى غيرهم، فوصل إلى شاطىء البحر، فوجد سفينة فركب فيها، وفى خلال سيرها فى البحر ضاقت بركابها، فقال ربانها: إنه لا بد من أحد الركاب يلقى بنفسه فى البحر لينجو الجميع من الغرق. فجاءت القرعة على يونس، فألقى بنفسه فى اليم فالتقمه الحوت.. ثم نبذه إلى الساحل بعد وقت يعلمه الله - تعالى -، فأرسله - سبحانه - إلى قومه مرة أخرى فآمنوا.
وسيأتى تفصيل هذه القصة فى سورة الصافات - بإذن الله -.
والمعنى: واذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ - عبدنا ذان النون. وقت أن فارق قومه وهو غضبان عليهم، لأنهم لم يسارعوا إلى الاستجابة له.
قال الجمل: وقوله: { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } أى: غضبان على قومه، فالمفاعة ليست على بابها فلا مشاركة كعاقبت وسافرت، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة، أى غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا فى أول الأمر".
وقوله - تعالى -: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } بيان لما ظنه يونس - عليه السلام - حين فارق قومه غاضبا عليهم بدون إذن من ربه - عز وجل -.
أى: أن يونس قد خرج غضبان على قومه لعدم استجابتهم لدعوته فظن أن لن نضيق عليه، عقابا له على مفارقته لهم من غير أمرنا، أو فظن أننا لن نقضى عليه بعقوبة معينة فى مقابل تركه لقومه بدون إذننا.
فقوله: { نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } بمعنى نضيق عليه ونعاقبه. يقال: قدر الله الرزق يقدره - بكسر الدال وضمها - إذا ضيقه. ومنه قوله - تعالى -:
{ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } وقوله: { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ.. } أى: ضيقه عليه.
ثم بين - سبحانه - ما كان يردده يونس وهو فى بطن الحوت فقال: { فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ.
والفاء فى قوله { فَنَادَىٰ } فصيحة.
والمراد بالظلمات: ظلمات البحر، وبطن الحوت، والليل.
أى: خرج يونس غضبان على قومه. فحدث له ما حدث من التقام الحوت له، فلما صار فى جوفه المظلم، بداخل البحر المظلم، أخذ يتضرع إلينا بقوله: أشهد أن لا إله إلا أنت يا إلهى مستحق للعبادة، { سُبْحَانَكَ } أى: أنزهك تنزيها عظيما { إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } لنفسى حين فارقت قومى بدون إذن منك. وإنى أعترف بخطىء - يا إلهى - فتقبل توبتى، واغسل حوبتى.
هذا وقد ذكر ابن جرير وابن كثير وغيرهما من المفسرين هنا روايات متعددة عن المدة التى مكثها يونس فى بطن الحوت، وعن فضل الدعاء الذى تضرع به إلى الله - تعالى -، ومن ذلك ما رواه ابن جرير عن سعد بن أبى وقاص - رضى الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"بسم الله الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل به أعطى، دعوة يونس بن متى. قال: قلت: يا رسول الله، هى ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هى ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة، إذا دعوا بها. ألم تسمع قول الله - تعالى -: { فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } فهو شرط من الله لمن دعاه به" .
ثم بين - سبحانه - أنه قد أجاب ليونس دعاءه فقال: { فَٱسْتَجَبْنَا لَه } أى: دعاءه وتضرعه { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ } أى: من الحزن الذى كان فيه حين التقمه الحوت وصار فى بطنه.
وقد بين - سبحانه - فى آية أخرى، أن يونس - عليه السلام - لو لم يسبح الله لبث فى بطن الحوت إلى يوم البعث. قال - تعالى -:
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وقوله - تعالى -: { وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } بشارة لكل مؤمن يقتدى بيونس فى إخلاصه وصدق توبته، ودعائه لربه.
أى: ومثل هذا الإِنجاء الذى فعلناه مع عبدنا يونس، ننجى عبادنا المؤمنين من كل غم، متى صدقوا فى إيمانهم، وأخلصوا فى دعائهم.
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك جانبا من قصى زكريا ويحيى فقال - تعالى -: { وَزَكَرِيَّآ إِذْ.... }.